في كل تقاطعات الشوارع الحيوية في مدينة كصنعاء، تصطف عشرات الدراجات النارية وعلى متنها شبان في مقتبل أعمارهم، ينتظرون العابرين الذين يرغبون استقلالَ الدراجات للوصول إلى وجهاتهم المختلفة (اختصارًا للوقت أو للوصول إلى مناطق لا تربطها خطوط النقل العمومية).
انتشرت خلال السنوات الماضية -وبشكل كبير- الدراجات النارية، كملاذ بديل لآلاف الشباب الباحثين عن لقمة العيش، في ظلّ بطالة مستشرية، ووضع اقتصادي بالغ الصعوبة، ساهمت الحرب في رفع وتيرة تداعياته وآثاره السلبية على اليمنيّين، فصار العمل على الدراجة النارية واحدة من وسائل المقاومة التي تخلق بصيصَ أمل أمام الأُسَر اليمنية، التي في كثير من الأوقات تقتطع من قوتها لتوفير ثمن دراجة يعمل عليه أحد أبنائها لإعالة الأسرة.
خيار وحيد
يتحدث عبدالرحمن (20 سنة)، سائق دراجة نارية لـ"خيوط"، عن الأسباب التي دفعته للعمل على دراجة نارية بدلًا من البحث عن عمل آخر؛ فيقول: "أثرت علينا الحرب، إذ فقد الكثير منا مصادر رزقهم، خصوصًا أولئك الكادحين الذين بالكاد يكافحون لتأمين قوت يومهم، علاوة على البطالة المتفشية بين أوساط الشباب الذين لا يجدون فرص عمل بسبب هذه الأوضاع؛ لذلك لجأت إلى العمل على الدراجة النارية، كخيار وحيد متاح أمامي، رغم المخاطر الجمة التي أواجهها، لكنه عمل درَّ عليّ مردودًا لا بأس به، استطعت أن أوفر من خلاله بعض متطلبات الحياة الضرورية، بل إنّ عائد العمل على الدراجة يفوق معظم الأعمال الأخرى التي عملت فيها، حيث كنت أتقاضى مقابلًا زهيدًا في عمل طويل وشاق".
ويضيف عبدالرحمن: "واجهت العديد من التحديات والعراقيل في الأعمال السابقة التي عملت بها، من ضمنها استغلال أرباب العمل للعامل المغلوب على أمره، والأجور الزهيدة التي نتقاضاها والتي لا تغطي أبسط المتطلبات الأساسية للأسرة، لكن منذ عملت على الدراجة النارية تخلصت من الاستغلال، واستطعت تحمل مسؤولية أسرتي ولو في الحدود الدنيا".
"حتى أتعلم"
بعد أن يفرغ الطالب الجامعي، عمر راشد (23 سنة)، من دروسه في الكلية القريبة، يقف بدراجته قبالة بوابة جامعة صنعاء، لانتظار من سيطلب توصيله لوجهته.
يقول عمر لـ"خيوط": "أدرس في كلية الإعلام، وفي الوقت نفسه أعمل على دراجة نارية، لأستطيع الإنفاق على دراستي من شراء ملازم إلى دفع رسوم وما إلى ذلك، علاوة على ذلك أوفر من مدخوله لقمة عيش لأسرتي؛ فالحياة صعبة ومضنية في بلادنا، ووالدي عاجز عن تحمل مسؤولية البيت والدراسة، وبالكاد يؤمّن بعض متطلبات المنزل بعد أن فقد مصدر رزقه بسبب الحرب".
ويتابع عمر: "وضعت الحرب على كواهلنا عبئًا ثقيلًا، لذلك وجدتني مجبورًا على تحمل مسؤولية نفسي، والانخراط في العمل على دراجة نارية لإكمال تعليمي، وتوفير قدر بسيط ممّا أحصل عليه من العمل لمساعدة أسرتي في دفع الإيجار أو المتطلبات الأخرى".
إسماعيل سعيد (25 سنة)، هو الآخر، واحدٌ ممّن دفعت بهم الحاجة إلى العمل على دراجة نارية، حيث يقف إسماعيل لأكثر من تسع ساعات على تحت حرارة الشمس الحارقة انتظارًا للركاب الذين يقصدون أماكن مختلفة، يتحدث إسماعيل لـ"خيوط"، قائلًا: "أعتبر العمل على الدراجة النارية مصدر أمان وحفظ كرامة، فالعمل جنّبَنا الفقر والعوز، مع إتاحة المجال لي لإكمال دراسة المحاسبة، لذلك هي كل شيء بالنسبة لي ولأسرتي المكونة من خمسة أفراد؛ وبالتالي بت لا أستطيع الاستغناء عن الدراجة".
من أهم أسباب انتشار الدراجات النارية هي التسهيلات التي يُقدّمها التجّار والمُلَّاك، حيث إنّ هناك محلات تجارية، تؤجر الدراجات للراغبين بالأجر اليومي وبشروط مخفّفة، لهذا صار الإقبال عليها كبيرًا
هروب من البحر
يواصل اليمنيّ المثقل بالهموم البحثَ عن سبل خلاص، خصوصًا أولئك الشبان الذين فقدوا عائلهم، إذ باتوا غير قارين على توفير أدنى أساسيات الحياة ومجبرين على المضي في طريق عمل كهذا، ومنهم الشاب سعيد مصلح (29 سنة)، الذي فقد والده، لينخرط -مضطرًّا- للعمل على دراجة نارية بعد أن ترك عمله السابق في مدينة أخرى.
