منذ بداية الحرب تتعرض الجامعات اليمنية لانتهاكات جسيمة، غير أن جامعة تعز هي الأكثر تضرراً.
منذ البداية وقع الحرم الجامعي القديم في خط تماس ساخن، ولا يزال خط التماس هذا ساخناً إلى اليوم، وهو الخط الذي أقفل الطريق تماماً بين مدينة تعز، وبين ضواحيها وريفها الشرقي والشمالي. في ذلك الحرم يوجد المبنى القديم لكلية العلوم الذي آل إلى كلية الطب، وهناك أيضاً مبنى رئاسة الجامعة القديم، ومبنى الأمانة العامة للجامعة، ومكتبة كلية الطب، ومركز اللغات. جميع هذه المرافق إما مدمّرة أو معطلة، فيما دأبت قيادة الجامعة وإدارتها وأساتذتها على تدبّر مقرات جديدة لها في أماكن متفرقة بين مدينة تعز ومدينة التربة وضاحية الحوبان، وصولاً إلى مدينة إب في بعض الفترات من سنوات الحرب. وفي ظرف الحرب، عملت الجامعة على إنشاء مبنى لكلية الطب جوار الحرم الجامعي في "حبيل سلمان"-غرب المدينة، ومع ذلك استولى تشكيل عسكري على المبنى ويرفض إخلاؤه. يحاول منتسبو جامعة تعز الحفاظ عليها من الانهيار، متحلّين بروح المسؤولية، ومسنودين بإقبال جيل جديد على الالتحاق بها. يحاولون إبقاء شعلة العلم متقدة، بينما تمتد الهراوات والرصاص لتكسير أذرعهم وأرجلهم، يزهقون أرواحهم ويتوعّدون بالمزيد، فقط، لكي يشبعوا نزعة التسلّط، ويستأثروا بالشواء.
متى يفهم النافذون، الذين اعتادوا فهم مهامهم بصورة عكسية، أنه ما من شواء فوق شعلة العلم؟ لا يوجد هناك سوى العقل والمعرفة، وهما لا ينسجمان مع التخمة المفرطة ولا مع الجوع، لا ينسجمان في بيئة من التسلط واستباحة الكرامة والأرواح وقداسة العلم.
حدث أكثر من انتهاك ضد جامعة تعز ومنتسبيها، وجميعها تدل على أن من يرتكبها نافذون يسندهم نافذون في السلطة التي تدير المدينة، ويبدو أنه لولا مساندة المجتمع وبعض المسؤولين المدنيين، لكانت جامعة تعز الآن في عداد ذكريات الزمن الجميل.
لم يعجبهم أنها الجامعة الوحيدة التي اضطرت للتعامل مع انقسام المحافظة التي تقع فيها بين طرفي الحرب، وأنها واكبت ذلك الظرف العصيب بافتتاح فروع لبعض الكليات في الحوبان وفي مدينة إب، الواقعتين تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، من أجل تسهيل وصول الآلاف من طلبة الريف الشرقي والشمالي والجنوبي الشرقي، إلى قاعات الدراسة.
في ظرف كهذا، تركت وزارة التعليم العالي جامعة تعز مكشوفة لدرجة أن مجموعة مسلحة تجرأت على تنفيذ عملية اغتيال فاشلة لرئيس الجامعة الدكتور محمد الشعيبي. قُتل مرافقه الشخصي في تلك الواقعة، ومن سخرية القدر أنه لم يمض على ارتكاب الجريمة أكثر من شهر، حتى أطلقت السلطات الأمنية في المدينة سراح المتهمين بارتكاب الجريمة. ثم يأتي يوم آخر غير بعيد، يقتحم فيه ضابط في الجيش مكتب النائب الأول لرئيس الجامعة، ويتهجم عليه بالتهديد، ثم يخرج ويهشم سيارة النائب. لم لا يفعل ذلك وقد مرّت جريمة استهداف رئيس الجامعة وقتل مرافقه، مرور اللئام!
قرار قيادة الجامعة بتعليق الدراسة، هو أقصى ما تستطيع مؤسسة مدنية أن تفعله تعبيراً عن احتجاجها ضد الانتهاكات المستمرة عليها. ويفترض بالحكومة المعترف بها دولياً، التدخل في الأمر ما دام حال الجامعة ومنتسبيها وصل إلى هذا الوضع الذي يتهدد حياتهم.
