عن منشورات مواعيد بصنعاء، صدر للكاتب عبدالرقيب الوصابي كتاب عنوانه (شطرنج المتعدد)، مشتملًا على مجموعة من المقالات التي تقارب تجربة الشاعر والكاتب علوان الجيلاني، وتوزعت تحت عددٍ من العناوين: (رقعة التكوين، شطرنج الشعر، شطرنج السرد، شطرنج النقد، شطرنج الحوار، شطرنج التصوف، شطرنج الشفاهيات، خانة إليك)، وهي مجمل المساحات التي يتحرك بها الجيلاني بوصفه مثقفًا وكاتبًا.
يقول صلاح الأصبحي في مقدمته للكتاب:
"من الهامش الثقافي والاجتماعي التهامي، انبثق علوان, كمبدع تحدى هذا التموضع الثقافي الهامشي قاصدًا صنعاء كتمركز ثقافي وإبداعي، محاولًا كسر هيمنة النسق الثقافي, وإثبات وجوده كذات مبدعة تنتمي لذلك الهامش البعيد, الهامش الخصب الذي يغفل أرباب الثقافة والسياسة عمقه وعبقه وتاريخه الزاخر بحيوية الثقافة وتشربها كسلوك اجتماعي, وجزء أصيل من الهوية والتكوين الاجتماعي, ففي ذلك الهامش تمارس الثقافة كوعي وسلوك وأسلوب حياة, وليس كترف أو تسلية؛ بل كإلحاح وحاجة ماسة يتطلبه نمط الحياة والواقع هناك, وتفرضه أدبيات الوجود منذ قرون.
كان للناقد والكاتب عبدالرقيب الوصابي، فضل السبق في الوصول باكرًا لعالم الجيلاني, في هذه الظروف العمياء التي نشهد فيها موتًا حقيقيًّا في المشهد الثقافي اليمني, وغيابًا تامًّا لكل ما يتعلق بالثقافة, وإنكارًا وطمسًا لهويتنا الثقافية كمجتمع, والغرق في مستنقع العمى الثقافي الذي أبعدنا عن شؤون الإبداع ورموز الثقافة, لكن ما فعله الوصابي عن علوان في هذا الكتاب أمر ذو شأن كبير, من تقديمه صورة قرائية عنه, وفتح مغاليقه, والولوج إلى آفاقه, وإرشاد القارئ وتعريفه بتجربة إبداعية لامعة.
من بين اللمسات القرائية التي اهتم بها الكاتب وقادته لقراءة علوان كحادثة ثقافية، التركيز على بداياته أو ما أسماه "رقعة التكوين" متخذًا منها مدخلًا إجرائيًّا لتفكيك وتفنيد الأبعاد الثقافية لعلوان، كما في قوله: "ربما يكون واحدًا من أكثر الشعراء المبدعين والأدباء المثقفين عامة الذين يمكن اعتبارهم مثالًا واضحًا، أو أنموذجًا مميزًا، لتأثير سنوات التكوين وقدرتها على عكس مجرياتها في حياته عامة، وفي إبداعه بشقيه الشعري والروائي، واشتغالاته في ميادين النقد والسير والتصوف والفنون الشفاهية وغيرها من الممارسات الكتابية والبرامج المصورة أو حتى في طرائق مثاقفاته التي لا تتوقف فيها تدفقاته عند حد", وهذا الإجراء القرائي الدقيق هو بالفعل مفتاح مهمّ لتفسير سرّ التنوع والثراء الإبداعي لعلوان, وتميزه عن أبناء جيله.
ولعل أهم المنطلقات التي جسّدها كتاب شطرنج المتعدد، تركيزه على الصراع النسقي الذي تدور حوله، وفيه تجربة علوان الإبداعية القائمة على محاولة كسر هيمنة نسق المركز والتصدي له بنسق مضادّ متمثّل بإثبات وجود الذات المبدعة القادمة من خارج الدائرة النسقية المهيمنة وغير الخاضعة لاشتراطاته؛ فنلمح إشارته العابرة لهذا الأمر وتعليقه على ذلك بقوله: "وتلفت الجيلاني ليجد نفسه مثالًا لمعانٍ كثيرة صار هو رمزًا لها، معانٍ تُهمش وتُستبعد وتُحارب وتُظلم ويتم التنكر لها رغم غناها وثروتها الثقافية الهائلة، هنا حضر تاريخ التصوف، وحضر التراث التهامي، ليشكلا بوابة لحرائقه", فكان ثراء الموهبة العلوانية ردة فعل لصد نظرة الازدراء والانتقاص التي يبعثها المركز, ويتعالى من خلالها على أي نموذج مغايرٍ وعيًا وجذورًا وتجريبًا.
ومن خلال تفحص محاور هذا الكتاب، نجدها لا تحيد عن هذا التصور الأفقي الذي يلفت الانتباه باحترافية ومهارة كاتب متمرس صاحب رؤية ثقافية ثاقبة, "الوردة تفتح سرتها" وتمركز الأنثى في التجربة الشعرية, خطاب المتشكل الإبداعي في رواية السيرة الغيرية: رواية "أروفيوس المنسي" أنموذجًا, قمرٌ في الظل: فلسفة الهامش والكتابة بلغة الأساطير, عندما يتحول الوجود إلى جرح ينزف شعرًا: مقاربة لكتاب (الحضراني في الرمال العطشى), بين الحفر الأنثروبولوجي ونوستالجيا الحنين"، فهي في المجمل تدور في فلك قطب التمركز/ التهميش, سواء في شعره أو سرده أو في نقده أو في أدبه الشفاهي ذي الطابع الأنثروبولوجي التوثيقي الذي يطمح علوان إلى الإمساك به قبل انزلاقه نحو هاوية الضياع والنسيان".