ما إن تجتاز الباب الكبير وتدلف إلى أزقة المدينة القديمة وحواريها وتتجول في أسواقها التاريخية، فإنه حتمًا سيأسرك المكان بعبقه التاريخي، ويخيل إليك بأنك تعيش العصور القديمة، لا سيما وأنت تستمع إلى القصص التاريخية التي يتوارثها رواد أسواق المدينة القديمة بتعز وتجارها عن أجدادهم الذين سبقوهم.
في أسواق المدينة القديمة الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة تعز، يجد الإنسان نفسه متوحدًا مع المكان ومتنقلًا بين عصور وأزمنة مختلفة ليزرع ذلك التجوال في نفسه انطباعًا استثنائيًّا عامرًا بالألفة مع الناس والحوانيت التي تنبعث منها رائحة المدن العريقة وخصوصيتها الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لدى الناس.
"حينما تدخل إلى سوق الجمهورية، لا بد وأن تأسرك روائح البخور في الحانات والأزقة الضيقة فتشعر وكأنك قد عدت سنوات إلى تاريخ وحضارة تعز قديمًا"، هكذا يصف فهد الظرافي سوق الجمهورية أو ما يسمى بسوق البز سابقًا، قبل أن يتحول إلى مكان لبيع وشراء الأسلحة بفعل الحرب الدائرة في البلاد منذ مارس/ آذار 2015.
في حديثه عن السوق يؤكد الظرافي، وهو أبرز المهتمين في التراث داخل مدينة تعز، أن سوق الجمهورية يعتبر ذاكرة تاريخية للمدينة بما يحويه من المقتنيات التراثية الأصيلة ومحتوياته الجمالية من الملابس والعطور، فضلًا عن كثرة الباعة وتجار الأقمشة والعطور ومستلزمات الأفراح.
اشتهر سوق الجمهورية باسم سوق البز (القماش) قبل ثورة 26 سبتمبر، وذلك لكثرة محلات الأقمشة والعطور والملابس التراثية التي اشتهر بها السوق قديمًا، كما يقول الظرافي.
قديمًا كان السوق الواقع ما بين باب موسى والباب الكبير أحد أهم الأسواق القديمة في المدينة حيث يعود تاريخه إلى 869 هجرية، وقبل الحرب كان يحتوي على العديد من الحوانيت (المحلات التجارية) التي يباع فيها الفضة والعقيق والجنابي والملابس القديمة، ناهيك عن العطورات والأواني النحاسية بمختلف أنواعها، كما يباع فيه الجبن والعسل والسمن البلدي، بالإضافة إلى الأعشاب الطبيعية والمأكولات الشعبية بمختلف أنواعها.
السلاح بديلًا عن الملابس التراثية
معالم كثيرة تغيرت في سوق الجمهورية، فالتاريخ الذي كانت تحتفظ به حوانيت وأزقة هذا السوق بدأت بالتلاشي لتظهر ملامح أخرى تؤذن باندثار هذا المعلم الحضاري، لا سيما بعد تحوله إلى سوق لتجارة السلاح بفعل الحرب التي ألقت بظلالها على معظم المعالم التاريخية في تعز واليمن بشكل عام.
السلطات الأمنية في مدينة تعز تقول إنها لا تستطيع منع بيع الأسلحة، ولكنها تعمل على مراقبة البيع والشراء التي تتم في سوق السلاح داخل المدينة
يقول عبدالله أحمد، وهو أحد تجار الملابس العسكرية لـ"خيوط"، إنه كان يبيع الملابس التراثية والحديثة للنساء والأطفال، لكن بفعل الحرب تغير الوضع وأصبح الإقبال يتزايد على شراء الملابس والمستلزمات العسكرية، مما اضطره إلى العمل في بيع السلاح.
وعن مصدر الأسلحة التي تباع في سوق الجمهورية، يجيب أحمد قائلًا: "نشتري الأسلحة من عدة مهربين وتجار وبعض الأفراد المنتسبين للجيش ونبيعها على القيادة العسكرية والمواطنين ولدينا تراخيص من الجهات الأمنية لبيع وشراء السلاح".
يرى كثيرون من مرتادي السوق أن الحرب غيرت كل ملامح السلام والمدنية، وأصبحت آلة الموت هي المستوطن الجديد في سوق الجمهورية، عوضًا عن المنتجات التاريخية التي شكلت هوية السوق على مدى عقود.
الجدير بالذكر أن العديد من تجار سوق الجمهورية، أرجعوا سبب الإهمال الذي طال المنتجات التراثية إلى الحرب التي أجبرتهم على بيع الأسلحة والحصول على مصدر دخل جديد لإعالة أسرهم، بسبب الظروف الاقتصادية المتردية التي تعيشها البلاد منذ اندلاع الحرب.
تبريرات الجهات المعنية
السلطات الأمنية في مدينة تعز تقول إنها لا تستطيع منع بيع الأسلحة، ولكنها تعمل على مراقبة البيع والشراء التي تتم في سوق السلاح داخل المدينة.
مساعد مدير الأمن لشؤون الأحياء السكنية العقيد سمير الأشبط، يقول لـ"خيوط"، إن سوق الجمهورية يباع فيه السلاح منذ الأزل، كما يعتبر السلاح من العادات والتقاليد في البلاد، معتبرًا السلاح موروثًا حضاريًّا توارثه الآباء والأجداد منذُ القدم، لكن الحرب الدائرة في البلاد جعلت الكثير من الناس يقبلون على شرائه، بحسب الأشبط.
ومضى الأشبط بالقول: "إن اليمن يتواجد فيه 60 مليون قطعة سلاح قبل الحرب والآن أصبح المواطن يمتلك أكثر من قطعة، مما يعني أن العدد تضاعف مع استمرار الحرب في البلد"، مؤكدًا وجود رقابة على تجار السلاح لمعرفة مصدره والأطراف التي يذهب إليها.
تبريرات السلطات المحلية المعنية، لم تتعدَ مراقبة بيع الأسلحة وأنها على علم بذلك، مما يعني أن السوق، الذي لطالما كان معلمًا تراثيًّا بما يزخر به من التراث الفريد ومحتوياته الجمالية من المنتجات والتحف الأثرية، قد تحول إلى سوق لبيع وشراء كل مستلزمات الحرب من الملابس والأحذية والحقائب العسكرية، على مرأى ومسمع الجهات المعنية داخل المدينة التي لم تتخذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على السوق.
رغم كونه أحد مفردات ذاكرة المدينة وأهم وأقدم المعالم التاريخية بالمحافظة، وارتباط اسمه بذاكرة الكثيرين، وبالذات القادمين من خارج تعز، إلا أن ذلك لم يكن كفيلًا بحمايته من الاندثار بسبب تبعات الحرب.
مناشدات للحفاظ على ما تبقى
ما بين الحين والآخر تتكرر نداءات المهتمين بالآثار إلى تدخل الجهات الرسمية للحفاض على عراقة هذا السوق من خلال تبني مبادرات جادة لدعم الحرفيين وتأهيل السوق، باعتباره السوق الأثري الشاهد على أصالة هذه المدينة، وكذا التدخل الجاد من قبل السلطات الأمنية لإيقاف توسع تجارة السلاح التي باتت هي الأكثر رواجًا في أسواق المدينة القديمة.
يقول مدير مكتب الثقافة، عبدالخالق سيف، في حديثه لـ"خيوط"، إن الإهمال الذي يطال الأماكن التاريخية موجود منذ ما قبل الحرب وجاءت الحرب لتعقد الموضوع أكثر؛ لأنها أماكن تحتاج لاهتمام خاص ونوعي عبر مختصين وإمكانات كبيرة لبث الحياة في هذا الموروث، بالإضافة إلى ترميم هذه الأماكن للحفاظ عليها.
ويتابع مدير مكتب الثقافة حديثه بالقول: "تحتاج الأسواق القديمة إلى ما تحتاجه المدينة المسورة وأبوابها التاريخية من قرارات حازمة تمنع استخدام الأسواق في غير ما أُوجِدت لها وقامت عليه عبر التاريخ"، مؤكدًا أن القرارات الشجاعة هي الكفيلة بجعل الأسواق بعيدًا عن العمران وطمس المعالم الأصلية لهذه الأماكن، ودعم من توارثوا هذه الحرف والمهن لاستعادة ما اندثر بسبب التطور وعزوف الحرفيين عن هذه المهن المتوارثة منذ القدم.