الجامعات وبناها التحتية مكاسب تأخذ صفة القداسة ضمن البنى التحتية لأي دولة تنشد الاستقرار طويل المدى، وفي اليمن، يسطو مسؤولو الدولة على الأصول المادية للجامعات، ويقتلون قياداتها العليا
لنتصور كيف يمكن أن يلقي أستاذ جامعي محاضرته وبالقرب منه يتجول ضابط في الجيش أو الأمن أو نافذ، ينقض عليه في أية لحظة يتعكّر مزاجه! وأبعد من ذلك، أن يكون المنتهِك شاب مسلّح كان يفترض به أن يكون على مقاعد الدراسة أمام المحاضر. لنتصور موظفاً إدارياً أو فنياً يقوم بعمله في مكتبه، وفوق رأسه سماسرة معاملات مسلحين ومتهورين، ثم يصبح الطريق من وإلى البيت كما لو أنه "سراط" يتوجب عليه اجتيازه بنباهة وحذر، للبقاء حياً. وإضافة لذلك، لن يخلو الطريق من مثل هذه المخاطر حتى ولو لم يكن له علاقة بأي احتكاك مع أصحاب النفوذ، كما حدث للدكتور نجيب ناصر؛ نجا أستاذ الهندسة الوراثية بأعجوبة من اشتباك مسلح مفاجئ بين عصابتين وسط المدينة، حين كان في طريقه إلى بيته. أعطب الرصاص محرك سيارته واخترق زجاج السيارة وهيكلها، وهو على المقود مسلّماً بالموت. كل هذا وأكثر يعيشه منتسبو جامعة تعز، وهم يواصلون إبقاء منارة الجامعة مضيئة.
كان المتوقع أن جامعة تعز لن تتعرض لأي انتهاك بعد استهداف رئيس الجامعة، لكن الحكومة التي غضت الطرف عن الشروع في قتل رئيسها، وقتل مرافقه، وعن اعتداء تعرّض له أمينها العام ونهب سيارته الحكومية، هل ستتفاعل مع قضية التهجم والاعتداء التي تعرض لها النائب الأول لرئيس الجامعة!
الجامعات وبناها التحتية مكاسب تأخذ صفة القداسة ضمن البنى التحتية لأي دولة تنشد الاستقرار طويل المدى، وفي اليمن، يسطو مسؤولو الدولة وضباطها على الأصول المادية للجامعات، ويقتلون قياداتها العليا، وينكّلون بطاقمها التدريسي والإداري والفني! هل ما يزال هناك أحد من فرقاء 2014، يتذكّر مصطلح "بناء الدولة"؟
ها هو صرح علمي من بنية الدولة الموجودة على الواقع، على وشك الانهيار، ومن الحماقة ترك معاول الهدم والفوضى تجهز على مؤسسة علمية وأكاديمية تتخرج منها آلاف العقول الشابة كل سنة، سيما في هذا الظرف العصيب. من يريد بناء مستقبل آمن ومستقر، عليه الحفاظ على العصفور الذي في اليد.
لا ينبغي ترك جامعة تعز تواجه كل هذه الانتهاكات المستمرة وحدها؛ على الحكومة المعترف بها دولياً أن تتبنى حماية الجامعة ومنتسبيها، الذين عليهم في نفس الوقت، أن يتماسكوا يدًا واحدة في وجه محاولات استباحتها، ويوصلوا أصواتهم إلى كل المنظمات الدولية المعنية، كاليونسكو وغيرها.
وأخيراً، يبدو أنه لم يبق سوى أن يلجأ أساتذة الجامعة لتفعيل دائرة علاقاتهم العلمية على المستوى الإقليمي والدولي، لوضع العالم في صورة ما تتعرض له الجامعة من انتهاكات تمسّ جوهر العملية التعليمية، وتهدد استمرارها، وتشكل خطراً على حياة منتسبيها. فبدون روح التضامن، سوف يتطاول الاعتداء، وتُهدر قداسة العلم ودماء العاملين لأجله.