تعثّرت الوحدة اليمنية في خطواتها الأولى، بل ومنذ الإعداد الفعلي لها، قبل 22 مايو 1990م؛ فالحزب الحاكم في الشطر الجنوبي، خرج من أم الكوارث 13 يناير 1986م، وبالتالي كانت خطواته الأولى هرولة غير محسوبة بالاندفاع نحو وحدة اندماجية فورية، بقرار من أمينه العام علي سالم البيض، بالضدّ من موقف قيادات حزبية في (الاشتراكي اليمني)، التي ارتأت فيدرالية وخطوات انتقالية قبل الاندماج، مع الشطر الشمالي من البلاد، الموحدة بالفعل، تاريخيًّا وشعبيًّا ووطنيًّا واجتماعيًّا.
ولعل اتفاق 30 نوفمبر 1989م، الذي طلع به علي سالم البيض وعلي عبدالله صالح، من نفق التواهي، في عدن، يومَها، مثّل مفاجأة لقيادات الحزب الاشتراكي، كما كانت مفاجأة للرئيس صالح، الذي لم يتوقّع ذلك، وكانت البداية من (النفق) المُضاء، لتدخل البلاد لاحقًا في (النفق) المظلم؛ ما يعني تجاوز كلّ المحاذير من خطوة كتلك، وإغفال خطوات سياسية تدريجية، كان يجب أن تُتخَذ، قبل الوحدة، تؤسس على الأخذ بالأفضل لدى منظومَتي الحكم في الجنوب والشمال، حينها، وهي النصيحة التي رفعها ساسة ومثقفون يمنيون، وكانت هنا العثرة الأولى.
ومن العثرات الملفتة، القبول باشتراط الإقصاء السياسي، قبل إتمام الوحدة، كما حدث لتيار الرئيس علي ناصر محمد، والمؤسف أنّ ذلك جاء بطلب الحزب الاشتراكي، الذي تأثر لاحقًا من تداعيات ذلك.
شواهد عديدة أكّدت أنّ (صالحًا) ومنذ البداية، كان يبيت لإقصاء (الاشتراكي) وابتلاع الجنوب، وهو ما حصل بعد حرب 1994م، فقد كان يقف على رأس منظومة حكم سياسي ديني وعسكري وقبَلي معادٍ لتوجه (الاشتراكي) ونظام (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، وهي المنظومة التي عززها صالح وبدأ بإجراءات وصلت حد تصفية كوادر الاشتراكي والجنوب، في صنعاء.
والعثرة الأكبر كانت بعد حرب 1994م، حينما تسلَّم صالح ورجال منظومته جنوبَ البلاد بأراضيه وثرواته، وضرب كلَّ ما كان إيجابيًّا وأفضل جنوبًا، فضلًا عن تسريح آلاف الكوادر الجنوبية من العسكريّين والمدنيّين والأمنيّين؛ الأمر الذي خلق موقفًا لدى قطاع واسع في المحافظات الجنوبية، يقف بالضد من (الوحدة)، رغم نبل غايتها، وهو الموقف الذي ظلّ يتنامى، حتى وصل إلى مرحلة العدائية ضدّ كلِّ ما هو شمالي.
مثّل الحراك الجنوبي السلمي 2007م، ولاحقًا ثورة الشباب الشعبية، الفرصةَ الأمثل لإنقاذ البلاد، والخلاص من فساد منظومة حكم صالح الفاسدة، غير أنّ من ركب موجة الحراك والثورة، والتدخلات العابثة، بدعم من دول خارجية، أحبط آمال اليمنيّين، حتى حكومة الوفاق الوطني؛ اتجه التجمُّع اليمني للإصلاح للاستحواذ على المناصب في تركيبتها، فيما كان حزب الحاكم صالح، الذي خلعته الثورة، يبيت للانقضاض عليها، وكانت الصدمة، التي خيبت آمال الوحدويين.
كل تلك التطورات مثّلت ضربات قاتلة في قلب الوحدة، التي كان اليمنيّون يأملون منها إحداث تطورٍ جوهريّ في حياتهم ومعيشتهم، وما زاد الطين بلة هو انقلاب صالح وحزبه مع جماعة الحوثي، في سبتمبر 2014م، ليس فقط على الشرعية الدستورية، بل انقلاب على الدولة والمجتمع، رغم ما تحقّق في مؤتمر الحوار الوطني، الذي انتصر أولًا لفكرة وهدف الوحدة، وتصدّى للانتصار لقضية الجنوب وصعدة وغيرها.
غزو جيش وميليشيا صالح والحوثي، وما تلاه من تداعيات على المشهد اليمني، ودخول المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في حربها تحت شعار دعم الشرعية، والزحف نحو تعز، ومِن ثَمّ جنوب البلاد، وتحديدًا نحو عدن- عزّز ثنائية الجنوب والشمال، واستغل دعاةُ الانفصال الأمرَ، بمبرر دعوتهم للخلاص من (الشمال المستعمر)، ليتعمّق بذلك الشرخ الاجتماعي أكثر فأكثر.
ومن خلال وقائع الحرب منذ انطلاقها العام 2015م، كان ملاحظًا تسكين المواجهات العسكرية على الحدود الجغرافية السابقة بين شطري اليمن، ما يعني تكريس الفصل بينهما ميدانيًّا، ولا أعتقد أنّ قيادات الدولة ونخبها السياسية لم تدرك الأمر، فتغاضت عنه، وكانت هذه عثرة كبرى أخيرة، تتسق ومطامع ومصالح خارجية واضحة المعالم.
حرب الثماني سنوات، المستمرة، منخفضة التصعيد حاليًّا، كرّست حالة التشظي والانقسام الجهوي والمناطقي، وعزّزت الممارسات العنصرية والإقصائية، في البلاد، في ظلّ تفكك الدولة، وارتهان قياداتها ونخبها للخارج؛ الأمر الذي يشي بنشوء كيانات منفصلة عن بعضها، إن لم يتم تدارك الأمر، بالاتفاق على نظام فيدرالي للدولة.
من الواضح أنّ الأمر خرج عن سيطرة اليمنيّين، ومستقبلُ الوحدة رهن التطورات، خارج إرادتهم، ولن تعود البلاد، كسابق عهدها، غير أن التعويل يظل، حاليًّا، على وحدة شعبية وطنية لليمنيين، وليس على وحدة نظام سياسي، وحدة تهيِّئ مستقبلًا، لإنتاج نخب جديدة نقية، تعيد لملمة البلاد.