أدت الحرب في اليمن منذ منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة، إلى تشظي جغرافية البلاد إلى أجزاء تقاسمتها أطراف النزاع، بينما أحدث هذا التشظي مشاكل كبيرة أمام حركة تنقّل المواطنين في عموم البلاد. ومنذ تقاسم أطراف النزاع النفوذ على الجغرافيا اليمنية، لا يستطيع المسافر أن يتنقل من محافظة إلى أخرى ومن الشمال إلى الجنوب -والعكس- دون إعاقات في الطريق والتباسات وشكوك وسجن وموت يتربص بالمسافرين في نقاط التفتيش وخطوط التماس بين جبهات القتال.
وفي ظل تمزيق المؤسسة العسكرية إلى أجنحة موالية لهذا الطرف أو ذاك في الحرب الدائرة حتى اليوم، حل مكان القطاعين العسكري والأمني، المكلّفين بحماية المواطن وتنظيم شؤون الحياة اليومية، حلت محلهما جماعات مسلحة عصبوية تمجّد القتال كواجب مقدس، وترتدي البزة العسكرية ولباس الأمن، حتى غدت أهم مؤسستين ضامنتين لأمن المواطن وحقوقه في حرية التنقل، موصومةً بانتهاكات معظم حقوق الإنسان، وملطخة بدماء الأبرياء.
هذا التشظي أحدث مشاكل متعددة للمواطنين وأصحاب الأعمال، حيث لا يزال التنقل بين محافظة وأخرى، أو بين اليمن والدول الأخرى، أمرًا شديد الصعوبة ومحفوفًا بمخاطر قد تصل إلى الاحتجاز التعسفي أو القتل. وإلى ذلك، لا يزال المسافرون بين المحافظات يعانون من مشقة الطرق الوعرة والطويلة، التي استحدثت بعد تقسيم جغرافيا البلاد إلى مربعات للمواجهات المسلحة.
إفرازات الحرب
أفرزت الحرب المزيد من المخاوف على إثر بروز النزعات المناطقية والعنصرية والطائفية، حيث لا يمر يوم دون أن يحجز أو يسجن العشرات بسبب ألقابهم العائلية أو حتى تشابه الأسماء، والفرز على مستوى الانتماء الحزبي والعقائدي والقبلي، وكل ذلك في ظل انعدام أدنى هوامش الحريات الشخصية وانتهاك الحقوق المدنية.
أحمد محمد، أحد أهالي محافظة إب، كان في زيارة له إلى أخته في محافظة البيضاء، حيث كانت حديثة الولادة وتقتضي التقاليد الاجتماعية تبادل الزيارات في مثل هذه المناسبات. غير أن أحمد لم يستطع حينها تنفيذ زيارته العائلية، نتيجة المصاعب والعراقيل التي واجهها في طريق ذمار البيضاء. وفي حديثه "لخيوط"، يصف تراجيديا الحرب وما أحدثته من تقسيم للجغرافيا اليمنية الواحدة والموحدة، والتي تعيدنا إلى ما قبل تسعينيات القرن العشرين الفائت، وتذكرنا بالصراعات الدامية في زمن ما قبل الوحدة وحتى 1994.
يقول أحمد: "عندما كنت في طريقي من إب، لم أواجه أي مشكلة، إلى إن وصلت على تخوم مدينة البيضاء، بالتحديد في نقطة "أبو هاشم" كما يسمونها. هذه النقطة التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) صارت معروفة لدى المسافرين بتشددها في أخذ التدابير الأمنية وفرز كل اسم مشتبه فيه أو مبلغ عنه، واعتقال بعض المسافرين".
تقع نقطة "أبو هاشم" الأمنية بالقرب من مدينة رداع، على الطريق الرابط بين المحافظات الشمالية الواقعة تحت سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، وبين مدينة مأرب، الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا -باعتبارها نقطة تماس بين أطراف النزاع- وأردف أحمد بالقول: "عندما وصلنا في باص مليء بالركاب، تفاجأنا بطابور طويل من السيارات على الطريق، بينما يقف المسافرين، في انتظار التحقيق عند مدير أمن النقطة، وعندما وصل عند اسمي، نظر إلى بطاقتي وقال: "اللقب مشتبه به، وسوف تظل هنا حتى استكمال التحقيقات؛ لنتأكد من أنك غير متجه إلى مأرب أو عدن". وهكذا تم احتجازي بدون مقدمات وبدون معرفة السبب، وتساءلت حينها: "هل اللقب المتناقل من الأجداد للأجيال، جريمة!".
