"عادة ما يعود ولداي من المدرسة؛ سيف (11 سنة)، في الصف الرابع، وعمر (14 سنة)، في الصف السابع، وهما في حالة يرثى لها، فالعنف والتنمر اللذين يُمارسان عليهما من قبل زملائهما في المدرسة لا تزال آثارهما حاضرة وشاهدة على ذلك". هكذا بدأ أحمد البشيري (35 سنة)، حديثه لـ"خيوط"، بحرقة وألم.
يقول البشيري إن المشكلة تكمن في عدم صدور أي فعل سيئ من أولاده تجاه زملائهم، يدفعهم لردة الفعل العنيفة تلك تجاه طفليه.
يضيف أنه لم يلقَ أي تجاوب من إدارة المدرسة عندما ذهب ليشكو وضع طفليه بخصوص التنمر الذي يتعرضان له داخل المدرسة، بل إنه فوجئ باللامبالاة وعدم اكتراث الإدارة لهذه المشكلة. متفاجئًا في الوقت ذاته من رد وكيل المدرسة له بالقول: "لدى أولادك أيادٍ ليدافعوا عن أنفسهم، لا تنقصنا مشاكل من هذا النوع".
في السياق، يقول ياسين القباطي (40 سنة)، وهو مدرس لغة عربية في إحدى المدارس الحكومية، لـ"خيوط"، إن مجموعة من تلاميذ الصف التاسع قاموا بالاعتداء على أحد معلميهم، وكان أستاذ مادة التربية الإسلامية، الذي التحق بالعمل تطوعًا منذ ثلاث سنوات.
القباطي يوضح أن مثل هكذا تصرف يطال المعلمين لم يكن الأول ولن يكون الأخير، مشيرًا إلى أن الظاهرة باتت متفشية وتحدُث بين حين وآخر، هذا إضافة إلى العنف القائم بين التلاميذ أنفسهم بشكل يومي.
بيئة خصبة للتنمر
أسباب كثيرة تكمن خلف هذه الظاهرة التي تتفاقم بشكل كبير جدًّا، والتي لها أثر كبير على حياة التلاميذ حاضرًا ومستقبلًا، إلا أن الحرب التي تقترب من سبعة أعوام، والتي أدت إلى انقطاع رواتب المعلمين منذ العام 2016، تظل هي المشكلة الأساسية لكل هذه التداعيات الفرعية داخل العملية التعليمية.
وكيل شؤون المعلمين بمدرسة جمال عبدالناصر: "عندما يجد التلاميذ أنفسهم فارغين داخل الفصول، فإنهم يُخرجون طاقاتهم الكامنة ويتصرفون بعنف، ويتمثل ذلك في المشاغبة، حتى يصل الأمر مع مرور الأيام والأشهر والسنوات إلى سلوك عدواني
أحمد الصبري (45 سنة)، (اسم مستعار بحسب طلبه)، وهو مدير إحدى المدارس الحكومية، يقول لـ"خيوط "إن المدارس اليمنية باتت بيئة خصبة للعنف في ظل الحرب المستمرة في البلاد.
يؤكد الصبري أن ذلك الأمر يحدث بسبب تدهور العملية التربوية نتيجة الحرب التي أدت إلى انقطاع مرتبات المعلمين منذ العام 2016.
وأشار الصبري في حديثه إلى أن تفاقم هذا السلوك العدواني الذي أصبح يشكل ظاهرة كبيرة يدل على أنه كان للمدرسة قبل الحرب الدور الأبرز في الجانب السلوكي مقارنة بالأسرة، مؤكدًا في حديثه على استحالة قيام المدرسة لوحدها بالحد من تلك الظاهرة، حتى في حال عودة وضع المعلم والعملية التعليمية إلى ما قبل الحرب: "يستحيل أن تحد المدرسة وحدها من ظاهرة العنف".
فراغ دراسي
في السياق ذاته، يعزو أحمد الدغشي، وكيل شؤون المعلمين بمدرسة جمال عبدالناصر، ومشرف تربوي ضمن إحدى مديريات صنعاء، تداعيات هذه الظاهرة إلى الفراغ الدراسي الذي يعيشه طلبة المدارس.
يقول الدغشي إن "الفراغ الدراسي الذي يعيشه التلاميذ داخل الفصول الدراسية لأكثر من ثلاث حصص يوميًا هو أول سبب لهذه الظاهرة، على أن الحرب هي السبب الرئيسي في ذلك"، مشيرًا إلى أن انقطاع رواتب المعلمين هو السبب الثاني لذلك.
يتابع: "عندما يجد التلاميذ أنفسهم فارغين داخل الفصول، فإنهم يُخرجون طاقاتهم الكامنة ويتصرفون بعنف، ويتمثل ذلك في المشاغبة وكافة أنماط السلوك العدواني، حتى يصل الأمر مع مرور الأيام والأشهر والسنوات إلى سلوك عدواني عنيف وظاهرة لا تطاق".
