الحديث عن الوحدة اليمنية أصبح حديثًا عن حلم تحول إلى ذكريات عن كابوس يؤرق صاحبه أكثر مما يحفز همته للمُضيّ قُدمًا، نتيجة ما تعرض له مفهوم الوحدة كقيمة من تفريغ لمضامينه الإنسانية وتحويله إلى نقيض يَخِزُ الوجدان ويجرح الفؤاد.
وما دام ولا بد من الحديث في وعن الوحدة، فلا مناص من نبش ذاكرة التاريخ لدحض فكرة الوحدة التاريخية -التي لا تتزعزع، التي يروج لها البعض باستماتة، للتدليل على أنها قدَر محض، معنية به فئة من الناس دون سواها، وليست مشروع بشري سياسي اجتهادي خاضع للمعايير والقدرات البشرية، ويحتمل النجاح والإخفاق وفقًا لقدرات القائمين عليه- من جهة، ودحض مساعي خلق تاريخ موازٍ يؤصّل للقطيعة بين الشمال والجنوب بناء على معطيات مفتعلة.
إن السعي الحثيث لتغليب مفهوم الوحدة السياسية على غيرها من المفاهيم (الاجتماعية والثقافية والاقتصادية) قد أضر كثيرًا بالأخريات، بل يقود نحو تدميرها، وهي المفاهيم التي صمدت لفترات تاريخية طويلة.
اليمن مفهومًا جغرافيًّا-اجتماعيًّا أكثر منها مفهومًا سياسيًّا
تؤكد المصادر التاريخية أن اليمن قد شهدت قديمًا (أي قبل الميلاد وحتى ما بعده) ظهور دول عدة:
ويمكن ملاحظة أن هذه الدول لم تظهر بصور متسلسلة، أي إن كل دولة لم تلِ الدولة الأخرى بل تزامن ظهورها. فقد تزامنت دولة حضرموت مع دولة معين، وزامنت دولة سبأ كلًّا من دولة حضرموت وقتبان، وبعد ذلك ظهرت للوجود دولة التبابعة التي لم تدم سوى 638 عامًا، وأن هذه الدول قد توسعت على حساب بعضها البعض عبر الحروب الطاحنة التي نشبت بينها، وغالبًا ما كانت تنتهي بسقوط إحداها واستيلاء الدولة المنتصرة على أراضي المهزومة. وهذا يدحض فكرة الوحدة حسب المفهوم المعاصر لها.
لقد كان قيام الدولة اليمنية الموحدة عام 1990، مخالفًا لما تم الاعتياد عليه، فظهر ذلك مستغربًا على الجميع، لم تستطع عقلية الهيمنة قبول هكذا وضع. لذلك سرعان ما تم افتعال حرب 1994، بوابل من الشعارات بما فيها تكفير الجنوبيين
ويشير المؤرخ الشماحي إلى أن اليمن ارتبطت في عهد الرسول (ص) بالمدينة المنورة، وقسمت إلى خمسة مخاليف: صنعاء، كِندة، حضرموت، الجند، تهامة، عدن. أي إن كل مخلاف يديره والٍ يعينه الرسول )ص) أو خليفته من بعده.
وقد نشأت في اليمن منذ القرن الثالث الهجري حتى 1962 دول كثيرة، كان أهمها 12 دولة، أولها دولة بني زياد 203هـ التي استمر وجودها حتى 409هـ، وآخرها دولة آل حميد الدين 1329هـ - 1382هـ (1918-1962م). وشهدت هذه الدول بدورها حروبًا فيما بينها اكتسبت أراضيَ وخسرت أراضي حسب الحالة التي كانت عليها من القوة أو الضعف، وكان غالبًا ما ينجم عن ضعف الدول استقلال حكام الولايات والأقاليم بمناطق ولاياتهم، وقد أشار إلى ذلك حسين السراجي في كتابه (بلوغ المرام في شرح مسك الختام) حيث قال: "واعلم أنه لما ضعفت الدولة القاسمية، تغلبت القبائل، وتطاولت الدول إلى اليمن، وملك الأشراف تهامة وتغلب أهل البلاد النائية وانتشر في البلاد أهل الفساد، فتغلب ذو محمد وذو حسين على كثير من بلاد لاعة". وكانت مناطق الجنوب، ونتيجة بعدها عن مراكز تلك الدول، وبسبب استبداد عمالها وفسادهم، هي أكثر المناطق نزوعًا نحو الاستقلالية. وسنحاول فيما يلي تفصيل جزء من ذلك.
