الإهداء: إلى روح المناضل والقائد والصديق/ علي صالح عباد (مقبل). كم نفتقدك! فقدانُكَ خسارةٌ كبيرة لكل اليمن. نفتقدك في كل اللحظات والأيام، وليس فحسب، في الليالي المظلمة. كم أنت نبيل وعظيم وخالد في عقل ووجدان الجميع، أيُّها الوطني الجنوبي اليمني.
لك كلّ المحبة، وإلى جنة الخلد مع الصدِّيقِين والشهداء والصالحين.
الحديث عن الوحدة اليمنية وراهِنها الكارثي/ الفاجع، وعن مستقبلها المدجج بالعنف والانقسام السياسي، والمشحون بأسئلة مستقبلية صعبة وحرجة، ذات إجابات متعددة الوجوه والمعاني، هو حديث يرتبط بالسياسة وبالثقافة وبالهُوية، وبمعنى الانتماء، وبالتاريخ، وقبل كل ذلك يرتبط اليوم بطبيعة الأوضاع السياسية القائمة، وعلاقاتها بالخارج، (الإقليمي/ الدولي)، بمعنى أنّه حديث قديم/ جديد، يتجدّد مع تحولات الشأن السياسي والاجتماعي والوطني العام، وحول ذلك يطول الحديث ولا يتسع له مقام السؤال ومساحته.
ولذلك –كما سبقت الإشارة- لن أدخل في جدل السياسة والثقافة والهوُية والتاريخ اليمنيّ قبل الإسلام وبعده، فذلك شأن، سأحاول تقديمه في كتابة/ قراءة مستقلة قادمة.
- لم أكن يومًا من دعاة "الوحدة الفورية الاندماجية"، وكنت مع الرؤية الفكرية السياسية التاريخية للحزب الاشتراكي اليمني، في ضرورة خلق المناخات والشروط الذاتية والموضوعية للوحدة؛ لأنّ الوحدة بالمعنى السياسي والسوسيولوجي على صعيد كل شطر لم تتحقق بعد، بالمفهوم السياسي والاجتماعي والاقتصادي المنشود، وهي واحدة من التحديات والمعوقات، وما يجري داخل الجنوب، والشمال اليوم يقول ذلك بوضوح.
- حين كلفت ضمن فريقٍ قياديّ مصغر لكتابة رأي (رؤية أعضاء اللجنة المركزية وكوادر الحزب العليا في الشمال)، تمهيدًا للدخول لإعلان دولة الوحدة، في دورة اللجنة المركزية في عدن، حاولنا التأكيد على بعض المحاذير السياسية، والمخاطر والتحديات الأمنية التي قد تعترض مشروع الوحدة، وهو حديث أساسه معرفتنا بطبيعة القيادة السياسية والعسكرية والمشيخية/ القبَلية، والدينية، المعارضة للوحدة من حيث المبدأ، والمعادية في جوهرها العميق للنظام السياسي في جنوب البلاد، وهو حديث كنّا نقوله أو نتبادل الرأي حوله -كذلك- في حواراتنا الجانبية؛ لأنّ الجملة الاعتراضية تجاه خيار الوحدة، من حيث المبدأ، كان غير محتمل ولا مقبول من قبل الغالبية العظمى في قيادة الحزب، بل ومن قبل الشارع الجنوبي الذي كان -كذلك- بأغلبيته العظمى مع خيار الوحدة، الوحدة كحلم وطني رومانسي، وكأن الوحدة هي المنقذ، وفيها يكمن الحل السحري لمشاكل البلاد شمالًا وجنوبًا.