كان المواطن نائف صالح في طريقه إلى مطار عدن لينقل أمه المصابة بمرض القلب إلى خارج اليمن، إلا أن نقطة تفتيش في مدخل مدينة عدن لم تسمح له بمواصلة طريقه فلم يتمكن من السفر
خضع أحمد لتحقيقات مكثفة في نقطة التفتيش، تخللها تفتيش الهاتف المحمول لأحمد والاطلاع على كل محتوياته بدون مراعاة للخصوصية الشخصية، كما خضع هاتفه لإجراء استعادة جميع المحتويات المحذوفة، ومع ذلك لم يجدوا شيئًا يدينه. "لم يجدوا شيئًا يدعم فرضيتهم بكوني مشتبهًا به، لكنهم أصروا على احتجازي في مكان لم أستطع التنفس فيه، بدون أن يقدموا لي طعامًا أو شرابًا". لاحقًا عرف أحمد أن اشتباه أفراد النقطة بلقبه العائلي، كان بسبب أن أحد الوزراء في الحكومة المعترف بها دوليًّا يحمل نفس اللقب. ويتابع: "كان هذا هو السبب الرئيسي لكل ذلك التحري، وبعد وساطات واتصالات، أطلقوا سراحي في اليوم الثالث من الحجز التعسفي، لكنهم لم يسمحوا لي بمواصلة السفر. أعادوني إلى محافظة إب، أجرّ معاناة التعب والسفر والشعور بالأسى حيال هذا الواقع الأليم".
من حديث أحمد، يظهر حجم المأساة التي يعاني منها المواطن اليمني في ظل ظروف قاهرة وحرب عبثية، وكيف يتم تمزيق نسيج المجتمع اليمني الموحد، لكن أحمد ليس سوى نموذج لآلاف المسافرين الذين انتهكت حقوقهم الإنسانية وحقوق مواطنتهم منذ بداية الحرب.
نائف صالح، أحد أهالي محافظة صنعاء، تحدث "لخيوط" عن كارثة الحرب وأثرها السلبي على المواطن في شتى مجالات الحياة، ومن ذلك قصة محاولته نقل أمه للعلاج خارج اليمن. يقول نائف إن أمه المصابة بمرض القلب، كان مقرر لها السفر إلى الخارج لزرع بطارية مساعدة للقلب، وبما أن مطار صنعاء مغلق أمام جميع الرحلات، لم يكن أمامه خيار آخر غير السفر إلى عدن، ومنها إلى خارج اليمن.
يضيف: "ونحن في طريقنا صوب عدن، كانت الطريق مليئة بالحفر والمطبات، وبنقاط التفتيش، لكن بموجب التقرير الطبي من مستشفى آزال كنا نمر بسلام رغم التحريات المشددة في نقاط التفتيش".
كما تحدث نائف عن مشقة السفر، وكيف كانت الأرض متقدة أثناء قطعه المسافة التي زاد طولها وتضاعفت مشقتها بين صنعاء وعدن. يقول: "في أغسطس 2019، كان الصراع متأججًا بين المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات، وبين الحكومة المعترف بها دوليًّا، وعلى طول الخطوط الرئيسية إلى عدن، نقاط عسكرية متمركزة تفرز المواطنين على أساس الجهة: شمال/جنوب". وحسب المواطن نائف صالح، فقد منعته نقطة تفتيش على مدخل مدينة عدن، من مواصلة سفره نحو المطار لنقل والدته للعلاج خارج البلاد.
سلام ليس في المتناول
شعارات السلام التي كان اليمنيون يقرؤونها على امتداد الطرقات، تلاشت وذهبت أدراج الريح، وحلت مكانها شعارات تدعو لاستمرار الحرب، وإلى جوارها الكثير من صور القتلى، وخلال هذا كله، العشرات من نقاط التفتيش تمارس سلوكًا عدوانيًّا وترهيبيًّا ضد المسافرين القادمين من مناطق يسيطر عليها الطرف الخصم.
