فيرونيكا مينالدي
ترجمة: ربيع ردمان
تُوُفِّيَتْ والدتي في نوفمبر 2020 جرّاء إصابتها بمرض السرطان، وأودُّ أن أقول – رغم أن هذا قد يُنْسَب إلى التَّكلُّف – إنَّه ما مِنْ يومٍ يمُرُّ دون أن تخْطُر على بالي وأشعر بافتقادها. لقد ولَّد موتُها لديَّ نزوعاً داخلياً إلى تبادل الآراء حول الموت والحُزن. ومن خلال الحديث حولهما، والتأمُّل مَلِيَّا فيهما، ومعاناة معايشتهما، ودعوة الآخرين إلى مشاركتي في النقاش، وجدتُ نفسي قادرةً على بناء مساراتٍ جديدةً لمتابعة حياتي.
فجوة الجسد والروح
أعرف أن تفاصيل الفُقْدَان شأنٌ خاص بي، وفي الوقت نفسه أدرك أنني لستُ الوحيدة التي خَبَرَتْ الحُزن وكابَدَتْهُ. ولعل العديد منكم الذين يقرأون هذا يدركون أيضاً كَمْ هو صعبٌ تحمُّله. ولكوني مختصةً بالعصور الوسطى ودارِسَةً للأدب، فلا غرابة أن أجد عَزَاءً في القصص والكلمة المكتوبة. مِن النُّصُوص التي أجدُّ لها وقعاً خاصاً يتجاوَب مع ردَّة فعلي تجاه الحزن حكايةٌ فلسفية "حَيّ بن يَقْظَان" من القرن الثاني عشر [الميلادي] للعَالِم الموسوعي الأندلسي ابن طُفَيْل. ومن جُمْلة ما تختصُّ به أنّها قصة تعليم ذاتي يستغرق بَطَلُها في التفكير بمنزلته داخل الكون. لقد وجد نفسَه مدفوعاً إلى هذا المَسَار الذاتي التَّوَجُّه بوفاة الأم التي لم يَعْرِف غيرها في حياته، وما كانتْ سوى غَزَالةٍ ربَّتْهُ منذ الصِّغَر. إنَّه الفُقْدَان فحسب مَنْ أحْدَثَ هذا التغيير في حياة حَيِّ وجرَّه إلى استكشاف الفَجْوة بين الجَسَد والرُّوح – أو بين المادي وغير المادي. أخذ يتفَّكر في الكيفية التي لا بد أن تكون بها الرُّوحُ امتداداً لطاقةٍ خَلَّاقة عُظْمَى توحِّد كلَّ شيءٍ في الطبيعة، ومن ثَمَّ يتوصَّلَ إلى معرفة "الله" من دون أيّ نصٍ مُوحَى به.
لقد رأيتُ في حَيّ أوجه شبه بنفسي؛ فهناك شخصٌ دفعه فُقْدَان والدته إلى التساؤل عن الوجود والبحث عن وسيلةٍ تُسانده على تحمُّل عِبء الفُقْدَان. لا تعمل هذه القصة على "شفائنا" من الحُزن، وليس وَارِدٌ لدينا أن نتطلَّع إلى حدوث شيءٍ كهذا، لكنها تعمل على إثارة أسئلةٍ وتأملاتٍ من الممكن أن تساعدنا على تقبُّل فكرة المُصيبة. ماذا عَسَانا أن نفعل إنْ أُجْبِرنا على الوقوف بوجه الموت؟ هل نستمر في تجاهله أم نقوم بتَوْطِينه ضمن إدراكنا، فلعلنا نُكوِّن رؤيةً أكثر دقةً فيما يتعلق بكل من سرعة زوال الحياة وطبيعتها المترابطة؟ أتصوَّر أن هذا النشاط تحديداً هو القادر على تزويدنا بما نحتاج إليه لمتابعة حياتنا في عَالَمٍ لم يعد يضُمُّ من الناحية البَدَنِيَّة أحِبَّاءنا على النحو الذي عرفناهم به في السابق.