فصل محمد عمر الحبشي في كتابه (اليمن الجنوبي سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا منذ 1937 حتى قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) أن اليمن سيطرت "على عدن عام 1640، واستمرت السيطرة حتى 1729 عندما ثار ممثل الإمام في لحج وضم عدن إليه وأسس السلطنة العبدلية". ولحج كما يقول أحمد بن فضل العبدلي هي "مخلاف باليمن ينسب إلى لحج بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب ابن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يعرب بن قحطان"، وأن آل سلام الذين ينتمي إليهم العبادلة من يافع من القارة، ويشير الواسعي إلى أن عدن كانت "من أملاك الدولة العثمانية اسمًا فقط، وفي حوزة أمير لحج الذي هو تحت إمام صنعاء". هذا الكلام الجنوبي يدحض ما يذهب إليه البعض من أن القبائل الجنوبية منفصلة عن الشمالية.
ويذهب أحمد شرف الدين للقول إن "عدن انفصلت عن الدولة القاسمية عندما قام أهل يافع بمساعدة الشيخ فضل بن علي العبدلي بثورة ضد عامل الإمام المنصور الحسين بن القاسم". ويضيف في مكان آخر: "يعتبر فضل بن علي بن فضل بن صالح بن سلام مؤسس القبيلة العبدلية، وقد اشتُهر اسمه عندما ولاه إمام اليمن الحسين بن القاسم 1722-1744م عمالة لحج، ولكنه كان مع الأسف سببًا في فصل منطقة لحج وعدن عن أمها اليمن". وقد أشار القمندان إلى أن العبادلة اتخذوا الحوطة عاصمة لملكهم في 1145 للهجرة بعد أن اتخذها عمال الإمام.
ويقول صاحب كتاب (اليمن عبر التاريخ)، إن أحمد بن حسين الفضلي هو أول من أسس علاقة مع الإنجليز في بلاد الفضلي. وهذا فيه دلالة على سوء العلاقة التي كانت تحكم الدول المركزية بالنواحي، الأمر الذي جعلها تفضل الهروب والاحتماء بالإنجليز وعقد معاهدات الحماية معه. أما العوالق السفلى فقد حكمها آل فريد تحت ولاية أئمة اليمن حتى 1871م، عندما وقّع السلطان منتصر بن عبدالله العولقي معاهدة الحماية مع بريطانيا.
وبالنسبة لحضرموت فتذكر هذه المصادر أنه "في سنة 1069هـ جهز الإمام المتوكل على الله إسماعيل جيشًا بقيادة أحمد بن الحسن للاستيلاء على حضرموت، وتم للقائد إخضاع السلطان بدر بن عمر والاستيلاء على البلاد، وظلت حضرموت تحت حكم المتوكل حتى قام عيسى ابن بدر الكثيري بثورته في ظُفار سنة 1079هـ، بعدها قطعت كل علاقة للأئمة بحضرموت".
مما سبق إيراده يمكننا الاعتقاد أن الطبيعة الاستبدادية للحكام، والرغبة الجامحة في البسط والسيطرة وضم الأراضي بالقوة، كانت السبب الرئيسي لعدم قيام دولة مركزية في اليمن وفقًا لتعاقدات تقوم على أسس العيش المشترك والتراضي واحترام خصوصيات ومصالح كافة المناطق. وهذا جعل اليمن ساحة للصراع المستديم بين مختلف المكونات.
الوحدة بين الحرب وخيارات المصالح
إذا تحدثنا بمفردات اليوم، نقول إن اليمن خلال تاريخها قد تنافسها العديد من الدول والدويلات. حينًا انضوت أجزاء واسعة منها في ظل دولة موحدة، وأحيانًا أخرى تنازعتها دول متعددة، أي إن اليمن لم تعش دولة موحدة ومستقرة سياسيًّا لفترات زمنية طويلة متصلة.
