أين تعثرت الوحدة؟ وهو سؤال رغم بساطته فإنه يحيلنا إلى أسئلة من قبيل : كيف تحققت الوحدة؟ ولماذا تحققت؟ وفي أي ظرف زمني تحققت؟ وهل تحققت فعلا كما كان يتطلع إليها الشعب؟ أم كانت وحدة بين سلطتين كل منها له توجهه الخاص وفهمه الخاص للحالة ؟ وما هي الآلية التي تم الاتفاق عليها لبناء دولة الوحدة ؟ وهل تم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه ؟ وكيف تم دمج نظامين متباينين في نظام واحد؟ وما هي الضمانات التي وضعها كل طرف لنفسه ،أو بصيغة أخرى على ماذا راهن كل طرف حين اقدم على الوحدة ؟ وما هي الأسس الفعلية التي قامت عليها الدولة الوليدة ؟ ولماذا اختلف صانعوها؟ وغير ذلك من التفاصيل ذات العلاقة بالسؤال الأول! أما السؤال الثاني او بالأصح الشق الثاني من السؤال وهو ما هو مستقبل الوحدة اليمنية في ظل التفكيك المريع لشكل الدولة؟..
وباختصار شديد ونظرا لأن السؤالين يكتنزان العديد من التساؤلات ، وفي ظل التفكيك المريع لشكل الدولة فلابد أن نعود قليلا إلى الوراء لمعاينة حروب الشطرين وما تلاها من أحداث دولية اجبرت كل طرف أن يهرب إلى الأمام ، ناهيك عن أن ثقافة الوحدة وحلم تحقيقها ظل يراود أعضاء الحزب الاشتراكي اليمني الذي ربى كوادره على ثقافة الوحدة ، وفي المقابل بتعميم نهجة الاشتراكي ، وفي الشمال هناك من كان يكفر النظام الاشتراكي وبخاصة الإسلام السياسي المدعوم من السعودية ، وقد استغل النظام السعودي ومن ورائه أمريكا في تجييش الحركة الإسلامية لمحاربة النظام الشيوعي الروسي أثناء حرب أفغانستان وهي الحرب التي جعلت الحركات الإسلامية تتطلع لإعادة الخلافة الإسلامية، لكن الحرب توقفت وانتهجت روسيا نهجا جديدا وتخلت عن النظام الشيوعي ، وتلاشت أحلام الحركات الاسلامية التي كانت تبث الاساطير والخرافات ولما تحولت تلك الانتصارات إلى سراب جاءت فكرة التوجه إلى جنوب اليمن لمحاربة النظام الاشتراكي وتحقيق حلم عودة الخلافة واعتبار المحافظات الجنوبية موضع قدم للبدء في تحقيق الخلافة ، اي ان الوحدة جاءت في ظل ظروف شديدة التعقيد محليا ودوليا نستطيع القول انها اجبرت كل طرف أن ينتهز الفرصة لتحقيق الوحدة!
الوحدة تحققت بين نظام شمولي لا صوت فيه يعلو على صوت الحزب وبين نظام ديكتاتوري انتهازي لا ينظر في الوحدة إلا من منظار الضم والإلحاق وتوسيع نطاق نفوذه.
حكام الشطر الجنوبي كانوا يعانون من عزلة خانقة ومن أزمة مالية جراء انهيار دول المنظومة الاشتراكية الداعمة، ونظام حزبي انقسم إلى قسمين بسبب احداث عام ١٩٨٦م الدموية . والطرفان عجزا عن إقامة علاقة ودية مع دول الخليج ليحقق أهدافة والتخلص من الآخر ، في ظل نظام ديكتاتوري عسكري صنعته المملكة السعودية ظل قراره مرهونا بيدها.
ولولا حرب الخليج الأولى بين نظام صدام حسين وإيران "الخمينية" ووقوف السعودية ودول الخليج مع صدام حسين الاقوى في المنطقة لما استطاع نظام الشمال التخلص من تلك الهيمنة حيث ارتبط بنظام صدام القوي، أي أن الوحدة تحققت بين نظام شمولي لا صوت فيه يعلو على صوت الحزب وبين نظام ديكتاتوري انتهازي لا ينظر في الوحدة إلا من منظار الضم والإلحاق وتوسيع نطاق نفوذه ، وعندما أرسلت السعودية وزير خارجيتها قبيل تحقيق الوحدة لإغراء الرفاق من خلال تقديم مساعدات ومشاريع سكنية إلا أن صدام حال دون تحقيق مأربها التوسعية، فمثلت الوحدة صدمة كبيرة لها ولعملائها وللتيار الاسلامي الذي هدد بمسيرة مليونية ضدا على الوحدة..
