كانت الأسرة تنتظر موعد استفاقة ابنتها الشابة بعد تخليص جسدها من المارد الشيطاني الذي سكنها، حدّ وصف المعالج الشعبي، بعد تمكنه منه بعد عدة جلسات، وإحراقه داخل جسدها، وتطهيرها منه، حسب زعمه.
غادر غرفتها، وكان عليه أن يواجه أسرتها التي تنتظر خلف الباب نتائجَ معركته مع المارد، وتترقب خبر انتصاره عليه، خاصة بعد أن استنفدت هذه المعركة المزعومة أموالها، وسرقت منها راحتها، وأفقدتها أعصابها، ولم يعد لديها ما تراهن عليه إلا انتصار هذا الروحاني على الساكن الخفي في جسدها، كي تستعيد ابنتهم عافيتها، ويعودون جميعًا لدورة الحياة المعتادة، وتعود الابتسامات المسروقة إلى وجوههم.
إحراق الجسد
وقف أمامهم متصنعًا النصر، وكادت الزغاريد أن تخرج من أفواههم لولا تنبيهه لهم بتأجيل ذلك حتى تستعيد الشابة -المسجاة على الفراش في غرفتها- وعيَها، وطلب منهم عدم الاقتراب منها، أو حتى دخول الغرفة، معللًا أنّ جسدها الضعيف لم يحتمل قوة المعركة، وكان أضعف من تحمل فرحة الخلاص والتحرر بعد تمكّنه من إحراق الجني داخلها؛ لذا استسلمت للغيبوبة المؤقتة، وقال لهم إنها لن تستفيق من غيبوبتها إلا بعد مضي ثلاثة أيام أو أكثر، وعليهم تركها دون خوف عليها.
كان الشيخ المزعوم يدرك جيدًا أنه فقط يتستر على جريمته، وأن معركته الوهمية لم ينتصر بها إلا على الجسد الذي أؤتمن عليه، لم يُعِدها للحياة الطبيعية، إنما سلبها حياتها وقضى عليها، وبعد أن غطى جريمته، خرج لإيهام أسرتها بنجاح مهمته أخيرًا.
ثقة الأسرة بذلك المعالج جعلها تتوهم أن رائحة عفن الموت الخارجة من غرفتها، بعد يومين من الحادثة، لا علاقة لها بابنتهم، وأنها، بالتأكيد -حسب ثقتهم- تخص المارد أو الجني الذي قتله الشيخ داخلها، لكن هذه الثقة لم تنتقل عدواها للجيران، خاصة بعد أن تسللت الرائحة إلى بيوتهم، وهو ما دفعهم لاقتحام البيت بطرق قانونية بعد رفض الأسرة إخبارهم بمصدر الرائحة أو دخولهم للتأكد من مصدرها، ليكتشف الجميع، بمن فيهم الأسرة أن ضحية المعركة المزعومة لم تكن سوى ابنتهم الشابة.
لم تكن "سحر الذبحاني" بنت حارة وادي المدام بتعز (جنوب اليمن)، هي الضحية الأولى لمدعي العلاج الروحاني والاستشفاء بالقرآن، لكنها أعادت بمقتلها على يد أحدهم، الضوءَ مجددًا لملف ضحايا هؤلاء الأدعياء.
رغم ازدياد ضحايا هؤلاء، ووصول العديد من جرائمهم إلى المنصات الإعلامية، وتحول بعض الحالات إلى قضايا رأي عام، فإن طبيعة المجتمع المحافظ تجعلنا ندرك أنه يتستر على العدد الأكبر منها، وهو الأمر الذي يمنح القتلةَ والمجرمين المشتغلين بها الحريةَ، ويجعلهم غير متخوفين من سقوط ضحايا جدد بسبب ممارساتهم وأعمالهم.
طوابير متجددة
أصبح سماع مقتل شخص بطريقة أو بأخرى على يد المشعوذين والدجالين ومن يدّعون الروحانية وإشفاء المرضى والمسحورين والمصابين بالمس الشيطاني والعين بواسطة الرقية والقرآن أو الدجل والسحر والشعوذة واستخدام وسطاء الجن- أمرًا عاديًّا، ولا تتجاوز ضجته وثورة الناس ضده إلا أيامًا قليلة تالية لحدوث الجريمة، قبل أن تعود الطوابير مجددًا على أبوابهم طلبًا لمساعدتهم وعلاج مرضاهم.
