في إحدى القرى المتناثرة على قمة جبل صبر، بمحافظة تعز، جنوبي اليمن، اتخذت وردة سيف قرارًا استثنائيًّا، سيغير تفكير أهالي قريتها كليًّا. لم تكن أخبرت أحدًا بقرارها الذي احتاج منها أيامًا عديدة لاستجماع قواها؛ من أجل التحدث مع أهلها بما تنوي القدوم عليه.
الفتاة العشرينية يومها، أعلنت تمردها على محيطها، المحكوم في إطار العادات والتقاليد المتحكمة بكل شيء، ولا تملك من الأمر سوى التسلح بالعزيمة والإصرار حتى تحصل على ما تريد.
ما إن تحدثت إلى إخوانها حتى انفجروا في وجهها رافضين قرارها، خشية الوصم الاجتماعي، وما سيقوله أهالي قريتهم عن أختهم التي اختارت مسارًا مهنيًّا غير معهود. عن كثب كان الأب يراقب الموقف، وسرعان ما قرر التدخل، وبصوت عالٍ: "لا أحد له علاقة بوردة، أنا هنا، وأؤيد قرارها".
إثبات ذات
موقف الأب كان فارقًا، لم تجد وردة ما يمكن أن يفيه موقفه الداعم هذا، سوى ابتسامة مصحوبة بعينين دامعتين، وهو التعبير ذاته الذي استعانت به للتعبير عن البهجة التي غمرتها للتو، وهي تتذكر.
كان هذا عام 2003، عندما قررت وردة الالتحاق بالدفعة الثالثة من الشرطة النسائية بكلية الشرطة في صنعاء. بعدها بسنة كانت أختها ترافقها في الكلية ذاتها دون أن يعترض أحد.
أثبتت وردة نفسها على مدى سنوات الدراسة والعمل الميداني كشرطية، وسرعان ما أصبحت ذات مكانة مختلفة في أوساط مجتمعها المغلق، الذي تقبّل الفكرة شيئًا فشيئًا، حتى بات إخوانها والمعترضون من أهلها وأهالي قريتها يعودون إليها عند الوقوع في أي مشكلة. تقول وردة لـ"خيوط": "استطعت أن أغير نظرة مجتمعي، وأثبتُّ نفسي بجدارة، واليوم لي مكانتي الاعتبارية في القرية، أنا سعيدة بما أنا عليه اليوم"، هكذا تعبّر وردة عما حققته، وبنبرة متفائلة تتطلع لدور أكبر في ظل ما أسمته بالتفهم المجتمعي الحالي لدور الشرطة النسائية أكثر من أي وقت مضى.
تفيد دراسة أعدها في 2014، المركز اليمني لقياس الرأي العام، بأن 2868 امرأة فقط يعملن في جهاز الشرطة، مقابل قرابة 196 ألف رجل
قيود اجتماعية
منذ سنة 2000، صار بإمكان النساء في اليمن الانضمام إلى الشرطة، ليصبحن بعد ذلك جاهزات للقيام بالمهام المناطة بهن ميدانيًّا ومكتبيًّا.
لكن دراسة أعدها في 2014، المركز اليمني لقياس الرأي العام، قالت إن 2868 امرأة فقط يعملن في جهاز الشرطة، مقابل قرابة 196 ألف رجل، أي أن النساء يشكلن فقط 1.7% من مجموع منتسبي الشرطة اليمنية.
الدراسة توصلت أيضًا إلى أن 61% من بين المؤيدين لفكرة أن يكون هناك ضابطات شرطة نساء في اليمن، يؤيدون ذلك للتعامل مع النساء، و56% لا يؤيدون انضمام إحدى قريباتهم إلى الشرطة، وعزت الدراسة النفور الحاصل بشكل أساسي إلى العادات والقيم الاجتماعية بخصوص أدوار الجنسين المحددة اجتماعيًّا بنسبة 31.5%.
ولا توجد إحصائيات جديدة منذ ذلك التاريخ، خاصة أن عمل الأجهزة الأمنية النسائية شبه متوقف بسبب الحرب.
في تعز توجد 215 شرطية أربع منهن برتبة نقيب، وعشر أخريات برتبة ملازم ثاني، بحسب ليلى الناشري، وهي ضابطة برتبة نقيب، ومدير إدارة حماية الأسرة بشرطة تعز لـ"خيوط".
تضيف ليلى: "اليوم نحن نتواجد في كافة الإدارات، ونقوم بدورنا على أكمل وجه، رغم أن الوضع الراهن قيّدنا وجعلنا نعمل في نطاق محدد، إلا أننا نواجه ذلك بالتحدي والإصرار، ونقوم بواجبنا من منطلق المسؤولية الإنسانية، وبما يمليه علينا واجبنا الوطني تجاه شرائح المجتمع".
ولا تخفي ليلى امتعاضها من النظرة المجتمعية القاصرة، التي كانت ترفض وجود الشرطة النسائية تمامًا، ما تسبب لهن بالعديد من الصعوبات أثناء عملهن، "ولكن ذلك لم يدُم طويلًا، فقد أثبتنا وجودنا، حتى أصبح المجتمع هو الذي يبحث عنا لما حققناه من منجزات ملموسة"، تنهي ليلى حديثها.
ضرورة مجتمعية
أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، الدكتور محمود البكاري، دعا المجتمع للتخلي عن النظرة الدونية لعمل النساء في سلك الشرطة، وإلى إعطاء الموضوع حقه من الاهتمام؛ كون المرأة جزءًا أساسيًّا من المجتمع. ولذلك، حسب البكاري، من الخطأ أن يمارس المجتمع هذه الأخطاء ضد نفسه، واصفًا دور الشرطة النسائية بالعمل الأمني الذي له نظمه وقوانينه ومؤسساته وتجهيزاته، وليس فيما يقمن به ما يعيب أو يخدش الحياء العام، فهي ضرورة مجتمعية لحفظ الأمن والاستقرار في البلاد.
