اختلطت دموعه مع عباراته التي انكسرت بالغصات، واستحال فَهم ما يتحدث به. عندما هدأ دخل في موجة شديدة من التنهّدات؛ ذلك الكهل الذي يسكن في أطراف مدينة ذمار من جهة الشمال، يعيش مع ثلاثة من أبنائه في سن الشباب، يعانون بشكل متفاوت من مشاكل و"اضطرابات نفسية" وصلت إلى مغادرة بعضهم المنزل لعدة أيام والنوم في العراء، والاعتداء على والدتهم المسِنّة.
تعتقد شقيقتهم ووالدتهم أن "عبدالله، وعبدالرحمن، ومحمد" قد تعرضوا لمسّ، أفقدهم الصواب، ويذهب بهم بعض أقربائهم إلى مشايخ الدين لقراءة القرآن، لكن لم يلاحَظ أي تحسن في وضعهم النفسي.
الضواحي بؤرة المرض
الناشطة المجتمعية عزّة الأسدي، أشارت إلى أن مناطق الضواحي في مدينة ذمار، يسكنها مواطنون، يعاني جزءٌ كبيرٌ منهم من مشاكل نفسية "تصل إلى إصابة نصف الأسرة باضطرابات نفسية متفاوتة وسط صعوبات الحياة وقساوة المعيشة"، قالت. وزادت في حديث مقتضب لـ"خيوط": "إن الضواحي تشهد توسّعًا سكانيًّا كبيرًا، ويقطنها الأسر الأكثر فقرًا والنازحين، وهي بيئة جاذبة لظهور مشاكل نفسية واجتماعية بسبب العوز والفقر وظروف النزوح، وتساعد هذه الظروف المعيشية من ارتفاع أعداد الذين يعانون من مشاكل نفسية.
لدى عزة الأسدي -خريجة قسم علم نفس بجامعة ذمار، العام 2010- نموذج موجع، لحالة تطورت بفعل البيئة السيئة التي أنتجتها الحرب، فمِن رجل يعمل من أجل أطفاله بصبر وسعادة، مستندًا إلى راتبه التقاعدي وما يتحصل عليه من عمله بالأجر اليومي، إلى "مشرّد ومختلّ عقليًّا يهيم في شوارع وأحياء المدينة، غير مكترث بما يحدث حوله وما تعانيه أسرته".
وأضافت: "في كل مرة يأتي فيها إلى المنزل، يتعرض الأطفال ووالدتهم للضرب والاعتداء، وصلت في إحدى المرات إلى ضرب والدتهم حتى أغمي عليها، ولولا تدخل الجريان لكانت توفت بين يديه".
دعم نفسيّ للنساء
حفيظة الروضي، مديرة المساحة الآمِنة للنساء والفتيات بمدينة ذمار -تابعة لاتحاد نساء اليمن وممولة من صندوق الأمم المتحدة للسكان- قالت إن المساحة توفّر الدعم النفسي للنساء.
تكشف نتائج المسح الميداني لمركز الرحمة للصحة النفسية بمحافظة ذمار، تجاوز عدد المصابين بالاضطرابات النفسية، في مدينة ذمار وحدها أكثر من أربعة آلاف حالة، أغلبهم من فئة النساء.
وأكدّت لـ"خيوط": "إن المساحة تستقبل حالات عنف تتعرض لها النساء من أقربائهن (زوج، أخ، أب)، وعند التحقق من الحالات وخليفات هذا العنف، نجد أن هناك أسرًا بدأت تعاني فعليًّا من تصرفات بعض أفرادها، والذين باتوا يشكّلون خطرًا على حياتهم وحياة الآخرين".
وأوضحت أن الحالات التي تستقبلها المساحة بدأت تتسع بشكل لافت بين النساء والفتيات في مدينة ذمار وضواحيها، في مقدمتهن "النساء النازحات والأيتام والأرامل والأسر الأشد فقرًا".
