في الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، أعلنت بريطانيا، أو أعلن المنتصر اليمني انتهاء الاستعمار، ونيل جنوب اليمن، الذي كان محتلًّا، استقلاله.
فهل تحقق الاستقلال بالفعل؟ أم أن استعمارًا متواريًا ورث استعمارًا كان باديًا وأهدافه معلنة. ماذا يقول اليمني الذي حلم بما بعد الاستقلال وفوجئ بما لم يكن في حسبانه؟
دعونا نتكلم بهدوء وبلا شطط.
هل جاءت النتيجة في صالح من حلموا وناضلوا؟ أو على الأقل، كما قال العزي عبدالله عبداللطيف، وكان بتعز يدبّر السلاح للثوار جميعًا: "المهم أن الذي يحكم يمني"، وذلك بعد إعلان تسلم الجبهة القومية إدارة شؤون الجنوب؟ وهل كان بإمكانها أن تسلم زمام الأمور لجبهة التحرير، فلم تفعل لغرض ما؟
والآن كيف هي الصورة؟ والوحدة لماذا أتت؟ وهل مات الاستقلال مع كارثة يناير 86؟ وأين الميراث أو الموروث؟ وهل تمت الإجابة عن كل الأسئلة؟ وأين هو الحزب الاشتراكي من الرحلة طوال 27 عامًا؟ وهل جاءت الوحدة نتيجة الشعارات الكبيرة، أم جاءت كتحصيل حاصل، ولحسابات القوى الكبرى أكثر مما هو حساب يمني صرف؟
لماذا يترحم المواطن البسيط على أيام بريطانيا؟ وأين هو الحزب بعد كل ما جرى في 94؟ وهل خصى علي عليًّا؟ وأي علي خصى نفسه في الأخير؟ هل ما تزال الوحدة قائمة، وما هو مستقبلها؟ وفي الأخير، هل سيعود اليمن يمنًا؟ وأي صيغة للحكم تضمن بقاء اللحمة إلى الأبد؟ وكيف لليمنيين بعد كل هذا أن يعودوا إلى حيث انتهوا في مؤتمر الحوار؟
الأسئلة كبيرة؛ ما يجعل الإجابات تتوه في دهاليز الفعل الذي توالى دفعات من صراع تحت شعارات مختلفة أفضى إلى 86، و86 أفضت إلى ما أسماه منصور هائل "الوحلة" في كتابه "أطياف عدن؛ هذيان الحطب". وهل كانت "وحلة" لا تزال الأقدام "تطحس" عليها إلى الهاوية.
لم تأتِ الوحدة اليمنية، وهي حلم أحلام اليمنيين يومها، نتاج إعداد جيد يضع في حسبانه كل التباينات في الشطرين يومها، بحيث تكون الوحدة الحل الأمثل لمشاكل البلاد كلها، وتحقيق حلم طال انتظاره.
سياسيون يمنيون اختلفوا في الإجابة عن سؤال التوحد، الذي كان مفترضًا غداة الاستقلال، والسؤال تحول إلى كتاب "الاستقلال والوحدة"، الذي أصدره الأستاذ يحيى العرشي، وهو من هو، وجاءت إجابات السياسيين اليمنيين متباينة عن الأسباب التي أدت إلى عدم إعلان التوحد غداة الاستقلال، فلم تشفِ الغليل، وإن ولدت أسئلة كثيرة. فتح كتاب العرشي الباب مستقبلًا للباحثين للإجابة عنها من خلال إعادة قراءة لمجمل المشهد جنوبًا وشمالًا.
عندما نقول الاستقلال يتبادر إلى الذهن "جنوب اليمن"، في حقيقة الأمر؛ فالنضال اليمني توحد من لحظة نجاح ثورة 26 سبتمبر 1962، بل ومن قبل نجاحها. توحد تحت راية شعارات كبرى حلمت بوطن واحد، ولم تعمل في حسبانها ثمة ما يفترض أن يردم أولًا حفرة هنا وأخرى هناك، حتى تحققت الوحدة، ولكن كما قال البردّوني رحمه الله: "زواجة أخدام، اليوم الثاني في قسم الشرطة".
جاء استقلال جنوب اليمن والشمال ضعيفًا يصارع بعضه، والجيران يشعلون الحرائق حوله وفي عمقه، حتى سقط في حفرة 5 نوفمبر، ليعود إلى نقطة الصفر، وليأتي الاستقلال وسط ضبابية لها أول وليس لها آخر
لا يعيب الوحدة تقييم الرجل الكبير لما تم؛ يعيبها حسابات الحاكم الذي كان لحظتها في الشمال يهرب من الزاوية الضيقة التي وجد نفسه فيها، وفي الجنوب، دمرت كارثة يناير كل بقايا حلم كان يحاول ما استطاع النجاة بنفسه من بين براثن الاستقطابات والشعارات الوافدة من واقع آخر، تشربها كلٌّ حسب انتمائه لهذا الخط أو ذاك. والشمال ظل يرفع الشعار على أساس أن "الفرع" لا بد أن يعود إلى "الأصل"! تبين فيما بعد أن الهاربين إلى بعضهما، هرب كل منهما لأسباب تتعلق بالحكم، ولم يخلُ الأمر من النظر من زاوية الثروة وليس الثورة.