رغم ازدياد ضحايا هؤلاء، ووصول العديد من جرائمهم إلى المنصات الإعلامية، وتحول بعض الحالات إلى قضايا رأي عام، فإن طبيعة المجتمع المحافظ تجعلنا ندرك أنه يتستر على العدد الأكبر منها، وهو الأمر الذي يمنح القتلة والمجرمين المشتغلين بها الحريةَ، ويجعلهم غير متخوفين من سقوط ضحايا جدد بسبب ممارساتهم وأعمالهم.
ليس القتل وحده هو الجريمة الوحيدة لممارسي الدجل والشعوذة، وإن كان هو الأكبر على سلّم الجرائم الجسيمة التي يعاقب عليها القانون، وتُجرّمها الشرائع السماوية والإنسانية، لكن هنالك جرائم أخرى مسكوت عنها، وفي مقدمة تلك الجرائم الاعتداءات الجنسية والجسدية، بما في ذلك الاغتصاب والتحرش الجنسي، وأيضًا النصب والاحتيال والابتزاز واستغلال المرضى، وكل هذه الجرائم تُعدّ جرائم جسيمة، وتجعل كل ممارسيها مجرمين في نظر القانون.
دواعٍ غير اقتصادية
اللجوء إلى المشعوذين والدجالين هي ظاهرة لا ترتبط بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في المجتمع اليمني، وقد يرتبط رفض اللجوء إليهم بالمستوى الثقافي والوعي الفردي، لكن يقتصر دور الثقافة والوعي الفردي على الرفض الذاتي، ولا يذهب لتثقيف الناس والمجتمع من خطر الظاهرة، وخطورة ممتهنيها.
تعد النساء هن الفئة الأكثر إيمانًا بالاستشفاء على يد الدجالين والمشعوذين والسحرة، لذا فإن أغلب ضحاياهم منهن، خاصة أنهن الفريسة الأسهل التي يمكن النصب عليهن وجعلهن هدفًا للابتزاز والاعتداء الجنسي، ومع ذلك فلقد دخلت المرأة أيضًا هذا المجال، وأصبحن ينافسن الرجال في أعمال الدجل والشعوذة والسحر.
قبل أكثر من عقدين، كانت الأرياف والمدن الثانوية هي الأعلى في نسبة انتشار هذه الظاهرة ووجود من يدّعون العلاج بها، لكنها بدأت بالزحف على عواصم المحافظات والمدن الكبرى مع انتقال ممارسيها لها، وهذه المدن والعواصم أصبحت أرضية خصبة لها، والأخطر من كل ذلك أن سكان هذه المدن، أو كما نطلق عليهم المجتمع المتمدن، أصبحوا أكثر إيمانًا بها من المجتمعات الريفية.
قبل سنوات تم فضح معالج روحاني قام باغتصاب عديدٍ من النساء كنَّ يذهبن له من أجل الاستشفاء بالقرآن على يديه، وكذلك مقتل معالجين آخرين في حجة وبيت الفقيه بالحديدة على يد أزواج الضحايا بعد كشف تعرض زوجاتهم للاغتصاب من قبلهم، وكذلك موت عشرات الضحايا في عدد من مدن المحافظات، بعد تعرضهن للضرب المبرح المفضي إلى الموت.
لا تخلو الكثير من المجتمعات الشرقية من هذه الظاهرة، بل تكاد تكون غارقة فيها، ويلعب الجهل المجتمعي وانعدام الوعي عاملًا مهمًّا في تفاقمها وانتشارها، كما أن ضعف القوانين والعقوبات الرادعة ضد مزاولي هذه الجرائم ساهمت في زيادة أعدادهم، مستفيدين أيضًا من تناقض رجال الدين والفقهاء حول تحريم أو تحليل الاشتغال بهذه الأعمال.
ومع ذلك، يعد عدم ثقة الناس والمجتمع بالأطباء، وفشل الكثير من مزاولي مهنة الطب في معالجة مرضاهم، وتحول الأطباء من ملائكة رحمة إلى شياطين لا تكترث إلا بجيوب المرضى، وصرف الأدوية لهم للحصول على نِسَبهم من الشركات الدوائية- أبرز الأسباب الرئيسية التي لا يمكن القفز عليها عند دراسة هذه الظاهرة، إضافة إلى تخوف المجتمع من الأطباء النفسيين، ورفضهم الذهاب إليهم، والبحث عن المشعوذين والدجالين والسحرة لمعالجتهم من الأمراض النفسية.