وتطرقت إلى بعض الخطوات التي تقدمها المساحة عبر برنامج الدعم النفسي، منها "الإحالة" والمساعدات العلاجية للنساء والفتيات، مع إخضاعهن لبرنامج مكثف للرعاية النفسية بهدف تجاوزهن لمشاكلهن النفسية.
ستة آلاف مريض
"نحن نعاني من مشكلة قد تسبب ضررًا للمستقبل" بهذه العبارة، بدأ مدير مركز الرحمة للصحة النفسية بمحافظة ذمار، محمد عامر، حديثه لـ"خيوط". وأضاف: "المرض النفسي مرض صعب، ويحتاج إلى تكاليف كبيرة للعلاج وفترة قد تطول، والمهم هو صبر أسرته، وكذلك تفهمهم لما يعانيه، والتخفيف من حدّة هذا المرض الذي قد يتحول إلى كابوس بالنسبة للأسرة والمجتمع".
ويرى عامر أن المشاكل الاقتصادية والمعيشية رمت بثقلها على ظهر المجتمع اليمني، لتنتج الآلاف من المشاكل النفسية بين أفراد المجتمع، كانعكاسات سلبية للواقع الذي يعيشه المواطنون.
وفي مسح ميداني –لمركز الرحمة للصحة النفسية- العام الماضي 2019، تم رصد أكثر من 200 مريض نفسي يجوبون شوارع مدينة ذمار، في ظروف صحية ومعيشية مؤلمة، وجزء من المختلين علقيًّا -بينهم نساء وفتيات- تم تقييدهم في المنازل خوفًا من وصمة "العيب".
وتكشف نتائج المسح الميداني لمركز الرحمة للصحة النفسية بمحافظة ذمار، تجاوز عدد المصابين بالاضطرابات النفسية، في مدينة ذمار وحدها أكثر من أربعة آلاف حالة، أغلبهم من فئة النساء.
اليوم -وفق عامر- قد يتجاوز العدد أكثر من ستة آلاف مريض نفسي في مدينة ذمار. وقال عامر: "العدد ارتفع كثيرًا عن فترة المسح -قبل عامين- بسبب استمرار تدفق النازحين من مناطق الصراع إلى مدينة ذمار وارتفاع عدد الأسر الفقيرة.
مصحة نفسية
تأسس مركز الرحمة في العام 2018، وهو الوحيد في محافظة ذمار، ويعد أحد المشاريع الخيرية لمؤسسة أيادي الرحمة الخيرية التنموية بذمار، ومنذ تأسيسه قدّم خدمات علاجية أكثر من ثلاثة آلاف وخمس مئة حالة بين اضطرابات نفسية متوسطة وشديدة، أغلبهم للفئات الأشد فقرًا والنازحين.
وتؤكد إدارة المركز إلى أهمية التخفيف من معاناة الأسر التي يوجد بين أفرادها مرضى نفسيون" كمسؤولية اجتماعية وإنسانية.
في السياق، تكشف مصادر محلية لـ"خيوط"، عن ترتيبات تقوم بها السلطة المحلية بالمحافظة للبَدء في إنشاء أول مصحّة نفسية في ذمار، بتمويل من جهات مانحة، يعوّل عليها في المساعدة في الحدّ من المشاكل النفسية بين الفئات الأشد اضطرابًا، ويشكل مرضهم خطرًا على أنفسهم ومحيطهم.
سيكون من الصعب على أسرة "عبدالله، عبدالرحمن، محمد"، تقبل أن أبناءها الثلاثة يعانون من اضطرابات نفسية قد تنتهي بهم إلى الجنون، والأكثر من ذلك سيصعب عليهم تحمل تكاليف العلاج لفترات طويلة، وهم الفقراء الذين كل ثروتهم "سبع نعاج" ومنزل صغير يتسرب من سقفه وجدرانه البرد والمطر.