لم يمر وقت طويل حتى بدأ الإنسان اليمني يسأل عن أيهما أفضل، وقد بدأ يقيس الفائدة من خلال أيهما أفضل؛ "الاستعمار وصيانة الحق الخاص" أم الاستقلال وما أتى به من تأميم عشوائي، وانتهاج لطريق أفضى في النهاية إلى الكارثة، التي ذهبت بكل شيء إلى جيوب من رحبوا بالوحدة على طريقة "ارحبي يا جنازة إلى بين الأموات".
بدا أن الاستقلال على قدر ما نُظر له كإنجاز عظيم لمرحلة النضال المسلح، بداية وليس نهاية، بداية التدحرج لغياب الرؤية والمشروع الوطني حتى وصلت الأمور إلى 94، التي كانت السبب الذي أفضى إلى ما بعده، وإلى متى سيستمر ما بعده؟ هنا السؤال الذي لا جواب له! فقد تبين أن كل الشعارات التي رفعت لم يكن لها هدف سوى صراع على الثروة والسلطة؛ فبعد 94، وقف من وقف على شاطئ المهرة وقالها: "والله إنها غزوة تستحق"!
ما حصل من تداعيات أدت إلى أن اليمني، الذي حمل سلاحه وقاتل، انعكس كل شيء حياتيًّا على وضعه، فأدى ذلك إلى الكفر بالوحدة التي أتوا بها، ولم يكفر بالوطن الذي حارب من أجله شمالًا وجنوبًا، فأصبحت "حنبته حنبتين"؛ حنبة شخصية، وحنبة بلد. أدى ذلك أيضًا إلى عدم رضا الجيران للتوحد اليمني، ما جعل سعود الفيصل يومها، وقد بدت نذر كارثة 94 المبيتة، يعرض على البيض المليارات مقابل أن يتم الانفصال.
كان علي قد خصى عليًّا، فلم يكن البيض خائنًا كما يشير إليه عديمو النظر، بل إن حسابات حقله لم تتناسب وحسابات البيدر. وكما أخطأ بعد الخروج من النفق، فقد ارتكب الخطيئة بإعلان الانفصال، وهو ما أعطى الفرصة الأعظم لعلي الآخر كي يخصيه إلى الأبد، قبل أن يُخصى هو نهائيًّا. إذ إن شعار الوحدة، وكما قال سالم صالح يومها، يشبه حصول أحدهم على القنبلة الذرية. كان يتحدث عن أن من يرفع شعار "الوحدة" لحظتها فقد انتصر، لكنه النصر الذي أدى بكل شيء إلى الموت.
لن نكون كالآخرين ونحمل -قاصدين- الحزب الاشتراكي كل المسؤولية، فيما لو نحن بصدد البحث عمن يتحمل المسؤولية؛ فما حصل هو بالأصح تحصيل غياب الرؤية من أذهان ثوار سبتمبر! أي يمن يريدون بعد هروب البدر! فقد فتحوا الإصطبل وتركوا الخيل تجري بلا هدى؛ لأنهم لم يكونوا على قلب رجل واحد. كان همهم إزاحة الإمام، فلما أزاحه الموت، ثاروا على البدر الذي لم يكن بحاجة إلى ثورة، فقد وُلد ميتًا. كان الأمر بحاجة إلى قليل من الحكمة يومها، وبرغم شعار الوحدة، إلا أن الشمال لم يكن قد حسب الحسبة بشكل صحيح، فدخل في دوامة حرب، أدت في الأخير إلى ما أدت إليه، فجاء الاستقلال والشمال ضعيفًا يصارع بعضه، والجيران يشعلون الحرائق حوله وفي عمقه، حتى سقط في حفرة 5 نوفمبر، ليعود إلى نقطة الصفر، وليأتي الاستقلال وسط ضبابية لها أول وليس لها آخر. خرج الحصان الآخر من إصطبل آخر وبلا هدى ظل يجري حتى تعب ظمأً، وإلى اللحظة تراه يلهث! في الجنوب تداخلت الشعارات حتى أن التجربة ضاعت بين أقدام الأجنحة.
لن نعيد سرد ما حصل بعدها حتى اللحظة، فكل الصورة تتبدى الآن واضحة إلا من جواب عن سؤال مهم: إلى أين؟ من يملك الجواب؟
على أن شعار: "يا الله نتخارج"، هو الذي يفرض نفسه. من سيخارجنا؟ هنا السؤال. الخارطة تبدو متشظية، فمتى نرى علم الاستقلال يرتفع مرة أخرى تحت علم اليمن الواحد، بمخرجات نلمسها على الواقع؟ صيغة حكم تجمع كل اليمنيين، تسيّد الوطن فوق رؤوسهم أجمعين.