ابتسامة خلفها الكثير من الحزن ترتسم على وجه أمنية 14 عامًا، وهي تستعد لتزف عروسًا خلال الأشهر المقبلة إلى حياة مجهولة لا تعرف كيف تتعامل معها؟
لكنها تتمنى أن يسعد زواجها قلب أم غارق بالحزن، وجسد أنهكته جرعات علاج السرطان، وسنوات من العمل الشاق.
لم يكن من السهل على أم أمنية –اسم مستعار بناء على طلبها- الموافقة على زواج طفلتها، بيد أنها تتمنى أن تجد حياة أفضل من العيش بدكان يشبه القبر، وفقر حرمها من الحياة كغيرها من الفتيات اللواتي في مثل عمرها.
تطلقت أم أمنية التي تنتمي إلى أسرة فقيرة في قرية نائية بمحافظة تعز، وطفلتها ما تزال في عامها الثاني، وأخوها يكبرها بسنة واحدة. تقول إنها رفضت التفريط بهما لأنها تعلم أنهما لن يجدا الرعاية عند الأب، ولن يلقوا إلا القسوة والعنف.
عمل ريفي شاق
في مجتمع ريفي تنعدم فيه فرص العمل، لم يكن أمام الأم سوى عرض خدماتها على الأسر التي تحتاج لأيدي عاملة في الزراعة أو في البيوت. وفيما انصرف الأب لحياته الجديدة، بقيت الأم تكد وتعمل فوق طاقتها مقابل أجر زهيد ومساعدات عينية، أو وعود آجلة أكثرها لا تأتي.
لسنين ظلت أم أمنية تخرج في الصباح الباكر للعمل الشاق تحت أشعة الشمس الحارقة، وقلبها معلق بطفلين تركتهما في غرفة صغيرة في منزل والدها، إلا أنها تنسى كل مواجعها عندما تعود، وترى الابتسامة على وجهيهما، وتضمهما إلى صدرها.
تكبر أمنية وتدرك إهمال والدها، لكنها لا تحمل حقدًا عليه، وببراءة تجري للقائه كلما سمعت بمروره بقرية والدتها، وتحلم أن ترمي جسدها عليه، ويضمها إلى صدره لتحس بعاطفة الأبوة، إلا أنها غالبًا ما تصاب بخيبات الأمل والتهميش، وتعود مكسورة الجناح.
تقول أمنية: "كنت أشعر بالحزن لما أشوف بنت تلعب وتضحك مع أبوها لكن خلاص تعودت".
فاجعة جديدة
كفاح مرير مقابل الفتات ولقمة جافة مغمسة بالماء والعرق، لم يثنِ الأم عن إلحاق طفلتها بالتعليم، ومساواتها بأخيها، فعملت بجد واقتصدت في وجبات الطعام، لتوفير مستلزمات الدراسة، وظلت ترجو الله أن يمدها بالعون والقدرة على تربيتهما.
إلا أن أوقات صعبة وظروفًا أقسى كانت تنتظر الأسرة عند إصابة الأم بسرطان الثدي قبل أربع سنوات. بقيت تصارع المرض والألم وحيدة من دون أي دعم من الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني سوى سلة غذائية شهرية من برنامج الأغذية العالمي.
لم تكن أمنية تدرك حينها حجم الفاجعة، وفرحت بالانتقال إلى شقة صغيرة في مدينة تعز تكفّل بإيجارها فاعل خير للقرب من العلاج، بيد أن المساعدة توقفت، وطُردوا من المنزل بلا رحمة، فانتقلوا إلى دكان صغير تنعدم فيه أبسط وسائل الحياة. كادت أمنية خلال هذه الفترة أن تصاب بالعمى، وتركت والدتها علاج السرطان، وتوسلت كل أقاربها الميسورين مساعدتها.
تنسى أم أمنية التفكير في مرضها وجسدها المنهك من الجرعات الكيمائية، حين تنظر إلى طفلتها وكأنها تودعها، وتتساقط دموعها بغزارة كلما فكرت بمصيرها بعد رحيلها عن الدنيا، وتحاول أن تستجمع قواها وتبتسم، وتغمرها بكل مشاعر الحب والحنان.
تقول بصوت مخنوق بالأسى: "لا أخاف من الموت لأنه سيريحني من العناء، لكن أخاف على أمنية وما ستعانيه بعدي، وصحيح أني أخاف على أحمد أيضًا، لكنه ولد وسيكبر ويصير رَجّال، ويقدر يعتمد على نفسه".
تتجهز أمنية للزواج ودخول نفق مظلم ومستقبل مجهول، وربما تصير واحدة من عرائس الموت بسبب مضاعفات الحمل والولادة، في بلد يحتل المرتبة 14 بين الدول التي تنتشر فيها الظاهرة
تنهمر الدموع من عينيها بغزارة وتضيف: " لن يكون مصيرها لو تزوجت صغيرة أقسى مما لو أموت واتركها وحيدة".
سباق نحو المجهول
ليست أمنية إلا واحدة من بين 14% من الفتيات اللاتي يتزوجن قبل سن 15 سنة، بحسب استبيان أجرته وزارة الصحة اليمنية ومنظمة اليونيسيف في 2006. وعلى الرغم من أنه لا توجد إحصائيات حقيقية عن الظاهرة، إلا أن تقرير مكتب تنسيق الأمم المتحدة في اليمن (أوتشا)، الصادر في مايو/ أيار 2019، أكد أن الظاهرة ارتفعت بسبب الحرب إلى نحو ثلاثة أضعاف بين عامي 2017 و2018.
ولا يوجد سند قانوني في اليمن يحمي أمنية ورفيقاتها من محرقة الزواج المبكر بعد أن فشلت كل المحاولات التي بلغت ذروتها في 2010، في البرلمان، من استصدار قانون يحدد سن الزواج، على الرغم من أن اليمن صادقت على الكثير من المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تحظر زواج الصغيرات منها اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
صارت أمنية أكثر نضجًا، ووجدتها أمها مرات عديدة تبكي بصمت على فراشها في الليل، وتتألم على والدتها، مما جعلها تتظاهر بالفرحة بالزواج، وترى أن زواجها سيرفع عن والدتها عبئًا ثقيلًا، بحسب أم أمنية.
تتجهز أمنية للزواج ودخول نفق مظلم ومستقبل مجهول، وربما تصير واحدة من عرائس الموت بسبب مضاعفات الحمل والولادة، في بلد يحتل المرتبة 14 بين الدول التي تنتشر فيها الظاهرة، بحسب اتحاد نساء اليمن. ويؤكد تقرير الاتحاد- "عرائس الموت"، الصادر في 27 أغسطس/ آب 2018، أن ما يقارب 47.2% من وفيات الأمهات ضحايا لزواج الصغيرات، أو تكون ضمن مليوني طفل في سن التعليم خارج المدارس أغلبهم من الفتيات، إلا أن الأم تتمنى أن تنجو صغيرتها من الفقر والتشرد. فهل سيكون الزواج لأمنية طوق نجاة، أم حبل مشنقة؟
"تم إنتاج هذه المادة من قبل شبكة إعلاميون من أجل طفولة آمنة التي يديرها مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي وبتمويل من اليونيسف (منظمة الطفولة)".
تنشر هذه المادة بمناسبة #اليوم_العالمي_للطفل وفقًا لتفاهم بين منصة "خيوط" وشبكة "إعلاميون من أجل طفولة آمنة".