نشر موقع ميدليست آي، مساء الجمعة، 18 مايو/آيار 2024، تقريرا جديدا تضمن نقد أحد المسؤولين السابقين في جهاز المخابرات الأمريكية (سي آي أيه)، لتأخر إدارة بايدن عن تعقب آخر موقع معروف لقائد حماس في غزة يحيى السنوار، لمدة شهر تقريبا. وأهم ما كشفه التقرير والمعلومات الواردة فيه، من وجهة نظري، يتمثل بإفصاحه عن أحد الأدوار الخطيرة، غير المرئية، التي تلعبها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، باعتبار أمريكا طرفا أساسيا مُشاركا مع إسرائيل في مسرح العمليات الحربية، وفي الجرائم والفظاعات التي تُطال حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين، دون تمييز، منذ ما يزيد عن ستة أشهر. وهو دليل إضافي على أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست مجرد حليف لإسرائيل، وليست مجرد داعم وممول لها، وليست مُجرد مُزِّود بالأسلحة، وليست مجرد مُساند من خلال الجهود الدبلوماسية المساندة لإسرائيل والمدافعة عنها في كافة المحافل الدولية. ولا شك، ستتكشف تباعا الكثير من الحقائق حول تلك الشراكة الأمريكية، وحول بقية شركاء إسرائيل والمتورطين معها في كل الممارسات اللاإنسانية التي كان التقدم الحضاري الإنساني قد طمرها وطوى صفحاتها، مع كل آثام عصورها الغابرة، منذُ أمدٍ طويل، ومنها جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي تطال الفلسطينيين، بوصفهم بشرا وأمة وهوية ووجودا، في إطار "محرقة القرن الواحد والعشرين،" تحت مرأى ومسمع العالم، وسيُدان ويلاحق ويُساءل كل المشاركين فيها، والداعمين لها، جنبا إلى جنب نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين، طال الزمن أو قصر.
شراكة رغم الفظاعات
وغير مرة أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي، وكبار المسؤولين الأمريكيين، في البنتاجون والخارجية والبيت الأبيض، على أهداف الحرب المشتركة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، في كل الأحاديث العلنية التي أدلوا بها بالتزامن مع كل خلاف، جزئي وعرضي وهامشي، لم يُفسد بتاتا للود والشراكة بين الجانبين، قضية، رغم طوفان الفظاعات الإسرائيلية التي قتلت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى الان، ما يزيد عن خمسة وثلاثين ألف فلسطيني وجرحت ما يزيد عن سبعين ألف آخرين، ورغم قتل إسرائيل لأكثر من 130 صحفيا، ورغم تدمير إسرائيل للأغلب الأعم من الأعيان المدنية الفلسطينية في قطاع غزة، بما في ذلك المستشفيات والمرافق والطواقم الطبية، والمدارس، ومقرات وسائل الإعلام، ودور العبادة، والمباني السكنية، والملاجئ، ومخيمات النزوح، ومقرات المنظمات الإنسانية، ورغم الهجمات الإسرائيلية على طواقم العمل الإنساني والإغاثي، وعربات نقل المساعدات والسلع الأساسية، ومرافق البنية التحتية المدنية، ومنعها وصولَ المساعدات الإنسانية، واستخدام هذه المساعدات سلاحَ حرب لتجويع الفلسطينيين، وتورطها بارتكاب جرائم إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني، وحماية السلطات الإسرائيلية لممارسات المستوطنين العنيفة ضد الفلسطينيين على نطاق واسع من مناطق الضفة الغربية والجليل، واستيلائها على مساحات واسعة من أراضي ومزارع الفلسطينيين، واحتجازها تعسفيا آلاف الفلسطينيين، واستخدامها للتعذيب وسوء المعاملة وضروب من المعاملة اللاإنسانية والمهينة ضد المئات منهم، في إطار أنماط من الانتهاكات المنهجية الهادفة إلى تهجير الفلسطينيين قسرا عن موطنهم، والتي ترتكبها إسرائيل بالشراكة الكاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت غطاء من الحماية الأمريكية المُتكفلة بمهمة تعطيل كافة الآليات الدولية ومنعها عن القيام بأي تحرك لوقف تلك الانتهاكات وأي شكل من أشكال المساءلة عن ارتكابها.