لقد خضعت الوحدة السياسية لليمن لقوة الحاكم وقدرته على الإمساك بالوضع أمام المنافسين الذين يسعون للقفز على سلطته أو اقتطاع أجزاء من دولته لتأسيس كياناتهم الخاصة، فإذا ما سقط ذهبت دولته، كما حصل لدولة أسعد الكامل (378-430)، الذي يعتبر الأطول عمرًا بين ملوك الدول اليمنية، وبسبب توسع مملكته أطلق على نفسه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم في المرتفعات والتهائم". وقد تكررت تلك العملية كثيرًا في التاريخ. ولكن الروابط الاجتماعية والاقتصادية ظلت على حالها خلال تلك العصور، بمعنى أن الواقع السياسي الذي كان يستجد لم يقد إلى القطيعة الاجتماعية والاقتصادية النهائية بين مختلف المناطق كما هو الحال اليوم، بل ربما عززها أكثر، هذا ما يمكن أن نستنتجه من الهجرات الداخلية الدائمة من منطقة الى أخرى ومن دولة يمنية إلى أخرى.
لقد كانت الوحدة حاضرة دائمًا ليس فقط عند العامة، بل وعند النخب الحاكمة. ففي الربع الأول من القرن العشرين برزت محاولات من قبل الإمام يحيى لإقامة دولة واحدة بين مملكته والسلطنات والمشيخات الجنوبية تحت سلطته، وقد ذكر عبدالعزيز الثعالبي في كتابه (الرحلة اليمنية) أنه سعى لحث الأطراف في اليمن على توحيد الصفوف، "وتحقيقًا لهذه الغاية سعى الشيخ عبدالعزيز الثعالبي إلى عقد مؤتمر يمني عام برعاية الإمام يحيى لتركيز أسس الوحدة اليمنية المنشودة، وقد تمكن من خلال رحلته إلى اليمن من 13 أغسطس إلى 6 أكتوبر 1924، من إقناع كافة الأطراف بحضور هذا المؤتمر.
يقول حول هذا الموضوع:
تحادثت مع كثير من أقيال اليمن وأصحاب السلطات في تلك الأطراف، وكلهم قبلوا الفكرة مبدئيًّا، ولكن نقطة الخلاف على ما يظهر لي كانت أنهم يريدون أن يتفقوا مع اليمن (يقصد دولة الإمام) في السياسة الخارجية والدفاع عن البلاد، لكنهم يريدون أن يبقى لهم استقلالهم الداخلي (المشيخات والسلطنات الجنوبية)، وبعبارة أخرى، يريدون إيجاد نظام اتحادي (يحفظ لهم استقلال كياناتهم) بشرط أن تستقر حكومة اليمن ويستقر التعاون مع نظامها السياسي في شكل دستوري يضمن لكل البلاد حقوقها".
إن الواقع السائد في اليمن اليوم ليس نتاج اللحظة التاريخية الراهنة، ولكنه استجرار لكل تفاصيل الماضي بأسوأ ما فيه من ثقافة الغلبة والإلغاء للآخَر المختلِف. فالحرب هي ذلك القاسم المشترك الجامع لكل الدول والسلطات، وهذه الحرب من حيث هي عملية مستمرة بصور متعددة قد فرضت واقعها ونتائجها، لكن عدم الاعتراف بهذا الواقع وهذه النتائج أثر سلبًا على تحديد الآليات الصحيحة لتسوية الوضع.
إذن، لقد فشلت جميع محاولات توحيد اليمن سياسيًّا في دولة مستقرة وثابتة، ليس بسبب العامل الخارجي كما يقول البعض، خاصة السياسيين، بل بسبب عدم توفر نظام سياسي مستقر منضبط بدستور وقانون.
