في حي الفارسي، بمديرية البريقة، محافظة عدن، حيث يتجمع فيه نازحون أرهقتهم سنوات الحرب وآخرون ممن أتعبتهم ظروف الحياة القاسية. عندما تطأ قدماك ذلك المكان ترى وجوهًا شاحبةً ونفوسًا أنهكها طول الانتظار لفرج قريب .
تعيش موندا محمد سعيد، ذات الأربعين عامًا، وهي نازحةٌ من محافظة الحُديدة بسبب الحرب التي شهدتها المحافظة الواقعة شمال غربي اليمن، في منزل غير مكتمل مع زوجها المصاب وأطفالها الأربعة في هذا الحي، ولم تقف مستسلمةً لواقعٍ طالما أقعدَ العديد من النساء والرجال أيضًا. بل اتخذت من غرفة غير مسقوفة داخل المنزل الذي تسكنه مكانًا لممارسة مهنة الحلاقة، حيث يقتصر عملها على قص شعر الأطفال حتى سن الـ15 عامًا، متحديةً بذلك أعراف المجتمع الذكوري الذي يعتبر الحلاقة مهنة ذكورية، وبشغف وحبٍّ تمارس موندا مهنتها هذه منذ سبع عشرة سنة كأول امرأة يمنية تمارس مهنة الحلاقة.
واجهت موندا الكثير من التحديات والصعوبات كون المهنة التي تعمل بها محتكرة على الرجال، بل على فئة قليلة منهم يمارسون الحلاقة في اليمن، باعتبارها مهنة يحتقرها المجتمع ويصنفها تحت خانة "العيب".
من أكبر التحديات التي واجهتها هذه المرأة، بحسب حديثها لـ"خيوط"، هي معارضة الأهل لهذه المهنة، وكذلك المجتمع الذي ينظر للمرأة على أنها ربة منزل فحسب، ممّا سبّب لها ضغطًا كبيرًا ومشاكل، إضافة إلى ما واجهته وتواجهه من تنمُّر واضطهاد مستمر.
لكن الشغف الكبير الذي في داخلها تجاه مهنتها، جعلها تكسر كل القيود والصعوبات إلى أن استقرت بحياتها، وتمكّنت من مواجهة جبروت الحرب وقسوة النزوح و"العيب" بعد فترة طويلة من محاربة الجميع لها.
عشق للمهنة
مِقَصٌّ ومِشط، ماكينة ومُوس، إضافة إلى لوحة كرتونية مكتوب عليها "حلاقة أم جمال لأنواع القصات"، وغرفة بدون سقف، هذه هي الإمكانيات البسيطة التي استطاعت موندا أن تصنع منها حلمها البسيط، من خلال العمل على ممارسة ما وصفته بالعشق؛ "مهنة الحلاقة" التي تعشقها والشغوفة بها رغم صعوبة امتهانها.
يطالب كثيرون المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني بألّا تقتصر أعمالهم ومشاريعهم للنازحين على السلال الغذائية أو المشاريع الطارئة فقط، بل أن يكون هناك مشاريع مستدامة وحياتية تكسب المرأة النازحة من خلالها المهارات والخبرات التي تمكِّنها من العمل والعيش بكرامة
يجتمع الأطفال حولها منتظرين دورهم في الحلاقة، ولكل واحد منهم طلب بقَصة شعر خاصة، فهي ماهرةٌ في عملها، وتجيد جميعَ أنواع قصات الشعر، كما أنها تبحث دائمًا عن الجديد من خلال ما تشاهده من قصات على رؤوس الشباب، على الرغم من كونها لم تحظَ بدوراتٍ خاصة ولا تعرف عن عالم الموضة أو اليوتيوب شيئًا.
