اتصالًا بالحديث عن دور المرأة في الجنوب في صناعة قرار وانتزاع حق الاستقلال، ينبغي علينا الوقوف على الفترة السابقة لمرحلة الكفاح المسلح التي مهّدت للمرأة طريق النضال.
ظل الاشتغال على تحسين وضع المرأة في عدن مطلبًا لا يفتر، وكان التعليم هو المطلب الأساسي؛ لأن تعليم المرأة سيكون الفاعل الأساسي لخلق وعي ثقافي للمرأة، ويفتح لها آفاقًا كثيرة
بعد إلحاح من قبل النخبة المثقفة التي ساندت طلب المرأة، فافتتحت أول مدرسة ابتدائية للبنات 1941، في مدينة الشيخ عثمان، وكانت شاملة لكل "مستعمرة عدن". ثم جاءت الخطوة الثانية التي تحققت للمرأة وهي الكتابة الصحفية، التي وجدت المرأة فيها فرصتها في إفراغ شحنة رفضها لوضعها المترهل في فترة الاحتلال حين أصدر المفكر التنويري محمد علي لقمان مجلة "فتاة الجزيرة" سنة 1940، فتسارعت الأقلام النسائية للكتابة فيها بأسماء صريحة ووهمية، حسب ما تقتضيه طبيعة الموضوع ووضع كاتبته.
وقد كانت رضية إحسان الله أولى المشتغلات بالهمّ الكتابي، واتّخذته وعاءً يستوعب طاقتها الفكرية والوطنية، وبدت رضية في الكتابة الصحفية قلمًا واعيًا واعدًا يؤسس خطابًا نسويًّا جادًّا في تناوله لمجمل الهموم التي تعترض معيشة المرأة المثقلة بالقيود الاجتماعية، كقضية الحجاب والعمل والحقوق السياسية للمرأة، كما اتسمت كتابات المرأة العدنية باتصالاها بالتحولات التحررية التي خاضتها البلاد العربية، كمصر وسوريا.
النوادي الاجتماعية للسيدات
يعتبر نادي سيدات عدن، الذي أنشأته الإدارة البريطانية، أحد المتنفسات الاجتماعية التي استطاعت المرأة العدنية من خلاله خلق علاقات ذات نسيج اجتماعي مختلف، واكتساب مهارات وأنشطة مختلفة، كتعليم اللغة الإنجليزية والخياطة والتطريز والطبخ، لكن النهج الثقافي للنادي كان بعيدًا عن احتياجات المرأة العدنية؛ بسبب هيمنة الثقافة الأجنبية وسيطرتها على إدارة النادي، ولأن طبيعة الأنشطة فيه لم تحقق ذلك الانسجام والتوافق مع الغليان الوطني الذي كانت تتشبع فيه السيدات العدنيات وقتها، واللاتي كن يبحثن عن كوة نور ينطلقن منه للتحرر والتطور وتحقيق أهدافها.
في هذا النادي ارتفعت أول صرخة: "لا" للسياسة البريطانية، حين اتفقت مجموعة السيدات على تشكيل مندوبات لإبلاغ إدارة النادي برغبتهن بتغيير الرئاسة الإنجليزية أو الانسحاب، وكان الرفض ردًّا والانسحاب موقفًا. ثم أنشأت السيدة رقية ناصر جمعية أخرى "جمعية المرأة العدنية"، كانت هذه الجمعية أكثر انفساحًا في العمل الوطني، نفذت فيه رضية إحسان وصافيناز خليفة ومجموعة من السيدات الوطنيات مسيرة المطالبة بخلع الحجاب، باعتباره عائقًا يحول دون مشاركة المرأة الفعالة في الخروج للعمل والمشاركة الميدانية.