كما أن الادعاء بأن الوحدة كانت ظاهرة تاريخية طويلة كما تزعم بعض القوى، لا يستقيم مع المسار التاريخي الذي أوردناه، ولا يقل عن ذلك، سطحيةً في التعامل مع هذه القضية، الادعاءُ بأن الجنوب لم يكن يومًا إقليمًا تابعًا لأي نظام في الشمال بل كان دولة وشعبًا..."، إلا إذا كان المقصود هو الدولة التي نشأت بعد الاستقلال. كما أن المناطق الجنوبية منذ انسلاخها عن الحكم الإمامي تفرقت في سلطنات ومشيخات، ولم تسعَ للتوحد في دولة واحدة، بل كانت دائمة الميل للتحالفات الظرفية، وهي الآن بالذات تنزلق نحو ذلك الوضع، حيث صار الصوت المناطقي هو الأعلى والمسموع بين كل الأصوات الجنوبية.
وبعد جلاء الإنجليز عن المستعمرة عدن وسيطرة الجبهة القومية على كل مناطق الجنوب، تم توحيدها في إطار دولة واحدة بالطريقة نفسها التي كان يقوم بها السابقون، بَدءًا من الحرب الأهلية بين القومية والتحرير قبيل أيام من الجلاء ثم القضاء على كل مظاهر التمايز السياسي الجنوبي الذي ولدته فترة الخمسينيات والستينيات والاستعاضة عنه بتحالفات قبلية ومناطقية داخل تنظيم الجبهة القومية والنظام السياسي، تم تقاسم النفوذ والسلطة بموجبه. وتلا ذلك سنوات من الإقصاء للكفاءات والخبرات من خارج تلك التحالفات، نالت عدن العاصمة النصيبَ الأوفر من التهميش والإقصاء باعتبارها غنيمة الثورة، وظلت باستمرار غنيمة لكل حرب.
انتهى المطاف بالتحالفات المناطقية والقبلية الجنوبية بالضيق ببعضها البعض، وعدم القدرة على احتمال بقاء الشراكة المناطقية القائمة على خيط رفيع من التوازن النسبي، دفعها ذلك الضيق نحو التدمير الذاتي في يناير 1986، في واقعة مشابهة لما جرى للماليك على يد محمد علي باشا في مصر.
ومن نافلة القول إن الوضع شمالًا لم يكن أحسن حالًا. فقد عمل الإقصاء عمله أثناء الثورة والحرب الأهلية، حيث حُظرت جميع الفعاليات السياسية المساندة لثورة 26 سبتمبر، وتوج ذلك بانقلاب 5 نوفمبر 67، وتم المنع المطلق للحزبية والعمل السياسي بعد المصالحة بين الملكيين والجمهوريين التي فرضتها السعودية، وكان المحفز الأكبر لذلك هو قدرة القوى التقليدية على التكيف والسيطرة على السلطة؛ الأمر الذي خلق نوعًا آخر من الإقصاء مشابهًا للسائد جنوبًا على قاعدة ما أطلق عليه المؤرخ الأكوع "اليمن الأعلى واليمن الأسفل"، وهي المعادلة التي ما زالت تتغذى إلى اليوم بمختلف الشعارات، فبدلًا من الإقصاء الطائفي السابق أضيف الإقصاء المناطقي.
لقد كان قيام الدولة اليمنية الموحدة عام 1990، مخالفًا لما تم الاعتياد عليه، فظهر ذلك مستغربًا على الجميع، لم تستطع عقلية الهيمنة قبول هكذا وضع. لذلك سرعان ما تم افتعال حرب 1994، بوابل من الشعارات بما فيها تكفير الجنوبيين، ليخرج الشيخ الأحمر ليعلن للملأ أن (الفرع عاد للأصل)، والبنت عادت لحضن (الأم)، ليتم إضفاء الطابع التقليدي للوحدة على الدولة الجديدة، لكن ذلك لم يخلق دولة مستقرة من جميع النواحي. ومن قراءتنا للكثير من المصادر نعرف أن عبارة (الأم) لم يستخدمها الأحمر فقط، بل نجدها عند أحمد شرف الدين في كتابه اليمن عبر التاريخ في صفحة 36، وصفحات أخرى، كما نجده في أكثر من مكان عند محسن العيني في كتابه (معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن).