الوحدة كحلم وخيار كانت رغبة دفينة كامنة في وعي وفي وجدان وأعماق الكثيرين من أبناء اليمن البسطاء، الناس (الشعب)، الذين وحدتهم جدلية الجغرافية والتاريخ، بصرف النظر عن التاريخ السياسي لأنظمة الحكم المختلفة، وبصرف النظر -كذلك- عن المآلات القاسية للوحدة، التي خلَّفت انكسارًا عظيمًا وجرحًا نازفًا، وهو الجرح الدامي الذي تشكّل بعد التجربة المريرة والدامية للوحدة الفورية الاندماجية، والذي ترك أخاديده الجارحة على بنية الوعي الاجتماعي، وعلى النفسية الاجتماعية لقطاع واسع من أبناء الجنوب الذين توجّهت الحرب مباشرة إليهم كأشخاص، وجماعات، ومؤسسات دولة. الحرب، التي كانت، تتحرك ضمن سياسات منظمة وممنهجة لتحويل الجنوب إلى حالة فيدية وإلى غنيمة حرب، الحرب التي طردت الأغلبية العظمى من سكان جنوب اليمن، ودولتهم السابقة إلى خارج "التاريخ الرسمي".
ما نعيشه اليوم، من تفكك مريع حدّ الانهيار، في كل شيء (الرؤى والمفاهيم والقيم، وفي الواقع المحترب مع بعضه البعض على صعيد كل شطر، دليلٌ على أنّنا على طريق التجريب السياسي، وإصلاح الخطأ بخطأ أكبر.
لقد تحوّلت الرؤى الحالمة في وعي ونفسية الكثيرين من أبناء الجنوب، إلى حالة ردّ فعل مضادّة لكل ما كان، وهو أمر لا يمكن إنكاره وتجاهله أو القفز عليه بجملة أيديولوجية وطنية حول الوحدة وكفى! وهذه هي رؤيتي وقناعتي التي سطرتها ودوّنتها من بعيد الحرب/ الجريمة 1994م، وما زلت متمسكًا بها حتى اللحظة.
الوحدة والانفصال خياران سياسيّان، وليسا مفاهيم وشعارات مقدسة، المهم أن لا تحكمنا ردود الفعل من أيّ نوع كان، ونحن نقرر ونختار؛ لأنّ العواقب والنتائج لمثل هكذا قرارات انفعالية عصبوية (عاطفية)، ستكون نتائجها أفدح وأخطر على الحاضر، وعلى كل المستقبل لكلّ البلاد؛ لأنّ الانفعال، هو الفعل البشري الوحيد الذي يتحرك ويقع خارج دائرة الوعي، والتفكير العاقل. رفضنا وقاومنا، وَأَدْنا "الوحدة بالحرب"، وأنا شخصيًّا أرفض وأدين الانفصال بالحرب، وبالاستقواء بالأجنبي، وبدون إرادة سياسية حرة جامعة لكل أبناء الجنوب اليمني.
الوحدة الفورية الاندماجية هي المشكلة؛ لأنّنا دخلنا إليها بدون رؤية واقعية استراتيجية تاريخية، أي إنّ المشكلة ليست في الوحدة، ولا في التاريخ الذي يتنكّر له البعض اليوم في حديثهم عن "الجنوب العربي"، وإنّما المشكلة في الأمس واليوم، كامنةٌ في غياب الرؤية لمعنى الوحدة، وتفاصيل إنجازها وتحقّقها كحلم ورؤية، وكذا في غياب الرؤية، لمعنى "تقرير المصير".
وكما يبدو أنّنا لم نتعلم من أخطائنا، وما نزال نتحرك ضمن دائرة "الرومانسية الوطنية"، والعصبوية والانفعالية، وردود الفعل.
ما نعيشه اليوم، من تفكّك مريع حدّ الانهيار في كل شيء (الرؤى والمفاهيم والقيم، وفي الواقع المحترب مع بعضه البعض على صعيد كل شطر)، دليلٌ على أنّنا على طريق التجريب السياسي، وإصلاح الخطأ بخطأ أكبر، وفي أنّ التمترس العصبوي (الانفعالي) هو من يتحكم بتفكيرنا وتصرفاتنا، وهو الذي أوصل البعض إلى حدّ إنكار هويته اليمنية، مع أنّه كان بإمكانه أن يرفض الوحدة السياسية مع الشمال السياسي، ويحتفظ بهُويته اليمنية التي تشمل الجميع، لأنّ مثل هذا الخيار العصبوي الانفعالي يفقد هذا البعض فهمه لذاته، وللواقع وللتاريخ، كما يفقده قاعدة جماهيرية "ديمغرافية"، ووطنية واسعة في الجنوب قبل الشمال.