قادت النساء في عدن مسيرة 24 سبتمبر 1962، ضد سلطات الاحتلال البريطاني، بعد أن حاصرت المخابرات قادة المسيرة من الرجال في منزل خليفة عبدالله حسن، فانطلقن كالموج الهادر من مقهاية "زكو" صوب المجلس التشريعي، وانضم معهن أفراد كثر من الشعب، وكانت الطائرات ترمي بقنابل حارقة وأخرى مسيلة للدموع، واستخدم الجنود العصي لضرب المتظاهرين
جمعية المرأة العربية 1960
أنشأتها المناضلة رضية إحسان الله ومجموعة من السيدات الوطنيات، كنّ قد اكتسبن خبرة في إدارة الأندية الاجتماعية، وكان طابع هذه الجمعية سياسيًّا مغلفًا بصبغة العمل الاجتماعي الخيري، لإبعاد الشبهة عن الجمعية وأنشطتها، ولتكن بمأمن عن أعين جنود الاحتلال.
نفذت نساء هذه الجمعية أكبر وأخطر مسيرة للزحف إلى المجلس التشريعي، إعلانًا عن رفض الشعب لاتفاقية الاتحاد الفيدرالي في 24 سبتمبر 1962، وكانت خطة المسيرة قد وضعتها قيادة المؤتمر العمالي، إلا أن سلطات الاحتلال اعتقلت أبرز قادة المؤتمر، فانبرى رجال الصف الثاني ونساء الجمعية لقيادة المسيرة. تجمعت النساء في فندق إحسان، والرجال في منزل خليفة عبدالله حسن خليفة، لكن رجال المخابرات حاصروا الرجال المجتمعين بمنزل خليفة، ووجدت المرأة نفسها مسؤولة عن تنفيذ المسيرة، فانطلقن كالموج الهادر من مقهاية "زكو" صوب المجلس التشريعي، وانضم معهن أفراد كثر من الشعب، وكانت الطائرات ترمي بقنابل حارقة وأخرى مسيلة للدموع، واستخدم الجنود العصي لضرب المتظاهرين.
قادت المرأة مسيرة الرفض في غياب الرجال القسري، وأحدثت هذه المظاهرة ضجة محلية وعربية، وكانت شاهدًا على شجاعة المرأة وجرأتها، وسجنت العديد من النساء، منهن المناضلة صافيناز خليفة ورضية إحسان وليلى جبلي ونعمة سلام وغيرهن.
وفي 19 ديسمبر 1963، نظمت "جمعية المرأة العربية" مؤتمرًا صحفيًّا للنساء، وذلك في فندق إحسان بمدينة كريتر، دعت فيه رضية إحسان المرأة للاعتصام السياسي في مسجد العسقلاني لإدانة الاعتقالات الواسعة التي شهدتها عدن، لكن الإدارة البريطانية داهمت مقر الاجتماع، واعتقلت رضية إحسان؛ لضمان إبعادها عن النساء وإفشال مخطط الاجتماع، لكن النساء واصلن المخطط، وفي 27 ديسمبر تدفقت أمهات وزوجات المعتقلين السياسيين وزوجاتهم على ساحة المسجد، قبل أن ينهي الشيخ محمد سالم البيحاني، خطيب وإمام ذلك المسجد، خطبة وصلاة الجمعة المنقولة عبر إذاعة عدن؛ مما ساعد على انتشار الحدث بين مختلف الأوساط. وقد أحسنت المرأة التوقيت لهذا الاعتصام الذي حقق وقت تحديده انتشارًا سريعًا بين الأوساط الأهلية، خاصةً تلك التي كانت تتابع نقل خطبة صلاة الجمعة، وأحدث الاعتصام ردود فعل محلية وخارجية، إذ أيَّد الأهالي نساء عدن في هذه الحركة، وعبروا عن ذلك التأييد بتقديم أشكال الدعم والرعاية وتوفير المواد الغذائية والأدوية للنساء المعتصمات، كما أظهروا تعاطفًا ملحوظًا معهن، وذلك بالانتظام في زيارتهن وتفقد أحوالهن. وتضامنت رضية إحسان مع النساء المعتصمات من داخل زنزانتها في سجن عدن المركزي، واعتبرت إضرابها عن الطعام تواصلًا معهن، فساءت حالتها الصحية بسبب ذلك الإضراب، ونُقلت إلى المستشفى، ومُنعت عنها الزيارات، حرصًا على عدم انتشار الخبر، خاصةً أن هذا الأمر قد تزامن مع زيارة وفد حزب العمال البريطاني، الذي قدم إلى عدن لتقصي أخبار الاعتصام، ومُنع هذا الوفد من زيارتها،
وتباينت ردود الفعل في لندن من هذا الاعتصام، فقد وصل إلى عدن في 29 ديسمبر 1963 وفد حزب العمال البريطاني المعارض، والذي ضم تشارلس لافين Charles Laughin، وريتشارد تافرين Richard Tavrine، وألبرت أورام Albert Oram وزار الوفد النساء المعتصمات في اليوم التالي لوصوله، ورافقه في هذه الزيارة كل من محمد سالم، ومحمد ناصر محمد، وفؤاد خليفة، وماهية نجيب، وصافيناز خليفة.