وقد كان لاستخراج النفط في الشمال ووجود نهضة اقتصادية حيث كانت المحافظات الجنوبية سوقا تصدر إليها البضائع والسلع الضرورية من الشمال وهكذا صارت المحافظات الجنوبية تزخر بالبضائع المصنعة في الشمال.
ما أن جاءت زيارة علي عبدالله صالح إلى عدن خرجت الجماهير أطفالا ورجالاً ونساء يهتفون بالوحدة، وفي ظل هذه العواطف الجياشة اتفق حكام الشطرين على التعجيل بالوحدة ، وقد قيل بان علي عبدالله صالح طرح فكرة الوحدة الفيدرالية لكن علي سالم وبقرار فردي ،متجاوزا الحزب ورئيس الدولة المهندس حيدر العطاس، طرح الوحدة الاندماجية، ووضع الجميع في موقف لا يستطيعون رفضه، فتم الإتفاق على الوحدة بطريقة ارتجالية وغير مدروسة وبسذاجة تم الاتفاق على الاخذ بما هو ايجابي في النظامين والتخلي عما هو سلبي مع بناء دولة تعتمد على الديمقراطية والتعددية الحزبية وكان الحزب يراهن على حجم كوادرة الكبير في الشمال الذين يتجاوز عددهم النصف مليون عضو .
وقد اعتبر ان مفاصل السلطة تكمن في وزارة الدفاع والبرلمان ورئاسة الحكومة مقابل أن يكون علي عبدالله صالح هو رئيس دولة الوحدة وعلي سالم نائبه ولم يدرك الحزب أن مفاصل السلطة في نظام ديكتاتوري هو في بقاء الديكتاتور على قمة هرم السلطة ومع المال ممثلا بوزير المالية والبنك المركزي ودعم القبائل التي لا يهمها من أي نظام إلا المال ، وقد طلب علي عبد الله صالح من راس القبيلة في اليمن وهو الشيخ عبدالله منذ الايام الاولى من تحقيق الوحدة ان يشكل مع الاخوان المسلمين حزب الاصلاح الذي ترأسه الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر الخصم اللدود للحزب الاشتراكي، حيث كان النظام الشمالي مكونا من شركاء منذ طلوع علي عبدالله صالح رئيسا للجمهورية بعد اغتيال الغشمي هم علي عبدالله صالح تاركا السلطة في القوات المسلحة لعلي محسن والشيخ عبدالله شيخ القبيلة اليمنية وشيخ الرئيس ، وقد ظل علي محسن والشيخ ضدا على الوحدة والحزب الاشتراكي وكانا وحزب الاصلاح اشد أعداء الوحدة ..
وقد قيل أن علي سالم البيض وعلي عبدالله صالح قد اتفقا على استمرار الفترة الانتقالية أطول فترة ممكنة حتى يتم خلالها أما دمج الحزبين المؤتمر والاشتراكي ، أو ترتيب ان يكونا حزبين حاكمين بالتناوب كالحزبين الجمهوري والديمقراطي في امريكا ، اي أن يكونا اكبر حزبين في الساحة يحتكران السلطة .. إلا ان طبيعة علي عبدالله صالح الإنتهازية وسلطته الفردية التي لا يحب ان يشاركه فيها أحد وانه ظن أن وظيفة النائب ورئاسة الحكومة هي كنائبه السابق عبدالكريم العرشي وأن العطاس سيكون عبدالعزيز عبد الغني، إلا انه فوجئ بممارستهما لكامل صلاحياتهما علي سالم كنائب للرئيس في كل الصلاحيات، والعطاس يمارس صلاحياته كرئيس للوزراء دون الرجوع إليه في كل كبيرة وصغيرة، وكان هذا احد عوامل تعثر الوحدة ، فما ان اظهر علي سالم وحيدر أبوبكر العطاس انهما شركاء في اتخاذ القرار ولن يسمح اي منهما ان يكون موظفا ينفذ التوجيهات فحسب...