إنّ اليمنية كهُوية تاريخية، إذا لم تجمعنا وتوحّدنا وتشكّل هُويتنا من قبل الإسلام -كما يرى البعض– فعلى الأقل هي الهُوية التي جمعتنا ووحّدتنا خلال أكثر من (1400 سنة)، وهو تاريخ ممتلئ ومتوحد بالأعمال المشتركة، وحدة وصراعًا، وهو حاضر في بنية الثقافة الإسلامية، وفي بنية الثقافة الوطنية اليمنية: في الأدب السياسي والاجتماعي، وفي التاريخ الوطني التحرري المشترك، الذي تحكيه كتب التاريخ ووقائعه، وفي الشعر الجاهلي، وحتى المعاصر، وفي الحِكَم والأمثال، وفي الأغنية، والتراث الفنيّ والموسيقيّ حتى اليوم.
إنّ مستقبل الوحدة اليوم ليس في إنتاج خطاب ردّ الفعل المعاكس له في القوة وفي الاتجاه، بل في الدخول إلى بلورة خطاب فكري سياسي نقدي ديمقراطي، يقف على ناصية تحديث ثقافة المجتمع وتنميته.
إن الوحدة وتعثرها ومآلاتها المستقبلية، نتحمّل جميعًا المسؤولية عنها –بدرجات متفاوتة– فليس من شُنّت ووقعت الحرب عليه وعملت على إلغاء معنى وجوده ليس كسياسة وسلطة بل وكإنسان، كمن طالته بعض شظاياها وتداعياتها السلبية.
تعثّرت الوحدة، بالفورية الاندماجية (الانفعالية) والتي كان من الممكن تجاوزها بأقل التكاليف لولا الكمائن السياسية والأمنية والعسكرية التي تقف خلفها وتغذيها أيديولوجية عصبوية، لا ترى في الآخر الوطني سوى "فرع" يجب أن يلحق بــ"الأصل"، وهي التي "وضعت العصِيّ" في وجه مسار الوحدة السلمية والديمقراطية.
إنّ مستقبل الوحدة اليومَ ليس في إنتاج خطاب ردّ الفعل المساوي له في القوة والمعاكس له في الاتجاه، بل في الدخول إلى بلورة خطابٍ فكريٍّ سياسيّ نقديّ ديمقراطيّ، يقف على ناصية تحديث ثقافة المجتمع وتنميته، للولوج إلى آفاق الحياة المعاصرة على صعيد الوطن اليمني في الشمال والجنوب، والبداية في تقديمنا قراءة فكرية وسياسية نقدية لجريمة حرب 1994م، وإدانتها سياسيًّا ووطنيًّا ودستوريًّا، هنا تكون البداية الأولى لفتح صفحة، ومرحلة انتقالية مع رؤية جديدة لمعنى الوحدة، الوحدة التي قد نتفق أو نختلف، على كيف من الممكن أن تكون، أو لا تكون.
والبداية التالية لذلك، أن نقرّ بالحق في الاختلاف، والحق في الخطأ على قاعدة التعدّد والتنوّع، والأهم إقرارنا بمبدأ المساواة، والعدالة، وحقوق الإنسان والمواطنة، وإعلاء شأن ثقافة الحوار والتسامح على صعيد كل شطر، وعلى مستوى الشطرين، وهي الثقافة الغائبة والمصادرة عن وعينا وعقولنا المرتبكة والمشوشة بنتائج تاريخ متوتر، ومشحون بالعصبية المذهبية والطائفية والقبَلية والقروية والمناطقية، وكلّها شروط ذاتية مانعة لاستمرارنا في الحياة بدون عنف وحروب.
تعمّدت تقديم هذه التناولة/ القراءة النقدية، والتفاؤلية، في نفس الوقت، لرفض ونقد هذا التعثر، وذلك الانكسار المريع الحاصل في الواقع؛ لأنّني على قناعة بأن إرادة حرية الفكر وتفاؤله وإرادة الناس الحرّة في التغيير للأفضل والأنبل، ستهزم تشاؤم الواقع، المحاصر بأيديولوجيات الوعي الزائف، الذي تصنعه انكسارات الذات، حين يطغى عليها عنف الواقع في تمظهراته السلبية.