لقد بنى الملك أسعد الكامل دولته، وامتد نفوذه إلى مكة، وكان يكسو الكعبة، ومع ذلك لم يقل الأحمر أو غيره بأن اليمن هي (أم) مكة، ولم يقل هو أو غيره أو يطالبوا بعودة كلٍّ من عسير ونجران وجيزان إلى حضن اليمن (الأم)، على الرغم أن ضمها للسعودية تم في العقد الثالث من القرن العشرين، عقب سقوط إمارة الإدريسي وهزيمة الإمام يحيى.
ويعتقد الأحمر أنهم بحرب 1994، قد عوضوا الفرصة التي هيأتها لهم أحداث 13 يناير 1986، في الجنوب وأضاعها عليهم علي ناصر محمد "الذي كان موقفه متذبذبًا، وكان يطلب منا عدم القيام بأي تدخل أو تحرك وعدم الإفصاح عن أي حوار بيننا وبينه"، ولكنه بعد أن يئس من دعم السوفييت "عاد إلى صنعاء يطلب منا الدعم ليزحف عليهم ويعلن الوحدة".
كانت هزيمة الجنوبيين في حرب 1994، إيذانًا بالبَدء بعمليات الفيء الواسعة لكل أصول الدولة الجنوبية ومواطنيها، فقد مارست العناصر التي تم تعيينها في مختلف المناصب بالمناطق الجنوبية أعمالًا تتنافى وواجباتها القانونية، وكما يقول عبدالخالق السمدة في مقال له في العدد الأول من (مجلة توازن النار) أكتوبر 2011: "قامت هذه العناصر بالسطو المسلح على أراضي الجنوبيين ونهب ممتلكاتهم وانتهاك حقوقهم ومصادرة حرياتهم لدرجة أنّ كثيرًا من تلك القيادات التنفيذية التي جاءت من الشمال ظهرت بمظهر المحتل..."، وهو الأمر الذي عزز من واقع عدم الاستقرار بعد الحرب، بل وعجّل بظهور الحركات الاحتجاجية التي تنامت لتتحول إلى قوة مطالِبة باستعادة الدولة الجنوبية.
إن الواقع السائد في اليمن اليوم ليس نتاج اللحظة التاريخية الراهنة، ولكنه استجرار لكل تفاصيل الماضي بأسوأ ما فيه من ثقافة الغلبة والإلغاء للآخر المختلف. فالحرب هي ذلك القاسم المشترك الجامع لكل الدول والسلطات، وهذه الحرب من حيث هي عملية مستمرة بصور متعددة قد فرضت واقعها ونتائجها، لكن عدم الاعتراف بهذا الواقع وهذه النتائج أثر سلبًا على تحديد الآليات الصحيحة لتسوية الوضع.
ما جرى ويجري اليوم نابع إما من قراءة خاطئة للتجربة التاريخية، وعدم القدرة على استنباط الدروس والعبر وفهم جملة المثالب والأخطاء التي قادت في كل مرة إلى سقوط الدول اليمنية الواحدة تلو الأخرى، والبحث بجدية عن الأسباب الحقيقية التي من شأنها توفير شروط دوامها؛ ما الذي يمكنه أن يجعل أي دولة قادرة على الاستمرارية والنماء والبقاء؟ وإما أن البطانة الانتهازية للحاكم هي التي زينت له الاقتداء بالأقيال والأذواء في حل معضلة الحكم. كان يجب أن يفهم الجميع أن التعلق بقرون الوعل أو التشبث بسراويل الأقيال البالية لن يوفر القدرة لبناء دولة عصرية مستقرة بمحددات وطنية خالية من التمايزات؛ لأن اختلاف العصور يفرض اختلاف الشكل والمضمون.
إن الشرط الهامّ لديمومة الدولة هو قدرتها على التكيف مع معطيات العصر، وقدرتها على تجديد طاقاتها ونخبها المختلفة بوسائل ليس بينها العنف.