سياسات الولايات المتحدة تجاه إسرائيل لم يعد لها صلة بحسابات مصالح الدولة، ولا بالتحالفات السياسية والأمنية والعسكرية بين الدول. هي الآن محض إذعان مُطلق، يخدم إرهاب وإجرام حكومة يمينية متطرفة تقود دولة غارقة في الدم والاحتلال والاستيطان والتهجير تُسمى "إسرائيل."
النخبة الأميركية الحاكمة تسخر كافة الأجهزة والمؤسسات والموارد والعلاقات والقيادات لخدمة إسرائيل وجرائمها، وتتماهى بصورة كلية مع المغامرات الخطيرة لقادتها المتطرفين. وهذا إلى الدرجة التي عمد فيها القادة الأميركيون لاختيار التضحية بسمعة أميركا وعلاقاتها ومصالحها، والوقوف مع إسرائيل، ودعم جرائمها وحربها، ماليا وعسكريا ولوجستيا وسياسيا ودبلوماسيا، في مختلف المحافل، وأمام مجلس الأمن الدولي، ومجلس حقوق الإنسان، وآليات الأمم المتحدة، وفي وجه محكمة الجنايات الدولية، وفي وجه محكمة العدل الدولية، وفي وجه كل المحاولات الدبلوماسية السامية الرامية لضمان الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية لم تبادر للقيام بواجباتها ومسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والسياسية الكفيلة بوقف تلك الجرائم والانتهاكات المروعة، إن لم يكُن لحماية مئات الآلاف من الفلسطينيين، وإن لم يكُن إيمانا منها بقيم حقوق الإنسان التي تدعي تبنيها والريادة فيها، وإيمانا بعالميتها وشموليتها على جميع البشر دون تمييز، وبسيادة القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الإنساني، وبالمواثيق والاتفاقيات والصكوك الدولية، إن لم يكن من أجل ذلك كله فعلى الأقل من أجل حماية حليفتها إسرائيل ومستقبلها من الغرق في أوحال الفظاعات وشلالات الدم، ومن التورط أكثر في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة التجويع، وجرائم التهجير والاستيطان والاحتلال، ومن أجل إنقاذ وترميم صورتها وسمعتها، المتآكلة أمام الضحايا من الفلسطينيين، وأمام شعوب الشرق الأوسط، وأمام كافة الشعوب حول العالم، الذين يشاهدون ويتابعون كل ما يحدث، ويتفاعلون معه، وأمام ما توثقه الذاكرة الإنسانية وتحمله إلى المستقبل- إذا لم تبادر الولايات المتحدة إلى ذلك فإنه يتوجب على النخبة السياسية الأمريكية الحاكمة أن تبادر للقيام بواجباتها ومسؤولياتها لإيقاف الحرب الإسرائيلية الغاشمة، من أجل ترميم وإنقاذ صورتها وسمعته المتآكلة، على الأقل أمام الرأي العام الأمريكي، وأمام أجيال من الأمريكيات والأمريكيين الذين لم يعد من الممكن لأي سلطة حاكمة ومهيمنة ونافذة حجب الحقائق عنهم وتزييف وعيهم، ولم يعد من الممكن تضليلهم والتحكم بتوجهاتهم وفرض سردية أحادية زائفة عليهم من خلال وسائل الدعاية الموجهة من الُنخب السياسية النافذة. ولا مناص أمام النخبة الأمريكية الحاكمة من وقف استمرار الاعتماد على تكتيكات وسياسات تتسم بعدم احترام عقول الأمريكيات والأمريكيين، والاستهانة بوعيهم وضمائرهم وإراداتهم، واستغفالهم. وفي الاحتجاجات الجامعية ما يكفي من الدروس والعِبر التي يتوجب على النُخب السياسية الأمريكية التوقف مليا عند أبعادها، واتخاذها أساسا لإدراك خطورة الاختلالات المُتعمقة في سياساتها وتفاعلاتها الداخلية والخارجية.
