نقترب من الذكرى الثالثة والثلاثين لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية واليمن لا يزال يعاني من حزم متعاقبة من التمزق والتشرذم والحروب. تأتي هذه الذكرى وشبح انفصال جنوبنا يكبر ويتصدّر واقعنا، خاصة في الآونة الأخيرة مع التوجهات الإقليمية الداعمة له، فتبدو ملامحه قريبة، ليصبح واقعًا جديدًا لليمن، مسهمًا في إضعافها وإنهاكها أكثر وأكثر.
السؤال الملِحّ والمتكرِّر، لماذا تعثّرت الوحدة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، وأين كانت الإخفاقات والزلات؟ وهل يمكن أن يتسرّب الحلم بغضون ثلاثة وثلاثين عامًا فقط، متجاوزًا المراحل التي بذلها رجالات اليمن منذ منتصف القرن الماضي، مرورًا بكل المراحل والمحطات التاريخية للسعي الى الوحدة لعقود من الزمن؟ هل يمكن أن تنتهي الوحدة هكذا بالقفز على تضحيات كل الذين سعوا إليها من القاعدة إلى قمة الهرم السياسي؟
لا شك أنّ الوحدة عانت فيضًا من التحديات والأزمات التي حالت دون ترسيخ جذورها في الأرض، لعل أهمها: ضعف السلطة المركزية وافتقارها للقوة؛ مما أدّى إلى خلق بيئة خصبة مغرية للجماعات الانفصالية الطامعة بالسلطة، وتلك الرافضة للوحدة، والأخرى المتضررة والخاسرة بسببها، فكلما كانت السلطة المركزية قوية، أمكنَ للوحدة أن تصمد وتستمر، والعكس صحيح؛ وهو ما حدث. كما أنّ عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في اليمن، بسبب ضعف قدرة الدولة المركزية على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وضعف تأسيس بيئة صلبة للممارسات السليمة للديمقراطية والتعدّدية السياسية، واعتماد انتهاجها قبل تأسيس قويّ لها، ونظرًا لغياب دولة العدالة والمواطنة المتساوية وسيادة القانون- كلّ هذا أفرز مظالم متعددة، وجدت في الانفصال حلمًا للخلاص.
كما أنّه لا يمكن أن ننسى أن كل ما نتج عن حرب 1994، من ممارسات تجاه المدنيين والعسكريين الجنوبيين الذين أُحِيلوا إلى التعاقد بمنهجية عبثية غير مدروسة، وإقصاء شرائح لها حقٌّ وطني بالمشاركة، ساهم بقوة في تنامي الشعور المضادّ تجاه الوحدة، بالإضافة إلى التعقيدات القانونية وتعدّد القوى المتصارعة واختلاف مصالحها الذاتية العابرة للمصلحة الوطنية لليمن الواحد الموحد القوي، والتي لعبت أدوارًا مؤثرة في جرّ فكرة الانفصال إلى مربع الاحتمالية الممكنة.
ولا شك أنّ تماهي الهوية الوطنية الجامعة، وتجذر الهويات المناطقية والقبَلية، ودعم بعض دول الجوار لانفصال الجنوب اليمني عن اليمن الأم، خاصة خلال سنوات الحرب الأخيرة من خلال تشكيل وتقوية جماعات انفصالية ودعمها بالسلاح والمال والتدريب والإضعاف المتعمد للشرعية اليمنية، لتبقى اليمن مجزأة وهشة وغير مؤثرة ولا فاعلة في المنطقة، برغم مواردها المتعددة وكل مقوماتها الجغرافية والتاريخية التي لو أُتيحت لليمن ستجعل منها قوة مهمة في المنطقة، كل هذا أسهم في تعثّر الوحدة وقدرتها على الصمود، بالإضافة إلى ضعف الموقف الدولي المساند للوحدة اليمنية وغياب مواقفها الحازمة تجاه ما يحدث لليمن من مساعٍ عديدة وحثيثة لشرذمة اليمن وتقسيمها إلى دويلات، وليس إلى دولتين فقط، وهو ما يلوح في الأفق، للأسف الشديد، لكل من يقرأ المشهد اليمني في الآونة الأخيرة.
واليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود ونيف على الوحدة، وفي ظلّ ضبابية المشهد المتعلق بها، فإنّنا كوحدويّين نخشى من احتمالية إعلان الانفصال الذي سيقود إلى حروب متعددة بين الوحدويين والانفصالين، وكذا بين القوى الانفصالية المتعددة ذاتها، وسيُلقي باليمن في هاوية مرعبة لا خلاص سهل منها، كما نخشى العودة إلى فكرة وحدة فدرالية ستكون حتمًا هشة -إذا لم يتم إعادة النظر في تشكيل أقاليمها بما يضمن الدمج بين مناطق شمالية وجنوبية في بعض الأقاليم، لحماية الوحدة وضمان تجذرها– وهذه الوحدة الفدرالية في ظلّ الظروف الراهنة بكل تفاصيلها لن تصمد، وستقود إلى مطالبات جديدة بالانفصال الكلي.
مستقبل وحدتنا مقلق وضبابيّ، وبحاجة إلى استفاقة وطنية لا غفوة بعدها.
نحن بحاجة إلى وقفة جادّة –بجهود وطنية وإقليمية ودولية- تجاه الوحدة والاعتراف الصادق بكل أخطاء مسارها وكلّ مسبِّبات الإخفاق في تأصيلها كهوية يمنية جامعة، ووضع الحلول الواقعية، والبدء بالمصالحة الوطنية وجبر الضرر، لعلنا ننجح في إنعاشها وإعادتها للحياة، لتتمكّن اليمن من نفض غبار كلّ هذه المعاناة والكوارث والحروب، وتتحوّل إلى دولة لها ثقل في المنطقة، كما يجب أن يكون.