أمجد ماجد أحد أهالي تعز، وهو طالب جامعي، يتحدث "لخيوط" عن رحلة سفره في عطلة ما بعد الاختبارات، وعن المتاعب التي تعرض لها أثناء السفر من صنعاء إلى تعز، وحجم المشقة التي أثقلت كاهل الناس، مقارنة بالماضي، حين كانت الرحلة بالسيارة أو حافلات النقل بين المحافظات، تستغرق خمس ساعات على الأكثر. أما في زمن هذه الحرب، فقد استغرقت رحلة أمجد 15 ساعة، في ظل إغلاق المنفذ الرئيسي المؤدي إلى المدينة من جهتها الشرقية. وهذا الفارق بحد ذاته يعكس فداحة الحرب في تدمير البنية التحتية للإنسان والدولة.
يتم نقل البضائع من الميناء مقابل مبالغ مالية يدفعها التجار شاملة إيجار الشاحنات وجبايات نقاط التفتيش، غير أن كثافة النقاط على الطرقات تقتضي دفع مبالغ إضافية، وهكذا تتضاعف تكاليف البضائع فوق سعر الشراء والنقل والجبايات، ليصبح سعر البيع النهائي خياليًّا
يقول أمجد: "كنت في طريقي من صنعاء إلى تعز، وعندما وصلنا منطقة الحوبان بعد عناء (شرق مدينة تعز)، أوقفتنا نقطة تفتيش يتمركز فيها عدد من الجنود الذين يرتدون البزة العسكرية. نزلنا جميعًا، رجالًا ونساء وأطفالًا، حسب تعليمات أفراد النقطة". يضيف أمجد أنه عرف فيما بعد أن إنزال جميع الركاب من الحافلة، كان بسبب وجود راكب مبلّغ عنه من قبل غرفة عمليات الأمن في صنعاء. ويتابع: "لم يكن ذنب لنا في ذلك، ورغم هذا أوقفونا لأكثر من ثلاث ساعات في جلسة تحقيق وتدقيق في البطائق والهواتف وتفتيش مشدد، متكهنين بأن الركاب متواطئين مع الراكب المبلغ به. لم يحترموا النساء والأطفال، كما هو في العرف اليمني وفي عادات القبيلة، التي تقتضي حماية أي شخص مع عائلته وعدم عرقلة سفره، وذلك احترامًا للمرأة ورفقًا بالأطفال".
موت على الطريق
الخوف يتكاثف في صدور الناس يومًا بعد آخر، الخوف من طريق السفر في وطن لم يعد آمنًا. وكما هو ملحوظ ومسموع منذ بداية الحرب، فإن الكثير من الأرواح أزهقت في الطرقات نتيجة عمليات سطو مسلح في الخطوط الطويلة والصحاري. كما حدث أن سلبت عصابات التقطع في الخطوط الطويلة والبديلة، مسافرين كثر، أموالَهم ومدخراتهم، وتركتهم يعودون إلى منازلهم خاليي الوفاض إلا من شقاء غربتهم الطويلة والمضنية خارج وطنهم.
شمولية الضرر
لم يقتصر الضرر على المسافرين العزّل، بل اتسعت دائرة الخطر لتشمل كبار التجار ورجال الأعمال، وسائقي الشاحنات التابعة لكبار التجار، الذين تصادر بضائعهم أو تمنعها من الوصول إلى وجهتها في حال لم يدفعوا مبالغ طائلة مقابل السماح لشاحنات نقل البضائع بالمرور من نقاط التفتيش.
أحد سائقي شاحنات نقل البترول والغاز من مأرب إلى صنعاء وبقية المحافظات، تحدث لـ"خيوط" طالبًا عدم ذكر اسمه، عن تجربته في دفع الجبايات لنقاط التفتيش على الطرقات في مناطق سيطرة طرفي النزاع الرئيسيين. يقول ياسين (اسم مستعار) إن البضائع يتم نقلها من الميناء، مقابل مبالغ مالية يدفعها التجار شاملة إيجار الشاحنات وجبايات نقاط التفتيش. غير أن كثافة نقاط التفتيش على الطرقات تقتضي دفع مبالغ إضافية، خاصة في النقاط التي يطلب أفرادها مبالغ كبيرة. "هكذا تتضاعف تكاليف البضائع فوق سعر الشراء والنقل والجبايات، ليصبح سعر البيع النهائي خياليًّا، وضحية كل هذا العبث، هو المواطن البسيط"، يضيف ياسين.
تحرير "خيوط"