الولايات المتحدة الأمريكية باتت تتكبد خسائر غير مسبوقة، بصفتها دولة فاعلة في المجال الدولي، لصالح دول أخرى منافسة. وقد أصبح الحيز المحدود المتبقي لنفوذها معتمدا بصفة أساسية على حامل وحيد يتمثل بالقوة العسكرية. وهذه القوة لم تعد بعيدة عن منافسات الدول الأخرى المنافسة والتي تسعى إلى إنهاء التفوق الأمريكي فيه.
التفريط بمصالح الدولة
إن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إسرائيل لم يعد لها صلة بحسابات مصالح الدولة الأمريكية، ولا بالتحالفات السياسية والأمنية والعسكرية بين الدول، ولا بالسياسة، ولا بالبراجماتية، ولا بأيٍ من المناهج العلمية الحديثة التي تحتكم إليها تعريفات ومقاربات وتكتيكات مسائل سياسة الدول، الداخلية منها والخارجية، ولا صلة لها بمضامين ومحددات العلاقات الدولية، والتزامات وأهداف التحالفات والشراكات الاستراتيجية بين الدول والمحاور والتكتلات الإقليمية والدولية. وإنما هي الآن محض إذعان مُطلق، تُستلب فيه قوة ونفوذ وعلاقات وهيمنة وأجهزة ومؤسسات وموارد دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، وتحرق فيه مراكب هذه الدولة مع الكثير من المجتمعات حول العالم، وذلك كله من أجل خدمة إرهاب وإجرام حكومة يمينية متطرفة تقود دولة غارقة في الدم والجور والاحتلال والاستيطان والتهجير تُسمى "إسرائيل."
وإذا استبعدنا إحالة ذلك الإذعان الأمريكي لإسرائيل ولوبيهاتها ومصالحها وحروبها إلى حالة مُفترضة من "التعصب الأعمى" القائم على أساس ديني وعقائدي، أو على أساس عِرقي، أو على أي أساس عنصري آخر، بوصفه مسلكا بدائيا وغير إنساني، مُتخلفا وغير مُتحضر-إذا استبعدنا ذلك، فإن أقرب التفسيرات، وأكثرها وجاهة وواقعية، يتأسس على إحالة ذلك الوضع الأمريكي، غير الطبيعي وغير الاعتيادي، إلى حسابات النخب السياسية الأمريكية الانتخابية، والتي تتبارى لتقديم قرابينها في مزادات كسب رضا اللوبيهات الإسرائيلية المؤثرة على مسار الانتخابات التمهيدية داخل أروقة ودهاليز الحزبين، وعلى مسارات ونتائج السباقات الانتخابية، على كرسي رئاسة البيت الأبيض، وعلى نسب مقاعد مجلس النواب والكونجرس، وعلى حكم الولايات، وتقف على رأس تلك اللوبيهات لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيباك)، التي لا تجد في أنشطتها وأدوارها الرامية للتأثير على مسارات ونتائج الانتخابات الأمريكية، وعلى سياسات الإدارات الأمريكية، ما يستحق المواراة والإخفاء، فتبادر بالنشر علنا عبر موقعها الإلكتروني وحساباتها وصفحاتها الرسمية على شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي عن أنشطتها وأدوارها المؤثرة، كان أحدثها ما نشرته على حسابها الرسمي في تويتر، في 15 مايو/آيار 2024 محتفلة بهزيمة المرشحة الديموقراطية، سارة الفريث، في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديموقراطي، بصفتها مرشحة مدعومة من السيناتور بيرني ساندر. بالطبع، كل من الفريث وساندر مصنفان من قبل "آيباك" أنهم غير مؤيدين لإسرائيل، وقد سبق أن نشرت قبلها بأيام تهنئة استعراضية لسبعة مُرشحين صنفتهم أنهم ديموقراطيون مؤيدون لإسرائيل، بفوزهم جميعا. هؤلاء فازوا بعد دعم "آيباك" لهم على جميع منافسيهم من المرشحين الديموقراطيين "غير المؤيدين لإسرائيل،" في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديموقراطي، وهي أنشطة وأدوار تديرها وتوجهها مصالح دولة أخرى في أدنى الشرق، للتأثير على المجال السياسي الداخلي لدولة أُخرى في أقصى الغرب، وهي ممارسات تحظرها وتُجرمها وتُدينها جميع الدول.