وفي حديثه، يستشهد الدغشي بالجهود التي يقوم بها عادة هو وزملاؤه في تغطية بعض الحصص التي يصادف أن تكون شاغرة في ظل غياب الكادر التعليمي، بالقول: "أضطر أحيانًا أن أغطي بعض الحصص عوضًا عن أي معلم غائب، لكيلا تتشكل فوضى بين الطلاب، هذا ونحن في مدرسة جمال عبدالناصر، التي تجسد أحد أسمى النماذج للمدارس في اليمن".
يحدث هذا في مدرسة جمال عبدالناصر أعرق المدارس الحكومية في اليمن، فكيف سيكون الوضع في بقية مدارس الجمهورية، التي تشهد غيابًا شبه كلي للمعلمين وتعيش فراغًا تربويًّا وتعليميًّا بشكل مستمر.
من ناحية أخرى، يؤكد المعلم مقبل محمد، وهو أكاديمي وتربوي، أن غياب تخصص التربية الرياضية، والأنشطة الرياضية والثقافية عن المدارس كليًّا، وخصوصًا في ظل الحرب، يؤثر في مفاقمة ظاهرة العنف والتنمر داخل المدارس.
يقول مقبل، إن غياب الأنشطة المدرسية الرياضية والثقافية، التي تهدف إلى خلق جو من التسلية والمرح، كان بكل تأكيد مبعث للفوضى والعدوانية في أوقات الفراغ، وخصوصًا في ظل الحرب التي لها آثارها النفسية على التلاميذ، وبالتالي فإنهم بحاجة إلى تكثيف مثل هذه الأنشطة"، لكن معلمي التربية الرياضية لا تختلف ظروفهم عن غيرهم، وليس في اليد حيلة"، يقول.
غياب إداري
يربط محمد الموشكي، (اسم مستعار)، وهو مشرف تربوي لدى إحدى المدارس في صنعاء، بين ضعف الإدارة المدرسية تجاه المعلمين والطلاب وغياب القيمة الاعتبارية للمعلم ودوره. يقول لـ"خيوط"، إن ذلك الأمر يشكل مصاعب كثير ويخلف العديد من مظاهر العنف وردود الفعل الهوجاء من قبل الفئة المتأثرة بتدهور التعليم وهي التلاميذ.
منذ انقطاع رواتب المعلمين بسبب الحرب، أصبح التعليم في المدارس الحكومية يقام بجهود ذاتية، ينفذه المعلمون الذين لم يتخلوا عن مهنتهم، وهم قلة، إذ أدى ذلك إلى ضعف الأداء التعليمي داخل المدارس.
يستدرك الموشكي: "لكن تظل الفئة المتأثرة هي الفئة التي تصدر ردود الأفعال وهم التلاميذ، وفي ظل غياب وضعف أداء المشرفين التربويين تتلاشى قيمة المعلم عند التلاميذ، وتصبح ممارسة أي سلوك مزعج أمرًا عاديًّا".
حسب مختصين في علم الاجتماع فإن كل ما رافق الحرب في المجتمع اليمني منذ ما يقرب من ست سنوات من مشاهد الدمار والعنف ينعكس على الطلاب داخل المدارس
الأستاذ والأكاديمي غازي الهلالي، وهو متخصص معلم صف، يقول لـ"خيوط" إن إدارة المعلم للصف "الإدارة الصفية" التي تُعنى أولًا بالمتعلم وتوفر له الجو الملائم للفهم والاستيعاب والتركيز، أصبحت وللأسف شبه معدومة في الكثير من الحصص الدراسية، وخصوصًا أثناء حصص المعلمين المتطوعين، ومنهم خريجو الثانوية، الذين يفتقدون لأبسط مقومات هذه الإدارة، الأمر الذي يخلق جوًّا غير مهيأ للتلاميذ، ويصبح هناك تنافر وعدوانية بين فئاتهم، فهناك من يريدون مثلًا متابعة المعلم، وهناك من يشكلون مصدر إزعاج لذلك؛ والسبب هنا يعود إلى عدم كفاءة المعلم في ضبط الفصل.
العنف يولد عنفًا مضادًّا
حسب مختصين في علم الاجتماع، فإن كل ما رافق الحرب في المجتمع اليمني منذ ما يقرب من ست سنوات من مشاهد الدمار والعنف ينعكس على الطلاب داخل المدارس.
الأستاذة المساعدة في قسم الاجتماع بجامعة عدن، رضية باصماد، ترى في حديثها لـ"خيوط"، أن مشاهد الحرب اليومية في المجتمع التي يطغى عليها القتل والدمار والأوبئة، والتي تُنقل عبر وسائل الإعلام المختلفة أو في الشارع اليمني؛ ولّدت لدى التلاميذ رد فعل مشابه، بصفتهم قاصرين وغير قادرين على مواجهة آثار ما بعد الصدمة، وأصبحوا يمارسون العنف في المدرسة، باعتبارها المكان الذي يجمعهم. يحدث ذلك على وجه الخصوص بسبب تدهور وغياب الكادر التعليمي.