يقول مصلح لـ"خيوط": "كنت أعمل في صيد الأسماك بالحديدة، وكان العمل في غاية الصعوبة والخطورة، تركت العمل في البحر بسبب خوف أمي عليّ من حوادث البحر؛ لذلك لجأت للعمل على الدراجة النارية، كونها مهنة أسهل ووسيلة نقل سريعة، يستقلها أحيانًا ثلاثة أشخاص في مشوار واحد، وهذا يعني أنّي أستطيع الحصول على مقابل جيد يساعدني في دفع التزامات الأسرة".
يضيف: "العمل على دراجة نارية مهنة منتشرة في الآونة الأخيرة بشكل لافت، حيث ساعدت كثيرًا من الشباب وغير الشباب على تأمين حياة أسرهم ومواصلة تعليمهم، في نفس الوقت مثلت وسيلة مواصلات لصاحب الدراجة نفسه".
يقول عبدالله، أحد ملاك الدراجات النارية، إنّ من أهم أسباب انتشار الدراجات النارية هي التسهيلات التي يقدّمها التجّار والمُلَّاك، حيث إنّ هناك محلات تجارية، تؤجر الدراجات للراغبين بالأجر اليومي وبشروط مخففة، لهذا صار الإقبال عليها كبيرًا.
بنزين وجمارك
يواجه العاملون على الدراجات النارية العديدَ من العراقيل والمعوقات، منها توقف العمل لأوقات طويلة، حين يحدث ارتفاعٌ في أسعار المشتقات النفطية، التي تشهد حالة تذبذب كبير وعدم استقرار في السوق، خاصة مع ظهور الأسواق السوداء التي يتم التلاعب فيها، في ظلّ غياب الرقابة والضوابط القانونية.
موسى سعيد، سائق دراجة نارية، يقول لـ"خيوط": "في بعض الأحيان تشهد أسواق البنزين ارتفاعات مهولة، حيث يصل سعر اللتر الواحد إلى ألف ريال، وبالتالي يصعب علينا العمل لأنّ معظم الزبائن يعزفون عن الذهاب إلى مقرّ أعمالهم على دراجة نارية؛ نظرًا للارتفاعات الجنونية التي يصل إليها المشوار الواحد؛ فيضطرّون للذهاب في باصات، وهذا الأمر يُنتج حالة ركود كبير للعاملين في الدراجات النارية".
يضيف موسى: "عدم استقرار المشتقات النفطية أدّى إلى تذبذب عملنا، إذ تأتي علينا أيام نقف لساعات طويلة في تقاطعات الشوارع، لا يلتفت إلينا أحد، ما يعني أننا نعود إلى أسرنا خالِين الوفاض".
إلى ذلك، ازدادت معاناة الشباب العاملين على الدراجات النارية، بعد أن أطلقت مصلحة الجمارك في صنعاء، خلال الأشهر الماضية، حملةَ ترقيم جميع الدراجات النارية غير المرقمة، بشكل رسمي وقانوني.
هذه الحملة كانت مكلفة على ملاك الدراجات النارية ذوي الدخل المحدود؛ كونها فرضت عليهم رسومًا جمركية كبيرة مقارنة بدخل هؤلاء. هذا ما قاله قاسم محمد، سائق دراجة نارية لـ"خيوط"، ويشير لبعض مميزات الحملة، قائلًا: "كانت الحملة إيجابية في ضبط المخالفين الذين يستخدمون الدراجة كوسيلة لارتكاب الجرائم والسرقة، لكن المبلغ الذي فُرض على ملاك الدراجات النارية لترقيم دراجاتهم، مبلغٌ كبير جدًّا يصل إلى 20 ألف ريال، بالإضافة إلى عملية التسجيل، وغيرها من الإجراءات التي تتطلّب مبالغَ إضافية تعد مكلفة مقارنة بالعائد المادي الذي يُحصّل من العمل على الدراجة الذي بالكاد يغطي مصاريف الأسرة، حيث كان هذا الأمر صعبًا بالنسبة لي".
فوضى مرورية
هذا وقد غصّت شوارع العاصمة صنعاء ومدن يمنية أخرى خلال الفترة الأخيرة، بآلاف الدراجات النارية حتى يتهيّأ لك أنّها صارت أكثر من البشر.
يقول طه مقبل، عامل بمحل تجاري لبيع الدراجات النارية في منطقة شعوب، لـ"خيوط"؛ إنّ الإقبال على شراء الدراجات النارية ارتفع مؤخرًا بنسبة كبيرة من قبل قطاع واسع من اليمنيّين، مقارنة بالأعوام السابقة، مؤكّدًا أنّهم يبيعون أكثر من 10 دراجات نارية أسبوعيًّا.
وعن أسعارها يقول: "تتفاوت أسعار الدراجات النارية بين 700 و800 ألف ريال (ما يعادل ألف وخمس مئة دولار، بحسب سعر الصرف في صنعاء)، خصوصًا تلك المستوردة من الصين والهند. أمّا الدراجات الأخرى الأكثر جودة، فتصل أسعارها إلى ما يعادل 4000، لكن ليس هناك طلب عليها إلّا في النادر ومن أشخاص ميسورين يستخدمونها لأغراض شخصية، وليس للعمل عليها".
فوضى وتلوث
الانتشار الكبير لظاهرة الدراجات النارية في المدن على وجه الخصوص، ترافقَ معه اختناقات وفوضى مرورية، بسبب السير المخالف لسائقين، وعبور أرصفة المشاة وجزر الشوارع، واحتلال تقاطعات الشوارع الحيوية، وتعاظم الحوادث.
التلوث السمعي بسبب أصوات المنبهات العالية التي يستخدمها السائقون وأصوات محركات الدراجات الفاقعة، سمات سالبة هي الأخرى لهذه الظاهرة.