فهم باطني للكون
عُرِف كتاب ابن طفيل "حَيّ بن يقظان" على نطاقٍ واسع في شمال أفريقيا وإيبيريا [الأندلس] بصيغته العربية الأصلية إلى القرن الرابع عشر عندما تُرْجِمَ إلى اللغة العبرية. وفي القرن السابع عشر تُرجم إلى اللغتين اللاتينية والإنجليزية، وأصبحتْ للكتاب اليوم طبعات حديثة متعددة. إذا نحيَّنا لغة الكتاب جانباً، فإن رسالته الجوهرية تتمثل في الكيفية التي يتمكّن من خلاها المرء، عبر التأمُّل الذاتي ومن دون تدخُل الأعْرَاف الاجتماعية أو الدِّين، من التوصُّل إلى فهم باطِنيّ للكون. ومن جهةٍ أخرى، فالكتاب نصٌّ فلسفيٌّ إلى حدٍ بعيد بيد أنه يستمد جاذبيته من تعرضه لعلاقة بَطَل القصة بالحُزن والحُب. وبطبيعة الحال، فإنّ رغبة حَيّ في فهم دوره في الكون تولّدتْ كردة فعل على موت والدته الغزالة. لقد قامتْ برعايته، وبعد سنوات بَلَغَتْ أَجَلها المحتوم، ولمَّا رآها هامدةً بلا حَرَاك حاول أن يرجعها إلى ما كانت عليه. وأخذ ينظر إلى أنحاء جسدها لعله يعثُر على آفة ظاهرة ليُزِيْلَها ولكنه وجدها غير مصابةٍ بأيّ عارِض ظاهر. وعندها عَلِمَ أن «أُمَّهُ التي عطفتْ عليه وأرضعتْه، إنِّما كانتْ ذلك الشيء المُرْتَحِل... لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو الآلة لذلك». فالجسد آخذ في التغير.
لقد أَنَار موتُها بصيرته لتصور الوجود الكامن وراء العالَم المادي وحثَّه على فهم الطبيعة الدَّوْرِية للطاقة المُنْبَثَّة في العالَم المُتغير على الدوام. ومن خلال وعي حَيّ بهذه الدلائل، توصَّل إلى إدراك أن «جميع الأشياء المادية، برغم ما تنطوي عليه من تنوّع في بعض النواحي، عنصرها واحد في حقيقة الأمر». وإذا كان كلُّ شيءٍ عنصره واحد، فلن يتعرَّض للفناء، بل يطرأ عليه التغيير فحسب. وعند تطبيق هذا المبدأ على الموت، فهذا معناه أن أولئك الذين ماتوا «قد انسلخوا من أحد مظاهرهم واشتملوا على مظهرٍ آخر». وهذا يعني أن والدته، ومن ثم أيّ كائنٍ آخر، لا تَفْنَى فَنَاءً مطلقاً بمعنى ينْمَحِي وجودها تماماً، بل هي على الأصح تتخذ مظهراً جديداً تتحرر فيه من قيود أيّ كيان مادي محدَّد.
الطاقة التي شعَّتْ
الواقع أن هذا النوع من الاستنتاجات قد مثَّلَ بالنسبة لِي مصدر مواساة إلى حدٍ كبير. فما فَقَدْتُه هو المظهر المادي المنبثق عن الطاقة التي تتزوَّد منها أمي. وسوف أظل أَحِنُّ على الدوام إلى ذلك المظهر الذي كانت عليه في السابق، مشدودةً إلى تلك الكيفية من الوجود، لكن النظر إلى الوجود غير المادي بوصفه امتداداً للطاقة الكونية الكبرى جعلني أتخفَّف إلى حدٍ كبير من قلقي. وهذا لا يعني أنها تتجلى الآن على نحو ما كانت، وإنما يعني أن الطاقة التي شعَّتْ فيها لا تزال باقيةً، حتى مع فقدان تجسُّدها المادي.
لقد كُتبتْ القصة في سياق إسلامي، غير أن الكثير مما يتوصَّل إليه حَيٌّ عبر الملاحظة والتأمُّل يتصَادَى مع العديد من طرق التفكير عند الباطنية [التأمُّل الذاتي] والأفلاطونية الجديدة والصوفية والهِرْمِسِيَّة [معتقد ديني وتقليد فلسفي في علم الفلك والتنجيم يُنسب إلى هرمس]. تشترك هذه التوجهات المختلفة في ثيمة عامة هي الوَحْدَة. من الواضح أن حَيَّ تَسَنَّى له التوصُّل إلى بعض الاستنتاجات من دون أي عقيدة رسمية. وهذا الطابع الكوني بالتحديد هو أبرز ما استرعى اهتمامي. ومن الاستنتاجات التي يتوصّل إليها أن كلّ شيءٍ مرتبط كونياً من خلال الطاقة، وأن هذه الوحدة تستمد فاعليتها من الحُب – وهذه مسألة جرى التأكيد عليها في صفحات مقدمة القصة. في واقع الأمر أن العديد من كُتب السِّحْر في ذلك العصر أخذتْ تُرَدِّد مقولة سطوة الحب. من الممكن أن تتشكل هذه الفرضية الدَّوْرِية في إطار نماذج معرفية شديدة الالتصاق بالمؤسسة غير أن بالإمكان أيضاً التوصُّل إليها بشكلٍ فِطْري دون تعليمات صريحة وعن طريق الملاحظة، على نحو ما برهن على ذلك حَيٌّ. وضمن هذا المسلك من التفكير، فإن ما يَبْعَث على الارتياح أن الحُبّ، من حيث كونه شأناً غير مادي، يظل باقياً. وفضلا عن ذلك، فالطاقة التي أَمَدَّت أحِبَّاءنا لا تزال تتردد في جَنَبَات الكون، فهي لا تَكُفُّ عن التَّجَلّي بصورٍ وأشكالٍ مختلفة. إن كلَّ شيء متظافر معاً. وإذا كان الطابع المادي للوجود مَنَاطَ الاختلاف والفَرْدية، فهناك ما يعزِّيك في رؤية الترابط بين جميع الأشياء.