تؤكّد موندا أنّ الإرادة الذاتية تولّدت داخلها منذ أن كانت تذهب بطفلها للحلاق عندما كان صغيرًا، فتقتنص بعض المهارات بنظرها وهي تراقب حركات المقص ويد الحلاق عن بُعد، لتعمل على تطبيقها عند العودة إلى المنزل حتى أصبحت اليوم معلمة وملهمة للكثير من الحلاقين، سواء من خلال تعاملها الراقي مع الناس أو من خلال كفاحها وشغفها وصدق حبِّها للمهنة، ما جعل جميع أهالي المنطقة يثقون بعملها وإرسال أطفالهم إليها في كل المناسبات .
مساعدة زوجها
لم تُقْدِم موندا على هذه المهنة تلبية لشغفها وحسب، بل كان السبب الرئيسي هو مساعدة زوجها المصاب في توفير الكثير من الاحتياجات المنزلية، وكذلك توفير الكسوة لأطفالها، إلى جانب المصاريف الأساسية، فقد ساهمت هذه المهنة في التخفيف من أعباء الحياة عليها وعلى زوجها، رغم أنها تتقاضى مقابلها مبالغ رمزية بسبب الظروف الصعبة التي يعيشها أهالي المنطقة، إلى جانب ذلك إعفاء الأيتام من أي مقابل وكذلك الفقراء، حيثُ تكتفي بالدعوات وحب الناس .
تقول الإعلامية عائشة دماج، لـ"خيوط"، إنّ الشغل ليس عيبًا، ويجب عدم السماح باستمرار الأعراف التي تصنف الناس والأعمال والمهن، إضافة إلى صعوبة الظروف المعيشية وعدم التعويل على مساعدة أي حد، كما تجسد ذلك هذه المرأة، فموهبتها الفريدة في الحلاقة رغم صعوبتها تعتبر بابًا للرزق لها، وعليها الاستمرار فيها لتعول نفسها وأسرتها.
أما الطالب أبو بكر علي، فيرى، في حديثه لـ"خيوط"، أنّ على المرأة، سواء كانت نازحة أو في مجتمع مضيف، أن تعمل العمل الذي يتناسب معها ويحافظ على مصدر عيشها ولا يخدش أخلاقها أو كرامتها، فهذه المرأة النازحة لم تنتظر بذلّ، ولم تتكل على تلك المساعدات الإنسانية، ولم تستسلم لصعوبات الحياة التي تواجهها، بل نهضت وساعدت نفسها في هذا العمل، الذي لها الحق في ممارسته دون أي انتقاد، فزبائنها فقط من النساء والأطفال.
فرص للعيش
يطالب كثيرون المنظماتِ الإنسانيةَ والمجتمعَ المدني بألّا تقتصر أعمالهم ومشاريعهم للنازحين على السلال الغذائية أو المشاريع الطارئة فقط، بل أن يكون هناك مشاريع مستدامة وحياتية، تكسب المرأة النازحة من خلالها المهارات والخبرات التي تمكّنها من العمل والعيش بكرامة.
الناشط الشبابي أمين محمد، في حديثه لـ"خيوط"، يشير إلى الحرب وكيف أثّرت على كثيرٍ من اليمنيين ونتج عنها تغييرات كثيرة في حياتهم، فمع اشتداد الأزمة الإنسانية وتردي الوضع الاقتصادي وغياب العائل لكثير من الأسر، وجدت كثيرٌ من النساء أنفسهن مضطرات لإعالة أسرهن، وهذا ما دفعهن للبحث عن فرص عمل في بلد تكاد تكون فرص العمل فيه معدومة، ويقتصر جزءٌ كبير منها على الرجال.
ويواصل حديثه: "من الطبيعي في ظل هذه الظروف، أن نجد نساء يعملن في مجالات كانت محصورة على الرجال، ويجب أن نشجّع مثل هؤلاء النساء أولًا؛ لأنهن يكسبن رزقًا حلالًا، ويكافحن لإعالة أسرهن في ظل ظروف غاية في الصعوبة، وثانيًا لأنهن استطعن إثبات أنّ للمرأة أدوارًا مجتمعية أكبر من تلك التي رسمها لها المجتمع، وبإمكانها أن تعمل في أي مجال طالما يتناسب هذا العمل مع فطرتها".