وهنا استغل اعداء الوحدة هذا الخلاف فحرضوا على التخلص من الحزب وكوادره فكانت تلك الاغتيالات لكوادر الحزب وظل الصراع يتفاقم من شهر إلى اخر وفي كل مرة يلجأ علي سالم إلى الاعتكاف في عدن ويعلن احتجاجه حتى تم الاتفاق على وثيقة العهد والاتفاق التي وقعت في عمان إلا ان علي عبدالله صالح قد ابطن تصفية الحزب وفي ظل اشتراط الشيخ الاحمر عودة علي سالم إلى صنعاء في توقيع وثيقة العهد والاتفاق وقد اعدوا العدة وتصفية علي سالم إذا ما وصل إلى صنعاء فادرك البيض الخطر وتوجه قبيل عودته إلى عدن إلى المملكة ولعله كان يبحث النجاة عند من يريدون راسه للحرب فكانت تلك الحرب الظالمة صيف عام ١٩٩٤م بمثابة الطعنة النجلاء في خاصرة الوحدة وعندما اعلن علي عبدالله صالح انه عمد الوحدة بالدم قلنا بل لقد عمد الانفصال بالدم ..
وهكذا لم يتم الاخذ بما في النظامين من ايجابيات بل حل نظام الجمهورية العربية اليمنية محل دولة الوحدة وقد زاد تفاقم مشاكل الوحدة وكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير عدم معالجة الاثار السلبية التي خلفتها الحرب بل تمادى علي عبدالله صالح فأقصى الضباط والافراد وكوادر الحزب من وظائفهم وحولهم إلى شبه متسولين فبدا الحراك الجنوبي ثورته حتى تمخض في مجلس انتقالي مدعوم اماراتيا في الظاهر وسعوديا في الباطن وبدلا من معالجة الفروقات الطبقية بين مواطني الشمال والجنوب زاد الشماليون غناء وثراء من خلال توزيع اراضي الجنوب ومنشآته للمقربين، وظن النظام ان شق وسفلتة الطرقات والنهضة المعمارية في المحافظات الجنوبية هي السبيل إلى كسب المواطنين في المحافظات الجنوبية إلا ان ذلك ادى إلى ردود فعل سلبية .
وفي ظل ذلك التباين والفوارق الطبقية كان سقف مطالب الجنوبيين يرتفع من حين إلى اخر حتى وصل إلى طلب فك الارتباط ثم جاءت ثورة الحادي عشر من فبراير فانتصرت على نظام علي عبدالله صالح وتم خلعه وفقا للمبادرة الخليجية وتم الاتفاق على عبد ربه منصور شريكه في حرب صيف عام ١٩٩٤م ان يكون رئيسا توافقيا وزكى هذا الترشيح عشرة مليون ناخب وتم خلال حكمه التوصل إلى اعظم وثيقتين في تاريخ اليمن هما مخرجات الحوار الوطني الشامل ومسودة الدستور ، لكن من اشعل حرب صيف عام ١٩٩٤م بالتحالف مع حزب الاصلاح الإخواني هو من اشعل الحرب الثانية عام ٢٠١٥م بحليقه الجديد الحوثي ، معلنا الحرب من على شرفة "قصر الثنية" وأنه لن يسمح للفارين إلى عدن الفرار من الثلاثة المنافذ التي سمح بها للمهزومين عام ١٩٩٤م الفرار من خلالها بل حدد منفذا واحدا عبر البحر الاحمر إلى جيبوتي الذي سيكون تحت سيطرته، ومن خلال ما سبق نستطيع الوقوف أين تعثرت الوحدة،
أما مستقبل الوحدة مرهون ببناء دولة فيدرالية ما لم فسيظل شبح الانفصال مخيما في ظل تمسك سلطات الأمر الواقع بمشاريعهم الصغيرة هذا هو تصوري لمستقبل الوحدة في ظل التفكيك المريع لشكل الدولة متمنيا على سلطات الواقع( شمالاً وجنوباً) أن تعي بأن التشظي والاصرار على الانفصال هو تقديم ثلاثة ارباع مساحة الربع المتبقي من ارض اليمن الطبيعية سوف تلتهمه التوسعية الكبرى.