فالوحدة هي القاعدة في كل التاريخ السياسي العالمي، وهي اليوم على المستوى العالمي أكثر تجسيدًا لهذا المعنى، والاستثناء هو الانفصال، دون أن يعني ذلك الإدانة المجردة للانفصال، وكما قلت في البداية؛ الوحدة والانفصال خياران سياسيّان، لا دخل للجغرافية ولا للتاريخ بهما.
لم أشك لحظة واحدة في أنّ القضية الوطنية الجنوبية اليمنية، قضية عادلة، وقضية سياسية بامتياز، قلت هذا الخطاب قبل بداية الحرب/ الجريمة، 1994م، ومن بُعيد الحرب مباشرة كنت أقول وأكتب هذا المعنى، وكنت من أوائل المشاركين مع آخرين من الاشتراكي، وعلى رأسهم فقيد الوطن اليمني كله، على صالح عباد "مقبل"، الذي كان حاضرًا في جميع الفعاليات المبكرة في المهرجانات السياسية الجماهيرية الواسعة للحراك الجنوبي السلمي، قبل العام 2007م، وما بعده، من الحبيلين، إلى عدن، حين كان الحديث عن القضية الجنوبية خيانة سياسية، وجريمة وطنية في عرف وقانون أمراء وتجار حرب 1994م، وما بعدها من تداعيات سياسية وعسكرية، وليسمح لي أصدقائي ورفاقي في بعض تيارات الحراك الجنوبي ومن بعض قيادات الحزب الاشتراكي اليمني، أن أختلف معهم حول يمنية القضية الجنوبية، لأنّني أراها وأنظر إليها، بل وأتطلع إليها باعتبارها قضية سياسية وطنية جنوبية يمنية، سواء كان وتحقّق ذلك ضمن خيار الدولة الفيدرالية من إقليمين كما يقرّها الحزب الاشتراكي، أو ضمن خيار "تقرير المصير"، كما تقرّرها الإرادة السياسية الحرّة للناس في جنوب اليمن بعيدًا عن الاستقواء بالأجنبي، والمشاريع الاستعمارية المعدّة والجاهزة من عقود لتقسيم المنطقة العربية، لاستكمال ما تبقّى من الحلقات غير المنفذة من سايكس-بيكو القديمة.
باختصار؛ الوحدة اليمنية بالمفهوم والمضامين الفكرية والسياسية المعاصرة التي قدّمتها وطرحتها الحركة السياسية الوطنية التحررية والديمقراطية اليمنية، بجميع فصائلها الوطنية والقومية واليسارية الاشتراكية، هي الردّ الفكري السياسي الواعي والناقد، والتقدمي لمضامين الوحدة بالتغلب بالقوة والحرب، المفاهيم التي سادت في التاريخ القديم وحتى الحديث والمعاصر (من شمر يهرعش، حتى علي عبدالله صالح وعبدالله حسين الأحمر، وزعيم التكفير الديني/ عبدالمجيد الزنداني)، وهي كذلك الرد السياسي الثوري الديمقراطي على المضامين الأيديولوجية والسياسية الإمامية، التي حاولت أن تحصر الإمامة والسلطة، والدولة، ومفهوم الشعب، في سلالة معينة، وهي كذلك الردّ الثوري والتقدمي على تاريخ السلطنات، والإمارات والمشيخات، والرد على الحالة الاستعمارية "الأنجلوسلاطينية"؛ بهذا المعنى أفهم، وأقرأ الوحدة، باعتبارها الخيار السياسي الوطني الديمقراطي المنشود لكلّ اليمنيين شمالًا وجنوبًا، لن ينفع لتجاوز هذا المفهوم سوى تعميقه بالديمقراطية وبالتعدّدية، وبالمواطنة وحقوق الإنسان والدولة المدنية العادلة.
هذا رأيي أعرضه أمامكم حول الوحدة؛ تعثرها (فشلها السياسي)، وتاريخيتها.
ونقطة على السطر.