ويرى البكاري في حديثه لـ"خيوط" أن "الجميع مطالبون بتغيير النظرة التقليدية القائمة على أساس العادات والتقاليد الاجتماعية، من خلال وسائل الإعلام بمختلف وسائله، ونشر الوعي المجتمعي بأهمية دور الشرطة النسائية في حماية الأمن والسلم الاجتماعي".
وتتفق معه مها عون، ناشطة ومدربة في قضايا المرأة والعنف القائم على النوع الاجتماعي، موجهةً رسالة عبر "خيوط"، للمجتمع الذي اتهمته بأنه ينظر للشرطيات كمتجردات من الأنوثة، مرسخًا الاعتقاد بأن ما يقمن به منافٍ للفطرة.
وتضيف: "يجب ألّا يحدد المجتمع ما الذي بإمكان المرأة عمله، ولا يعنيه إن كان هذا يناسب المرأة أو لا، ففي كل الأحوال للمرأة دورها المحوري الذي لا غنى عنه، وهو ما ينطبق على الشرطة النسائية أيضًا".
وتقترح عون عقد ورش تدريبية توعوية حول ضرورة التماسك المجتمعي، وتثقيف المنتسبين للأجهزة الأمنية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي، وعكس ذلك بتطوير خطط اتصال داخلية وخارجية تشاركية بين المنتسبين للشرطة من الجنسين وبين المجتمع، على أن يُبنى ذلك بإظهار نماذج نسوية لها أدوار إيجابية وبصمات فاعلة في إطار عملها الأمني، بحسب قولها.
تُلقي الأوضاع التي تمر بها اليمن منذ ست سنوات بظلالها على عمل الشرطة النسائية في الميدان، لكن ذلك لا يعني الاستسلام بالنسبة للنقيبة ليلى؛ فدافع حبها لخدمة الناس والمجتمع كافٍ من وجهة نظرها للاستمرار
تعزيز قدرات
وفي إطار إحداث تطور نوعي، نفذت المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي مشروع تعزيز وبناء قدرات الشرطة النسائية في اليمن. المشروع الممول من مملكة هولندا يهدف إلى تعزيز جهود السلام والأمن في اليمن، من خلال بناء قدرات وحدة الشرطة النسائية في وزارة الداخلية.
تقول سماح يوسف، منسقة أنشطة المشروع في المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، حول هذا لـ"خيوط"، إن المشروع يعمل لتحسين قدرة 700 شرطية يمنية؛ للحفاظ على النظام والقانون، وفقًا لمعايير حقوق الإنسان، وقواعد تحقيق العدالة، إضافة إلى إزالة المعيقات التي تحول دون الإبلاغ عن الجرائم من قبل النساء.
كما يسعى المشروع إلى تحسين المعايير الدولية وأفضل الممارسات لضمان تكافؤ فرص العمل للمرأة في قوات الشرطة.
ومن أجل ذلك عُقدت ورش تدريبية وتأهيلية على المستويين المحلي والخارجي؛ لتنمية قدرات الشرطيات المستهدفات، ولحشد الدعم والمساندة وصناعة رأي عام مؤيد، عبر ورش تدريبية لصحفيين وناشطين إعلاميين من محافظات يمنية عدة.
من جهتها ترى مسك المقرمي، ناشطة مجتمعية، أن مثل هكذا مشاريع لها أبعادها المستقبلية التي تعود إيجابًا على المجتمع، ولا تخفي مسك، أثناء حديثها لـ"خيوط"، تطلعها لأن تكون ضمن قوام الشرطة النسائية، لكنها -حسب قولها- اصطدمت بمتغيرات عدة بسبب الحرب التي تشهدها البلاد، ورغم ذلك ما زالت تتمسك بشغفها الذي تأمل أن يتحقق ذات يوم.
لا استسلام
وتُلقي الأوضاع التي تمر بها اليمن منذ ست سنوات بظلالها على عمل الشرطة النسائية في الميدان، لكن ذلك لا يعني الاستسلام بالنسبة للنقيبة ليلى؛ فدافع حبها لخدمة الناس والمجتمع كافٍ من وجهة نظرها للاستمرار، وبثقة تضيف مدير إدارة حماية الأسرة بشرطة تعز: "لا يستطيع المجتمع أن يستغني عن دورنا نهائيًّا، أثبتنا حضورنا، وغيّرنا نظرته تجاهنا، ولمس ما نقوم به فعلًا، وهو ما كسر العديد من الحواجز المصطنعة بيننا وبينه".
أما المساعدة وردة سيف، وهي تستحضر المخاض العسير لموافقة أسرتها على قرارها بالذهاب إلى كلية الشرطة، تتحدث لـ"خيوط" عن مئات الفتيات اللواتي يأملن في الحصول على فرصتهن لخدمة مجتمعهن عبر السلك الأمني، وهذا بالنسبة لها انتصار لمسارها وزميلاتها الأوليات اللواتي تحملن صعوبات جمّة؛ لانتزاع حقهن في تحديد مسارهن المهني، بعيدًا عن الإملاءات الأسرية والقيود المجتمعية.
وتساهم الشرطة النسائية في حفظ الأمن من خلال أدوار عدة تقوم بها في مختلف الإدارات الأمنية والأماكن العامة والمناطق الحيوية التي تستوجب تواجدها.