في الحالة التي نعيشها اليوم، فإن الحديث عن الجمهورية اليمنية بمعطيات 1994، هو نوع من السماجة والاستهتار بعقولنا، يستوي معه الحديث عن الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. في الحقيقة يجري الحديث عن أشياء لا وجود لها، فالبلاد في حالة تشظٍّ تام، فالجنوب من حيث كتلة جغرافية تتقاسمه قوى مناطقية متعارضة تمام التعارض، كلٌّ منها يرى في نفسه المؤهل إلهيًّا بقيادة الجنوب، وجميعهم لا يؤمنون بالشراكة الوطنية والسياسية، ولا يمكن القول إن الشمال ليس أحسن حالًا.
التبجح بالوحدة اليوم لا يعد أكثر من مزايدة بين القوى السياسية المتنافرة، وحتى الدعوة المحمومة للاحتفال بالمناسبة أو الدعوة المضادة المناهضة للاحتفاء في هذه الظروف نراه عملًا يفتقد للعقلنة بنفس الدرجة. إن الأهم بالنسبة للمتذرعين بالوحدة أو استعادة الدولة في الجنوب أن يبرهنوا سلوكيًّا، على الأرض، على أحقية أي المشاريع بالحياة. حتى الآن لم يلمس الناس من كل الفرقاء على الأرض أي أفضلية تذكر غير ما نراه عيانًا.
وإذا كان يصح القول إن "الحديث عن الانفصال في أجواء الصراع يمكِّن قوى التطرف والفتنة من نشر الفوضى وانهيار الدولة"، كما يقول أبوبكر القربي، فإنه يصح القول نفسه، عن الحديث حول الوحدة في هذه الظروف.
لم تستطع الوحدة ولا الثورة من قبلها أن يجعلا من نفسيهما عيدًا شعبيًّا لكل الناس، واستطاع الساسة بالمقابل جعل ذلك حكرًا عليهم، يبددون خلاله موارد الدولة في الوقت الذي يفتقد فيه الناس للرواتب ويتلظون بالحر ويقهرهم الجوع ويفترسهم المرض، وحتى المعارضون للاحتفال سيقومون بنفس ما يقوم به الأولون من تبديد ولكن بدواعي منع الاحتفال.
الحقيقة التي لم يستطع الساسة اليمنيون –تقدميون ورجعيون- إدراكها هي أن الوحدة اليمنية هي بمثابة مشروع استثماري تاريخي يساهم فيه الشعب بأسره. كان مأمولًا منه أن يجلب المنافع لجميع المساهمين بنهضة اقتصادية متوازية مع مفهوم سياسي جديد للوحدة والمواطنة.
كل الذين يتبجحون بالحديث عن الوحدة ليسوا مستعدين بعدُ للتخلي عن نتائج حرب 94، على رغم أنها لم تعد بمتناول أيديهم، ومنذ خروج حسن باعوم للمطالبة بإصلاح مسار الوحدة وحتى تشكُّل فصائل الحراك الجنوبي لم يقدم منتصرو الحرب على المبادرة بأي مشروع حقيقي لإعادة الحياة إلى شريان الوحدة، بدلًا عن ذلك أخذتهم العزة بالإثم حتى لحقوا بركب الرئيس البيض صاغرين.
تعثر المشروع الأهم، كما تعودنا على تعثر مئات المشاريع الأقل نفعًا، لأن مقاولي المشروع كانت لهم حسابات متناقضة، بدءًا من مقولة توحيد أداة الثورة، وليس انتهاء بالفتح الرباني. كان لهذا المشروع أن يخلق دولة قوية أمام الناس بما توفره من حقوق وتفرضه من واجبات، وما تخلقه من فرص متساوية، دولة قوية أمام الآخرين قادرة على حماية مصالحها ومصالح مواطنيها أينما وجدت. كانت ستبرهن لي ولك ولهم أن دولة كبيرة قوية عادلة أفضل وأجمل وأعظم من دولتين صغيرتين ضعيفتين، ولكن حدث العكس. فشعر الناس على الضفتين بالخسارة؛ خسارة الحلم وخسارة ما كان متاحًا وتم الاعتياد عليه.