ليس من اللازم أن نغدو متصوفين في البراري مثل حَيّ ونعزل أنفسنا لكي نتمكن من التعرف إلى الطبقة المضافة من الوحدة في إطار الاختلاف. في كثير من المجتمعات الحديثة، قلَّمَا يُنَاقَش الموت والحُزن والفُقْدَان على نحوٍ علني. وفي مثل هذه الظروف، قد يكون من النادر إلى حدٍ بعيد أن نصادف نزوعاً للتفكير في نواحٍ من قبيل أن ليس هناك شيء يفْنَى فناءً تاماً، بل يتحول بطريقةٍ ما مع ترابطه أيضاً، وفي الواقع لن يجنح إلى هذا المَسْلَك من التفكير معظم الناس، ولكنه أيضاً قد يُورِث سَكِيْنَةً ميتافيزيقية لا حدود لها.
ما دمتُ على اتِّساق مع ذاتي المادية الفَرْدية، فسوف أتوق دائماً إلى حضور أمي المُجسَّد على نحو ما عرفتها. إنَّ الطبيعة الدَّوْرِية للحياة والموت الناجمة عن تحوُّل الطاقات غير المادية التي تَمُدّ المادةَ بنسغ الحياة جعلتني قادرةً على رؤية ما هو أبعد من ذاتي
شعور بالفقدان الفادح
من الناحية العملية، ما يحقِّقه لي هذا الإطار فيما يتعلق بوفاة أمي أنه يتيح لي أن أتابع حياتي معها من خلال تغيير طريقة فهمي لماهية كينونتها. في الوقت الراهن أجنح نوعاً ما إلى توجُّه أكثر علمانيةً لاستبصارات حَيّ وتعليق ابن طفيل حول السُّبَل المُفْضِية إلى معرفة "الله" أو الكون، غير أني أَحْسَبُ أن هذه التأملات وغيرها الصادرة عن العقليات غير الثنائية القائلة بوَحْدَة الوجود pantheistic والحُلُول panentheistic جوانبٌ لا غنى عنها للتواؤم مع الحُزن في عالمٍ كثيراً ما يُضّيِّق الخِنَاق على نقاشاتٍ من هذا النوع ويَعْتَبِرُهَا من المُحَرمات. وعلى غرار ما حَدَثَ مع حَيّ، فقد يقود الشعور بالفُقْدَان الفادح إلى إثارة أسئلة وجوديَّة من المحتمل مع مرور الوقت أن تَدْفَع بالحوار إلى مناقشة الموت والحزن، بصرف النظر عن إزاحتهما إلى الهامش.
ما دمتُ على اتِّساق مع ذاتي المادية الفَرْدية، فسوف أتوق دائماً إلى حضور أمي المُجسَّد على نحو ما عرفتها. إنَّ الطبيعة الدَّوْرِية للحياة والموت الناجمة عن تحوُّل الطاقات غير المادية التي تَمُدّ المادةَ بنسغ الحياة جعلتني قادرةً على رؤية ما هو أبعد من ذاتي، وتصوُّر الكون في حقيقته، مما يساعدني على التحرر بأنَاةٍ من قلق الموت. وهذا دَرْبٌ لا زلتُ أُثابِر على السَّير فيه. بل إن شعوراً لحظياً بالطابع الزَّمني لكلّ ذلك يتيح لي الاستمرار في رؤية أمي في مناظر الطبيعة الجميلة مثل شروق الشمس، أو أشعة الشمس المنعكسة على أوراق الخريف أثناء تحليق الطيور، أو الأطوار المختلفة للقمر في سماء الليل. هناك طاقة تُحيط بنا من كلّ جانب وأخرى تُشِعُّ في ذواتنا. وسواء أسبق لنا مكابدة الحُزن أم ليس بعد، فإن البدء بإجراء هذه الحوارات قد يساعدنا على رسم خريطة لمسارٍ لا بد أن نسلكه جميعاً ذات يوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر المقال الأصلي في مجلة Psyche، 22 يناير 2024
* فيرونيكا مينالدي Veronica Menaldi : أستاذة مساعدة في اللغة الإسبانية بجامعة الميسيسبي – أمريكا. صدر لها كتاب بعنوان "سِحْر الحُبّ وسطوته في الأدب الإيبيري قبل العصر الحديث" (2021).