وامتد الجزء الأول من خطة الاعتصام من 27 ديسمبر 1963 حتى 10 يناير 1964، عندما قررت النساء إنهاءه بعد وساطة قام بها زين با هارون، رئيس وزراء عدن، ونائبه حسين إسماعيل خدابخش، اللذان تعهدا أمام النساء المعتصمات بتحقيق مطالبهن بشكل عاجل.
بعد خروج رضية إحسان من السجن، تواصلت خطة الاعتصام لكن تغير مكان الاعتصام؛ إذ وضعت رضية إحسان بمعية نساء الجمعية خطة بديلة، وفي أحد أيام شهر رمضان الموافق 10 فبراير 1964، جددت النساء اعتصامهن في مبنى سكرتارية حكومة اتحاد الجنوب العربي في مدينة الاتحاد المسماة اليوم بمدينة الشعب. تمكنت النساء من اقتحامه والسيطرة على مداخله الرئيسية واحتلال الشرفة المطلة على خارج المبنى لترديد الهتافات والمطالب، وَدَعَمَ الأهالي اعتصام المرأة في المبنى بكل الوسائل كتقديم الطعام والشراب والأدوية والمنظفات، فيما أقفلت قوات الاحتلال الماء وقطعت الكهرباء، ومنعت الأهالي من إدخال الطعام والشراب.
لم تقتصر أدوار المرأة في الكفاح على الاعتصامات والمظاهرات بل رافقت الرجل في العمليات الفدائية، فكانت تحمل السلاح وتخفيه وتنظّم تمريره، باعتبار المرأة غير خاضعة للتفتيش، كما قالت المناضلة فوزية محمد جعفر
وإزاء هذه الأوضاع اعتبرت الحكومة الاتحادية أن استمرار الاعتصام في مبناها قد أحرج وضعها الرسمي وكشف عن عجزها في أداء مسؤولياتها. وأصبح تحاورها مع السلطة البريطانية واجبًا تفرضه عليها تقاليدها وقيمها العربية المتمثلة بإعانة المستغيث ونصرته. وعلى أساس هذا الفهم أسرع السلطان صالح بن حسين العوذلي وزير الأمن الداخلي والشيخ محمد فريد العولقي وزير الشؤون الخارجية إلى التفاهم مع النساء، متعهدين ببذل المساعي الممكنة للإفراج عن المعتقلين في ليلة عيد الفطر، وبناء على ذلك رفعت المرأة اعتصامها، كما تمّ الإفراج عن المعتقلين في الموعد المحدد.
