خلال الفترة من عام 2001 إلى عام 2005، كنت عضوًا في الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. والدرس الذي بقي حاضرًا في ذهني، هو أسلوب إدارة تلك المؤسسة العريقة بطريقة ديمقراطية لا تشوبها شائبة.
كنا نتخذ القرارات بالتصويت، والمقترح الذي يحصل على غالبية الأصوات يصبح قرارًا نافذًا ويتم العمل به، والمقترح الذي لا يحوز على الأغلبية المطلوبة يتم التحفظ عليه.
الجدير بالذكر أن الأمانة العامة تتكون من عشرة أعضاء، ووقتها (2001-2005) كان أعضاء الأمانة العامة قد جاؤوا من مشارب سياسية مختلفة، ولهم انتماءاتهم الحزبية الصريحة أو المتعاطفة، وكانت التناقضات تبرز بوضوح سافر في كل اجتماع من اجتماعات الأمانة العامة، ولكن في النهاية كان يتم الاحتكام إلى التصويت، وهكذا كانت تُحسم الخلافات، ويضطر الطرف الذي دافع عن وجهة نظره -ولكنه لم يحصد غالبية الأصوات- إلى القبول بالنتيجة، وكأنه أُلقم حجرًا.
هذه الآلية الديمقراطية البسيطة في إدارة الاتحاد، هي التي جعلته مؤسسة متماسكة وقوية جدًّا من الداخل، وذات ثقل سياسي وازن في الساحة الوطنية.
لم يكن رئيس الاتحاد، وكان أحمد قاسم دماج -رحمه الله- وقتها هو الرئيس، ينفرد بإصدار القرارات، بل كان يدعونا إلى الاجتماع كلما ظهرت قضية حقوقية أو مسائل مهمة تتطلب البتَّ فيها.
وكما أسلفت، فقد كان الرئيس يقوم بعرض القضايا، وفتح باب النقاش لكل قضية على حدة، ثُمّ التصويت عليها، وهكذا يمضي الاجتماع بسلاسة، ويخرج الجميع مقتنعًا، حتى ولو لم يكن راضيًا كل الرضا عن نتائج الاجتماع.
أتذكر اليوم هذه التجربة الديمقراطية اليمنية الصميمة، الغنية بالشفافية والنزاهة، وأتيقن أن الاتحاد قد قدَّم نموذجًا راقيًا للممارسة الديمقراطية السليمة، يمكن للدولة اليمنية أن تقتدي بها، وأن تطبقها في إدارة شؤون البلد.
هذا اقتراح في منتهى الجدية، وأراه الحل الأمثل لوقف الصراع الدائر في اليمن:
تشكيل مجلس رئاسي يتكون من عشرة مستشارين، كل مستشار يمثل أحد الأحزاب أو الفئات السياسية اليمنية، على أن يتمتع رئيس المجلس بحق الترجيح في حال تعادل الأصوات، بحيث يُحتسب صوته بصوتين في تلك الحالة الاستثنائية فقط.
بهذه الآلية الديمقراطية المستفادة من الاتحاد، يمكن تسيير عجلة الدولة اليمنية، واتخاذ القرارات السيادية بطريقة صحيحة تُرضي جميع الأطراف.
لكن هذا المقترح فيه عيب واحد بالغ الخطورة، ألا وهو: "من هو الشخص المؤهل حقًّا ليشغل موقع رئيس المجلس الرئاسي؟".
لقد لاحظتُ أن سبب نجاح الأمانة العامة (2001-2005) في تسيير شؤون الاتحاد بأسلوب ديمقراطي ليس فيه أيّ ملمح من ملامح الدكتاتورية، يعود بالدرجة الأولى إلى المزايا الشخصية لرئيس الاتحاد أحمد قاسم دماج.
لم يذهب هذا الرجل إلى أية مدرسة ليتعلم الديمقراطية، ولكنه كان نموذجًا حيًّا للديمقراطية الصادقة، دون تظاهر أو ادعاء.
أول صفة من صفاته كقائد ناجح، هو قدرته على التعامل مع الجميع دون أن يأخذ مكانتهم في الاعتبار؛ أيّ إنه كان يعامل الكبير والصغير بمقياس واحد، ويمنح الاهتمام ويُصغي لأيّ شخص بغض النظر عن مكانته الاجتماعية أو عمره.
على القائد أن يرضخ لقانون التصويت الديمقراطي، حتى وإن لم تتفق النتائج مع مبادئه؛ لأنه يعرف أن الاعوجاج يمكن معالجته لاحقًا، ولكن الانحراف عن المسار الديمقراطي هو الذي يفسد كل شيء
لقد كان تواضعه حقيقيًّا، وهذا التواضع جعله قادرًا على القبول بالرأي والرأي الآخر، وأن يقبل بكل أريحية التنازل عن رأيه إذا رأى أن الأغلبية ليست في صفه.
تميز أحمد قاسم دماج بالمرونة؛ كان يدير دفة سفينة الاتحاد وسط العواصف، متحليًّا بالصبر وببُعد النظر، وبقدر كبير جدًّا من التسامح.
خارج الاجتماعات، كان أحمد قاسم دماج هو ذاك المناضل الصلب، الذي لا يحيد عن مبادئه قيد شعرة.
هذه نقطة مهمة للغاية: على القائد أن يرضخ لقانون التصويت الديمقراطي، حتى وإن لم تتفق النتائج مع مبادئه؛ لأنه يعرف أن الاعوجاج يمكن معالجته لاحقًا، ولكن الانحراف عن المسار الديمقراطي هو الذي يفسد كل شيء، ومن ثم لا سبيل إلى إصلاحه.
شيء آخر مهم في شخصية أحمد قاسم دماج: لم يكن ضميره محدودًا بالوطن أو العروبة أو الإسلام، كان يحمل ضميرًا يسع الإنسانية كلها. الهُويات الضيقة كان قد تمكن من تجاوزها، وتوصل إلى الفطرة البسيطة التي تقول إن جميع البشر متساوون.
نستنتج إذن، من خلال استعراضنا لشخصية أحمد قاسم دماج، أننا نحتاج في منصب رئيس المجلس الرئاسي إلى شخص يحمل "رؤية إنسانية". نحتاج إلى شخصية حكيمة، بلغتْ درجة من التطور الروحي والفكري إلى حد التخلص من أوهام الهُويات القاصرة التي تصنعها الصُّدف الجغرافية.
بين ثلاثين مليون يمني، لا بد أن نعثر على أشخاص بهذه المواصفات النادرة، قد يكون عددهم قليلًا، لكن اليمن لن تنهض من كبوتها وتسير في طريق السلام والاستقرار والازدهار إلا إذا اختارتْ واحدًا منهم، ووضعته في مكانه المناسب.
هذه فكرة آمل أن يتفاعل معها المثقفون اليمنيون، للنظر مليًّا في التجربة الديمقراطية لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ومن ثَمّ دعوة القادة السياسيين اليمنيين إلى الأخذ بها، وتطبيقها، بحيث يمكن أخيرًا حل الخلافات السياسية عن طريق التصويت، بدلًا عن حلها بالحديد والنار.