وطبقا لتجارب عدد لا حصر له من البلدان والامبراطوريات، كبيرها وصغيرها، والتي يحفل بها التاريخ السياسي البشري الطويل، فإن التساهل مع استلاب أي دولة للمجال السياسي لبلد آخر أمر بالغ الخطورة على وجود تلك الدولة وعلى تماسك وسلامة واستقرار مجتمعها، وعلى أمنها القومي، وعلى مصالحها، وعلى قوتها ونفوذها، وعلى علاقاتها. ذلك أن هذا التدخل يتكفل بشق وتعبيد الطرقات أمام فوضى من تدخلات الدول الأخرى، ويحدث ثغرات خطيرة للتأثير على آليات تشكيل السلطات والنُظم السياسية الحاكمة وعلى السياسات الداخلية والخارجية، ويفرض مصالح الدول المُتدخلة بصفتها موجها أساسيا حاكما للمنافسات السياسية في السباقات الانتخابية، التي تُقدم قرابين استرضاء الفاعلين الخارجيين الذين يعملون على مصادرة قرار تلك الدولة، وتجيير سياساتها الداخلية والخارجية، طبقا لحسابات مصالح دولهم، وهو مسار تندفع فيه المكونات السياسية المتنافسة للتفريط بكل حسابات مصالح بلدها ومجتمعها، والتورط في حالة جماعية من "الخيانة الوطنية،" لا فرق جوهريا فيها بين العمل لصالح دولة حليفة وبين "العمالة" لصالح دولة مُعادية، ولا فرق فيها بين العمل لصالح إسرائيل وبين العمل لصالح روسيا، أو لصالح إيران، أو الإمارات.
أقرب التفسيرات، وأكثرها وجاهة وواقعية، يتأسس على إحالة الوضع الأمريكي، غير الطبيعي وغير الاعتيادي، إلى حسابات النخب السياسية الأمريكية التي تتبارى لتقديم قرابينها في مزادات كسب رضا اللوبيهات الإسرائيلية المؤثرة على مسار الانتخابات التمهيدية داخل أروقة الحزبين.
خسائر غير مسبوقة
لقد باتت هناك حالة من اليقين، على نطاق واسع حول العالم، بحقائق التحولات الكبيرة والمتسارعة وغير المسبوقة، الخاصة بوضع الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تتعمد النخب السياسية الأمريكية، على ما يبدو، تجاهله، أو أنها تفتقر للقدرة على استيعابه وإدراكه، وهي سمة رافقت الأغلب الأعم من النخب السياسية التي عاصرت مراحل انهيار نُظم الامبراطوريات والدول التي ينتمون إليها ويتشيعون للذود عنها في وجه التفاعلات المُعرفة بوصفها معادية لها، بعد أن عايشوا مراحل تصاعد قوتها، والتي تُمثلها في الوقت الراهن، حالة الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت تتكبد خسائر غير مسبوقة، بصفتها دولة فاعلة في المجال الدولي، لصالح دول أخرى منافسة. وقد أصبح الحيز المحدود المتبقي لنفوذها معتمدا بصفة أساسية على حامل وحيد يتمثل بالقوة العسكرية. وهذه القوة لم تعد بعيدة عن منافسات الدول الأخرى المنافسة والتي تسعى إلى إنهاء التفوق الأمريكي فيه. لقد تخلت أو خسرت، لا فرق، الولايات المتحدة الأمريكية وعود الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان والعدالة، وهذه هي حوامل حضارة الزمن الأمريكي، الذي تصاعد نفوذه وهيمنته المطلقة في ظل نظام القُطب الواحد، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار نظام القطبين معه.