كما نفذت نجوى مكاوي القيادية في تنظيم الجبهة القومية اعتصامًا مع زوجات وأمهات المعتقلين أمام سجن المنصورة للمطالبة بالإفراج عن أزواجهن وأبنائهن، استمر يومًا واحدًا، تمكّن جنود الاحتلال من إنهائه بالقوة. لم تقتصر أدوار المرأة في الكفاح على الاعتصامات والمظاهرات بل رافقت الرجل في العمليات الفدائية، فكانت تحمل السلاح وتخفيه وتنظّم تمريره، باعتبار المرأة غير خاضعة للتفتيش، كما قالت المناضلة فوزية محمد جعفر: "كنت مع عايدة علي سعيد برفقة الفدائي يوسف بن يوسف في عملية نسف أنانبيب النفط التي تحت الجسر المؤدي إلى الشيخ عثمان، وحملتُ كيس الديناميت، وأعطى الأخت عائدة يافعي مسدسه الشخصي وأخفينا الأسلحة تحت الحجاب، ومررنا من جنب نقط التفتيش بسلام؛ لأن الجنود البريطانيين لا يفتشون النساء، ولما وصلنا إلى الموقع المطلوب أخذ مني كيس الديناميت وأخذ المسدس ونزل إلى تحت الجسر وتمم العملية، بحيث سيتم تفجيرها بتوقيت محدد.
وتروي الأستاذة أم الخير حيدرة، زوجة الأستاذ أنيس حسن يحيى، وزير الاقتصاد والثروة السمكية السابق: "كنت أرافق زوجي في السيارة لتوزيع المنشورات، وأصطحب معي طفلتي الصغيرة التي كانت بعمر بضعة أشهر؛ لأن الجنود الإنجليز كانوا يستثنون العائلات من التفتيش، وفي إحدى المرات كان معنا الشهيد سعيد الخيبة في السيارة، وكان معنا منشورات، وفي صندوق السيارة سلاح، وكنا متجهين للمعلّا وعند نقطة العقبة بجانب محطة البنزين، استوقفتنا نقطة تفتيش الجنود الحمر، أنزلوا سعيد الخيبة وآخر، استدار لزوجي لإنزاله وأمام ارتباكنا وصياحنا استيقظت ابنتي تصرخ وشتت الموقف، وإذا بأحد الجنود يرأف بها ويعتذر قائلًا: " ". كان بكاؤها لنا منقذًا ومعجزة، وتكرر نفس هذا الموقف ونحن نقوم بمهمة مماثلة في البريقة لتسليم أحمد قاسم ناجي المنشورات، وكانت بصحبتنا صديقتي مريم عقلان وطفلها، فكان بكاء الطفلين مربكًا للجنود، فسمحوا لنا بالمرور.
كثيرة المواقف الجريئة والأدوار التي لعبتها المرأة في ميدان الكفاح المسلح لا يمكن حصرها، فمثلًا استطاعت نجوى بشجاعتها وضع خطة لإخراج جثمان الشهيد عبود من ثلاجة مستشفى (الملكة آنذاك الجمهورية لاحقًا)، وذلك حين أتت بنسوة ادعت أنهن أم وزوجة وأخت الشهيد، حين رفضت قوات الاحتلال إخراج جثمانه.
ومن مواقفها الشجاعية العديدة سواقتها لدبابة بريطانية طافت بها أرجاء مدينة كريتر في 20 يونيو يوم سقوط المدينة بيد الثوار، حيث فرّ الجنود البريطانيون بعد حصار الفدائيين لهم، وكانت المدينة في حالة حصار، فما كان منها إلا أن اعتلت الدبابة تطالب الناس بالخروج لفتح المحلات ومزاولة الحياة. وحوصرت الراحلة زهرة هبة الله في أحد المساجد، وكانت برفقتها عايدة علي سعيد وأنيسة الصايغ، بعد أن أكملت قراءة منشورها عقب صلاة الجمعة، وبقيت النساء بالمسجد حتى بعد صلاة المغرب، حينها تمكنّ من التسلل عبر جموع المصلين.
تنوّعت أدوار المرأة في الكفاح المسلح، وصولًا إلى تحقيق حلم الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، الذي نتذكر اليوم ما عِيشَ منه زهيًّا بهيًّا ضدًّا على حاضر كالح.