لم تَعِ رجوى صالح -اسم مستعار- أنّ الفستان الأبيض الذي طالما حلمت بارتدائه يوم زفافها، سيكون أشبه بزنزانة كبيرة تحاوطها من كل اتجاه وتُجرّدها من حياتها لتمنعها من ممارسة أبسط حقوقها حتى في التنقّل مع عائلتها خارج البلاد، فالفتاة ذات السادسة عشرة من عمرها آنذاك لم تكن تدري أنّها ستتجاوز الثلاثين من عمرها، ولا يزال اسم الرجل الذي لم تلتقِ به منذ سنوات مرتبطًا بها.
ليس هذا فقط، بل يطاردها في جميع أوراقها الرسمية، متحكِّمًا بمصيرها بعد ما مُنعت من السفر للعلاج منذ ثلاثة أعوام مع عائلتها إلى خارج اليمن، لعدم وجود موافقة من الزوج على السفر.
تقول رجوى لـ"خيوط": «مرّت السنوات وأنا مُعلَّقة ولا ترى عائلتي أيَّ مشكلة في ذلك، وكل ما يهمّهم ألّا ألجأ إلى القضاء والمطالبة بالخلع، لوصمهم ذلك بالعار، أن تذهب فتاة مع عائلتها إلى المحكمة، حيث يردّد والدي الذي يعيش خارج اليمن، دائمًا مقولة: "ما فيش بنات تدخل محاكم"».
تكمل رجوى حديثها بالإشارة إلى أنّ زوجها من نفس محيط عائلتها، وهو ما يسبِّب العديدَ من الإشكاليات الاجتماعية والقبَلية التي يتعامل معها المجتمع في التحيّز ضدّ المرأة، في حين يرفض زوجها أن "يُطلِّقها" مردِّدًا لها أنّها ستظل هكذا مُعلَّقة حتى آخر يوم في حياتها.
تعاني المرأة اليمنية الكثير من الظلم، وتتعرض للعديد من الانتهاكات بحججٍ واهية؛ نتيجة لتقاليد وعادات مغلوطة تتنافى مع القيم الإنسانية، لا تزال حبيستها حتى اللحظة، لا سيما المرأة -المُعلَّقة- التي تتعرّض لشتى أنواع الانتهاكات والظلم، فيضيع حقّها ويسلب عمرها، وهي سجينة كلمة "مُعلَّقة".
وجعل المجتمع، الذي يفرض وصايته على النساء، من هذا المصطلح، قشّةً يعلّق عليها تعسُّفه تجاهها، فيُطلِقه على المرأة التي سُلِبت كرامتها، وهُمِّشت حياتها، إذ وضع ذلك أمامها العديد من التحديات والصعوبات التي حدّت من قدرتها على طي صفحة المعاناة والبَدء بحياةٍ جديدة، بفعل زوجٍ يفتقد أدنى مقومات الإنسانية، فيتركها وحيدة هي وأطفالها في متاهة حياة شاقة.
إضافة إلى الضغط العائلي الذي قد تتعرّض له المُعلَّقات نتيجة لضعف الحالة المادية، فيصبحن ضحايا لأزاوجٍ ومجتمع لا يزال متمسِّكًا بأعراف وتقاليد تهمشها ولا توفّر لها أيَّ نوعٍ من الحماية، وقد تمرّ الأشهر والسنوات وهن "مُعلَّقات" من قبل أزواج تخلَّوا عن مسؤولياتهم حتى تجاه أطفالهم.
أوهام ورديّة
في السياق نفسه، أصبحت حياة راوية الخولاني مليئة بالمعاناة، بعد ما قام زوجها بسلبها أموالها وتركها في منزل (شُقّة)، ورحل هاربًا بعد زواجهما بعدة أشهر.
تقول راوية في حديثها لـ"خيوط"؛ إنّها تفاجأتْ بعد الزواج بشهر بأنّ زوجها لا يعمل، ولم يكن شريكًا في أحد المحال التجارية كما ادّعى ذلك عند التقدّم لها، وهو ما اضطرّها إلى القيام بمساعدته بعد الزواج، كونها من عائلة ميسورة الحال، وإعطائه ما كانت تحوزه من مجوهرات لبيعها والاستفادة بثمنها، بإنشاء مشروعٍ تجاري شراكة بينهما، لتكتشف بعد فترة وجيزة عدمَ قيامه بكل ما اتّفقا عليه، وتحجّج بعدم كفاية المبلغ، وأنّ الأمرَ يحتاج للبحث عن سُلفة (اقتراض مال) لتوفِية المبلغ الإجمالي الذي يحتاجه للسفر خارج اليمن لشراء أدوات ومستلزمات للمشروع، فتم اللجوء إلى والدتها التي قامت بتقديم المال الذي طلبه كدين عليه.
مرت أسابيع وأشهر بعد سفره، لكنه لم يعُد، تاركًا راوية تعيش حالة صدمة، فهو لم يسلبها نقودها فقط، بل سلبها كل أحلامها وثقتها بالآخرين .
وبعكس عائلة رجوى، قام والد راوية برفع قضية خلع في المحكمة التي لم تستطع عقد أي "جلسة"، والبتّ في هذه القضية لعدم حضور الزوج، وهو ما يتنافى مع قانون الأحوال الشخصية في المادة (52) والتي تنص على أنّ "لِزوجةِ الغائبِ زوجُها في مكانٍ مجهول أو خارج الوطن، فسخُ عقدِ النكاح بعد انقضاء سنة واحدة لغير المنفق، وبعد سنتين للمنفق" .
تلجأ بعض النساء لطلب الطلاق أو خلع الزوج إلّا أنّ الكثير منهنّ يصلن إلى طريق مسدودة دون جدوى، بسبب عادات وتقاليد تمنعهن من المطالبة بحقّهن في الانفصال، في حين تَلزم كثيرٌ من النساء الصمتَ حيال من تلجأ إليه لإنصافها ولحمايتها، عند تعرّضهن لأيّ تعنيف.
ترى الناشطة الحقوقية مها عوض أنّ ترك المرأة مُعلّقة دون طلاق، ينطوي عليه تمييزٌ مُجحِفٌ بحقِّها لما فيه من استغلال الزوج لسلطته في الطلاق، كما اعتبرت ذلك نوعًا من أنواع العنف المنزلي، خاصة إذا لم تتوفر الأسباب لذلك.
وتضيف لـ"خيوط"، أنّ ترك المرأة مُعلَّقة يُجبِرها على تحمّل العديد من التبعات في البقاء رهن حالةٍ من العجز والضعف، خصوصًا مع عدم قدرتها على الوصول إلى العدالة لإنصافها وحمايتها، أو كنتيجة لما تفرضه ثقافة المجتمع والعادات والتقاليد التي تُقيّد وتُلحِق الأذى بالمرأة حتى على مستوى الأسرة، حيث يمكن تقبّلهم أن تكون المرأة مُعلَّقة، على أن تكون مُطلَّقة، وهذا الأمر بكل أوضاعه يكرّس التمييز والتعنيف ضدّها.
معاناة لا تنتهي
يبقى الأطفال الخاسر الأكبر في معادلات العلاقات الزوجية التي تبوء بالفشل، خاصة الذين يتعرّضون للانتهاك أو الاستغلال من قبل طرف للضغط على الطرف الآخر دون مراعاة لنفسياتهم، وهذا ينعكس سلبًا على حياتهم، فتظهر عليهم أعراضٌ عدوانية أو انعزال، كما يصاب بعضُهم بمشاكل نفسية، كالرهاب الاجتماعي أو التلعثم أو التبوّل اللاإرادي.
تقول فاطمة الطريقي، أخصائية اجتماعية، لـ"خيوط": "إنّ معاناة الأطفال لا تختلف عن الكبار، ويتأثّرون بمن حولهم ويحتاجون لوجود الأم في حياتهم، إذ إنّ حرمانهم من أمّهاتهم جريمة بحق الطفولة والإنسانية، فالطفل محتاج إلى أن يعيش في بيئة مناسبة تساعده على النمو الجسدي والنفسي والفكري".
كما تستمرّ معاناة بعض "المعلّقات" مع أطفالهن والتي لا تنتهي حتى بالموت، فالطفل كنان محمد، ذو الثالثة من عمره، ظل بعد وفاته في "ثلاجة" الموتى في أحد المستشفيات لمدة أسبوع؛ بسبب تعنُّت والده ورفضه التوقيع لإخراجه ودفنه حتى يتم مساومة والدته للرجوع أو اتّهامها بأنّها من قتلت الطفل.
وتؤكّد إحدى قريبات الطفل لـ"خيوط"، أنّ "كنان" أصيب بحالة ضمور بسيطة، وبسبب مشاكل عائلية رفضَ والده دفع تكاليف علاجه وإقامته بالمستشفى خلال فترة العلاج، وتعرّضت والدته للإهانة والشتم، ورفضت العودة له مجدّدًا وطالبته بالطلاق. في حين عجزت والدة كنان عن رفع قضية خلع، كغيرها من نساء مُعلَّقات بسبب وضعهنَّ الماديّ الذي لا يسمح لهن بتوكيل مُحامٍ لنيل حريتهن.
في هذا الخصوص، تشير الناشطة الحقوقية مها عوض لـ"خيوط"، إلى أنّ الأحكام القانونية الخاصة بقضية الخلع لا تنظر بواقعية لظرف المرأة، وإمكانية النساء أو الزوجة في توفير الالتزامات المادية، إذ بموجبه يضع المرأة أمام خيارات صعبة للغاية؛ إمّا الالتزام المادي للحصول على الانفصال أو الرضوخ للواقع.
كما حدّد القانون اليمني ما يتعلق بحضانة الأطفال، فقد ألزم الزوج أن يوفّر النفقة، بالمقابل يتم استخدام الخلع كوسيلة ضغط على المرأة، لكي تتنازل عن حقوقها، فبعضهن تضطر إلى أن تتخلّى عن أبنائها لتحصل على الطلاق.
وتعتبر عوض أنّ قانون الخلع ضاق بالنساء ذرعًا، إذ ترى أنّ الضرورة تقتضي تقديم العون القانوني للنساء من قِبل منظمات المجتمع المدني عن طريق قانونيّين ومحامِين لرفع دعاوى نسائية دون إجراء الخلع بطرق عملية من خلال الإقناع، وهي مسألة مترتبة على ثقافة القاضي، لإيجاد حلول دون الوصول إلى الخلع.
وتطرّقت الناشطة الحقوقية مها عوض، إلى أنّ عدم وجود إحصائيات، يفاقم من مشكلة النساء المُعلَّقات، واعتبرت أنّ عددَ الحالات مهمٌّ جدًّا؛ لذا يجب البحث والتعمُّق لمعرفة الآثار التي تترتّب على ما تعانيه المرأة المعلّقة من أجل الحصول على مناصرة قوية لهنَّ، من خلال وضع حملات ضغط للتأثير والمساعدة .
تختم حديثها بالتأكيد على أنّ جعْلَ المرأة مُعلَّقة أمرٌ غير مقبول، ويمثّل عبئًا كبيرًا عليها؛ لذا تظل مشاكل "المُعلَّقات" محصورة في أروِقة المحاكم أو في الغرف المغلقة، للضغط على المرأة ماديًّا ونفسيًّا، لكن لا تصل إلى الوعي المجتمعي لخلق تضامنٍ مجتمعي مع هذه الفئة من النساء المضطهدات.