لذلك لم تعد مراجعة وإصلاح اختلالات وانحرافات سياسات النُخب الأمريكية الحاكمة والنافذة مُتطلبا من أجل حماية الفلسطينيين وغيرهم من ضحايا السياسات والتفاعلات الخارجية الأمريكية، في غير مكان حول العالم، ولا مُتطلبا من أجل حماية وتعزيز حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون الدولي والمواثيق والصكوك والاتفاقيات والإعلانات والعهود الدولية، من أجل وضع حد لجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومن أجل مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات حول العالم، على أهمية كل ذلك، بل باتت تلك المراجعة، والإصلاحات الجذرية التي يُفترض أن تتمخض عنها، حاجة أمريكية داخلية وجودية بالدرجة الأولى. ولا مبالغة في الذهاب للقول إن مدى استجابة النخب السياسية الأمريكية لإدراكها وإدراك ضرورتها الملحة سيتوقف عليها مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها دولة وعلاقات مجتمع، وعلاقات وأدوارا ذات صلة بكل العالم من حولها.
لذلك، فإن اتخاذ النخب الأمريكية الحاكمة، بالمبادرة إلى إنجاز تغيير جذري في سياساتها، يبدأ بقرار صارم يقضي بوقف الحرب الإسرائيلية-الأمريكية الحالية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كُليا، والاعتراف بدولة فلسطينية ديموقراطية كاملة السيادة، وتدشين برامج إعادة الإعمار وجبر ضرر الضحايا والعدالة الانتقالية، وتعزيز ضمانات حقوق الفلسطينيين، ودعم مساءلة المسؤولين عن كافة الانتهاكات المروعة، في إطار تحول استراتيجي وفعال، هو السبيل الوحيد الذي يُمكنه معالجة الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمركز الاعتباري للولايات المتحدة الأمريكية، محليا ودوليا، نتيجةً لتراكم طويل من السياسات الخاطئة، في غير مكان حول العالم، من الهجمات بالقنابل النووية على هيروشيما وناجزاكي في اليابان، مرورا بحروبها في فيتنام والصومال وأفغانستان والعراق، ومشاركاتها في العديد من الحروب في سوريا واليمن وأوكرانيا، وتقع في صدارة أدوارها الخارجية السلبية شراكتها المُطلقة مع احتلال إسرائيل وحروبها العديدة ضد الفلسطينيين، وهو إرث قاتم، يُعرف الولايات المتحدة الأمريكية بصورة لا تختلف كثيرا عن تعريف النظام الإيراني والنظام الروسي، والنظام في كوريا الشمالية، وكل أنظمة العالم الثالث، والأنظمة الديكتاتورية حول العالم، بعد أن توازت كل السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية مع تزعم مستمر، متلبسة بتكريس حالة خطيرة من ازدواجية المعايير، في التعامل مع مسائل حقوق الإنسان والانتهاكات والأزمات الإنسانية ومع ضحايا الحروب والصراعات في مختلف أنحاء العالم. فهي تبادر بتحركات فعالة لإدانة المسؤولين عن الانتهاكات في بعض الحروب والصراعات والأزمات، والتضامن مع ضحاياها، وتنشط بتحركات فعالة لفرض غض الطرف عن المسؤولين عن الانتهاكات فيها، لحمايتهم من أي إدانة أو مساءلة، ولغض الطرف عن ضحاياها، في صراعات وحروب أخرى، تُرتكب خلالها ذات الفضاعات والانتهاكات. ما يعني أن ما يحدد طبيعة تحركاتها، على أي من الاتجاهين المتضادين كليا، هو هويات المسؤولين عن الانتهاك وهوية الضحايا، وهو أحد وجوه ممارسات التمييز السافر والمشين بين الضحايا والمنتهكين تبعا للمزاج السياسي، ضدا لكل مبادئ وقيم حقوق الإنسان، ومعايير سيادة القانون الدولي الإنساني والعدالة، ولم يقف ضرر ازدواجية المعايير عند حدود تقويض سمعة الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها، بل تعدى تلك الحدود إلى تقويض آليات الأمم المتحدة، وإلى تقويض الإيمان بقيم حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وبالصكوك والاتفاقيات والإعلانات والعهود الدولية، على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم.