تظل الحربُ الجريمةَ الأولى والأكبر في التاريخ البشري كله منذ قابيل وهابيل حتى يوم القيامة. الاغتيال، القتل، الإرهاب، العنف، الدمار، والإهلاك، و...، و...- كلها مفردات من مفردات الحرب الكريهة.
في اليمن المنكوبة بالحروب، والموءودة بالصراعات، والمنذورة للدمار، يتسيد المشهد فيها زعامات وقوى حكمت وتحكم اليمن بالقوة، وليس لها من شرعية للحكم والاستنقاع فيه غير تسعير الحروب، واستمرار التنازع والصراع؛ فالمعارضون بالسلاح والحاكمون به وجهان لعملة واحدة؛ هدفهما الأول والأخير "من يحكم"؛ ولا شيء غير الحكم، والحكم لديهما أو لديهم ليس غير التسلط والفساد والاستبداد.
الحرب في اليمن منذ ستة أعوام ضدًّا على الشعب اليمني، ولا علاقة لها بدين، أو وطن، أو قومية، أو بمطالب شعبية من أي نوع؛ فهي حرب تقاتل على المال والسلطة؛ والشعب اليمني كله ضحية الحرب.
التأويل الجهوي للحرب، أو التفسير الطوائفي، أو قصرها على القبيلة، أو السلالة، أو الحزب، عبث لا صلة له بالواقع؛ فهذه الحرب -في المستوى الأهلي- تقودها أحزاب الحكم التي عجزت عن الاستمرار في الحكم أو حل خلافاتها إلا باللجوء للحرب التي انخرطت فيها مليشيات أنصار الله (الحوثيين)، وتجار حروب من الجهات الأربع، ومن الطوائف، والقُبُل، وفئات وشرائح مختلفة.
التدخل والدعم الإقليمي هو الذي يوظف ويقوي كل هذه المعاني الكريهة لتفكيك المجتمع اليمني وتمزيق نسيجه المجتمعي، لإطالة أمد الحرب، وتحويل اليمن-كل اليمن- إلى كنتونات متعادية ومتحاربة، ليتمكن من التحكم بها.
العصبيات شديدة التخلف والمقت، والجهوية، والطائفية، والقبَلية، ودعاوى الأنساب والأحساب موجودة، يجري أدلجتها وتسييسها وتحزيبها وعسكرتها، في حرب التصارع على الحكم ونهب الثروة وتجزئة المجزأ.
العودة باليمن إلى ما قبل الإسلام مستحيل قدر استحالة استدعاء دولة القاسم بن محمد، أو أي دولة من الدول الغابرة، أو حتى عودة الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر، هي أيضًا مستحيلة.
للأسف الشديد ليس هناك رصد دقيق لجرائم الحرب. هذه الحرب -في بلد الحروب المستدامة والمتناسلة- غير مسبوقة؛ لأنها، ولأول مرة، تشمل وتعم اليمن كله: جنوبًا وشمالًا، شرقًا وغربًا، ويتداخل فيها الأهلي بالإقليمي بالدولي، ويكون اليمن ميدان صراع للأطراف الإقليمية والدولية؛ بحيث يستحيل حسم الحرب لصالح أي طرف، كما يصعب أيضًا التوافق على وقفها.
الطرف، أو الأطراف اليمنية، مجرد "شُقاة" في الحرب، والطرف الإقليمي هو الأساس، واليمن كلها مرتهنة لصراع الأطراف الإقليمية والدولية؛ فلا يمكن وقف الحرب في اليمن بدون حل الصراع الإيراني- الأمريكي، وموقف التحالف الذي تقوده السعودية مرتهن لهذا الصراع، والشعب العربي كله ضحية أيضًا.
حرب السعودية في اليمن غير معزولة عن الحرب الأمريكية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين؛ فالحل في اليمن مرتهن للحل الأمريكي في المنطقة كلها، وللصراع علاقة ما بالصراع الدولي القائم والقادم؛ فأمريكا القطب الواحد لا تريد الزحزحة أو المنافسة، وترى في الصين المؤهلة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، وإلى حدٍّ ما عسكريًّا، العدو رقم واحد، وترى في تمددها الاقتصادي في العديد من القارات، مصدر الخطر. كما ترى في طريق الحرير بداية الهيمنة الصينية، وأفول نجم القطب الواحد.