بالإضافة إلى ذلك، تشير باصماد إلى أن عدم استخدام المعلمين وسائل تعليمية مختلفة تراعي الفروق الفردية بين التلاميذ في الاستيعاب يولد لدى التلاميذ عقدة من المادة ومن المعلم، وعادة ما يكون رد فعل المعلم تجاه التلميذ بالانتقاد اللاذع ونعته بمصطلحات كالفشل أو استخدام العقاب بالضرب، وهو ما يزيد من حدة التوتر والقلق لدى التلاميذ، وقد ينعكس الأمر على نحو عدواني مباشرة تجاه المعلم.
من جهته، يقول عدنان ياسين، معلم حاسوب، إن تلاميذ المدارس يعيشون حربًا افتراضية لها آثارها التي قد تفوق آثار الحرب على أرض الواقع، وتدفعهم إلى أعمال العنف والتنمر بشكل يومي.
يوضح ياسين لـ"خيوط"، أنه في ظل التطور التكنولوجي وسهولة امتلاك الكثير من التلاميذ أجهزة ذكية، رافق ذلك توفر ألعاب إلكترونية تطغى عليها مشاهد العنف وسحق الخصوم واستخدام كل الوسائل التي تمكن مستخدمها من الانتصار والفوز. ويقول إن أكثر هذه الألعاب هي لعبة "البوبجي"، التي مُنعت في الكثير من الدول.
يعيش مدمنو هذه اللعبة لحظات مباشرة مرئية ومسموعة لسحق خصومهم، كما يؤكد هذا المختص؛ ولهذا تجدهم يتفاعلون بشكل كبير أثناء اللعب الذي يستمر لساعات طويلة في اليوم الواحد، وهو ما يجعلهم يكتسبون سلوك العدوانية بشكل اعتيادي جدًّا.
عوامل نفسية
عوامل نفسية أيضًا كانت طرفًا في تفاقم هذه الظاهرة في ظل الحرب، بحسب قول نشوى ياسر، متخصصة في علم النفس التربوي لـ"خيوط".
تضيف، أن الحرب خلفت ظواهر الفقر والفقدان والنزوح لمعظم الأسر، وذلك الأمر له تبعات نفسية كبيرة تؤثر على التلاميذ في المجالات السلوكية والاجتماعية والانفعالية، ولها علاقة بظاهرة العنف لديهم.
عندما يفقد التلميذ والده في ظروف الحرب المختلفة، يصبح في حالة من عدم الإدراك للعالم الخارجي، وفق نشوى ياسر، وقد تنشغل عنه والدته وبهذا يصير لا يعرف السلوك القويم الذي لا بد أن يسلكه، وخاصة في ظل وضع تعليمي متدهور بشكل كبير.
وفي المجمل، يعيش التلاميذ اضطرابات نفسية وعدم استقرار نفسي وخوف من المجهول، وذلك ينعكس في سلوكهم، الذي غالبًا ما يكون عدوانيًّا بين الأقران أو حتى مع فئات أخرى.
ووفقًا لتقرير حديث لمنظمة إنقاذ للطفولة، فإن السنوات الخمس الماضية كان لها تأثير مدمر على الصحة العقلية لجيل كامل من الأطفال. وبحسب التقرير، فإن الأطفال في اليمن تظهر عليهم مؤشرات مماثلة للصدمات، مثل الأطفال في مناطق النزاع الأخرى، مثل العدوانية والتبول اللاإرادي والكوابيس واليقظة المفرطة والحزن والاكتئاب والقلق والشعور بالانسحاب.
ووجدت دراسة أجريت على 912 طفلاً في العاصمة صنعاء، أن 79% منهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.
زاوية نظر اجتماعية
الأخصائية الاجتماعية افتكار الأغبري، تؤكد عدم قدرة الأخصائي الاجتماعي بمفرده على معالجة ظاهرة برمتها، معتبرة الدور الذي يقوم به الأخصائي الاجتماعي هو معالجة سلوك لحالات لا تتعدى 10% من التلاميذ، مؤكدة أن الأخصائي الاجتماعي بحد ذاته يعيش حالة عدم استقرار، نفسيًّا وماليًّا وأسريًّا في ظل انقطاع الراتب.
كما أن مسببات هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة أصبحت مختلفة، حيث تأتي أكثر هذه الأسباب من خارج منظومة المدارس، على أن المدرسة غدت مؤخرًا المسرح الأول لظاهرة العنف لدى الأطفال.
وفي ختام حديثها، تقول الأغبري، إنه لا سبيل للحد من هذه الظاهرة التي وصفتها بـ"الكارثية" إلا بوقف الحرب وعودة جميع أفراد المجتمع إلى الحياة الطبيعية، وضرورة التعاون المشترك بين الأسرة والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام، كون الجميع متسببًا في هذا السلوك العدواني، وليس التلميذ، بصفته طفلًا، إلا متأثرًا بكل ما يحدث له.