تدخل الحرب عامها السابع، وتعتبر اليمن أسوأ كارثة على وجه الأرض؛ فالمجاعة تتجاوز الثمانين في المئة، والموتى بالأوبئة الفتاكة ينافسون قتلى الحرب
لِمَا يقرب من أربعة أعوام، ظلت الصحف العالمية، ووكالات الأنباء، والمراسلون، والتقارير الدولية، تتحدث عن عشرة آلاف قتيل في اليمن، حينها كان القتل في صفوف المتقاتلين قد تجاوز المئتي ألف، أما في صفوف الشعب، فمئات الآلاف، ولا يجري الحديث في كل هذه الوسائل عن الجرحى، والمشردين، وتهديم المدارس، والمستشفيات، والمنازل، والمساجد، والآثار، والأحياء السكنية، والأسواق الشعبية، والمؤسسات، والدوائر الحكومية، وصالات العزاء والأعراس، والمؤسسات التجارية، وقوارب الصيد، وسيارات النقل، والجسور، والمزارع، والمصانع، والقرى. كما لا يجري الحديث عن الحصار البري والبحري والجوي، ولا عن الحصار الداخلي الذي عزل المدينة عن المدينة، والقرية عن الأخرى، كما لا يجري الحديث عن ملايين المشردين داخل وطنهم، ولا عن الأوبئة الفتاكة في ظل انعدام الأدوات الطبية أو الأدوية أو الخدمات الطبية، وانزواء الأطباء المحاصرين بالأمراض، وعدم وجود مرتبات أو أمن واستقرار، وليس العتب على وسائل الإعلام الدولية؛ فعدم وجود إعلام في الداخل اليمني، أو صحافة، أو حرية لعمل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والحقوق والحريات اليمنية المغيبة قسريًّا من قبل المتحاربين، هو مصدر الخلل الأساس.
جرت دعوات متكررة لتشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم الحرب في اليمن، وتبنت هولندا مشروع قرار لتشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم الحرب، واستجاب المفوض السامي لهذه الدعوة، ولكن كل أطراف الحرب لم يكن مع تشكيل لجنة دولية محايدة ومستقلة تابعة للأمم المتحدة تحقق في كل الجرائم؛ لأنهم كلهم وارطون في هذه الجرائم. واستطاعت السعودية، ومعها الإمارات بنفوذها، الحيلولة دون تشكيل هذه اللجنة، لتستمر الجرائم وتتزايد حتى اليوم.
تدخل الحرب عامها السابع، وتعتبر اليمن أسوأ كارثة على وجه الأرض؛ فالمجاعة تتجاوز الثمانين في المئة، والموتى بالأوبئة الفتاكة ينافسون قتلى الحرب، أما تجنيد الأطفال، فقاسم أعظم ومشترك بين كل أطراف الحرب.
الحياة برمتها تتعرض للتهديد الشديد، والمخاطر لم تعد محصورة في جرائم الحرب الكاثرة؛ فهناك المجاعة التي تعصف بالملايين، والأوبئة الفتاكة، والمليشيات المنتشرة في طول اليمن وعرضها، تدفع بالشعب إلى الفناء، وتنهب أرزاق الملايين، وتنتزع لقمة الخبز الكفاف من أفواه الجياع.
ندرك مدى ارتباط الحرب في اليمن بالصراع الإقليمي والدولي، ولكن ذلك لا يعفينا -كيمنيين- من التحرك في عموم اليمن للمطالبة بإيقاف الحرب.
جهود "دعاة السلام"، ودور "منظمة مواطنة" في الدفاع عن الحقوق والحريات، والتوثيق لبعض جرائم الحرب فيما يتعلق بجرائم قصف الطيران، واستهداف المدن والمدنيين، وتجنيد الأطفال، جهد مهم يستحق الإشادة.
كما أن التحرك عبر البيانات، أو الاحتجاج السلمي في عدن وتعز وحضرموت ضدًا على الحرب، وضد التفلت الأمني، والفساد والاستبداد، ينبغي أن يتحول إلى حراك شعبي.
ندرك أيضًا أن أي حل يطبخ في المستوى الإقليمي والدولي بدون مشاركة فاعلة وحية لليمنيين في الشمال والجنوب، وللمرأة والشباب والمستقلين، ولقوى المجتمع المدني والأهلي، وقواعد الأحزاب الرافضة للحرب، لن يكون في صالح اليمن، ولن يعبر عن إرادتها.