منذ بدء التحذيرات الأمريكية ودول حلف الناتو من غزوٍ روسي لأوكرانيا، ظلّت مواقف هذه الدول تراوح في مربع التلويح بردود "قاسية" و"عقوبات" اقتصادية بالدرجة الأولى ضدّ روسيا.
وبعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدء العمليات العسكرية ضد أوكرانيا أمس الخميس، استمرّ المسار الاقتصادي لهذه الحرب مترافقاً مع سير العمليات العسكرية على الأرض ساعة بساعة، وبعد قرابة 14 ساعة من شنّ الهجوم الروسي، عقد بوتين اجتماعاً طارئاً مع رجال أعمال روس في موسكو، قال فيه إن بلاده ستظل جزءا من الاقتصاد العالمي، وستتخذ إجراءات اقتصادية موازية للعقوبات الأمريكية والأوروبية.
هناك اعتقاد لدى كثير من اليمنيين بأن الأحداث الإقليمية والدولية لا تؤثر على اليمن وبالتالي لا جدوى من متابعتها باهتمام، وهو اعتقاد خاطئ ويعمّق من عزلة اليمن حتى على مستوى المعرفة بما يعني سكانه فعلًا. فهذه التطورات الخطيرة على مستوى السلم العالمي، لا شك بأن تأثيراتها ستطال كل بلد في العالم؛ فما هو تأثيرها المحتمل على بلدنا الذي لا يزال التصنيف الأممي والدولي له كأسوأ أزمة إنسانية عالمية، قائمً بسبب الحرب الدائرة فيه للعام الثامن على التوالي؟
على المستوى العسكري، قد يرتبط الأمر بالمواقف الإقليمية والدولية للحكومات المنخرطة والفاعلة في حرب اليمن، وهو تأثير تبَعي بالضرورة لتأثير الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الدولية على المملكة العربية السعودية، الإمارات، مصر، قطر، إيران وتركيا بدرجة رئيسية. لكن على المستوى الاقتصادي تأتي قبل ذلك العلاقات التجارية المباشرة لليمن مع روسيا وأوكرانيا، ومن بعدهما، مع بقية الدول الصناعية التي تمثّل اليمن بالنسبة لها سوقًا تجارية لا أكثر.
تفيد بيانات لحركة الواردات الروسية إلى اليمن أنها تشمل "الحبوب"- وتحديدا القمح، بما يقارب 146 مليون دولار، حسب إحصائية اعتمدت على أرقام الأمم المتحدة للعام 2019، فيما تفيد بيانات أخرى بأن نسبة استيراد اليمن من القمح الروسي 25.31%، و22.51 من القمح الأوكراني، أي أن ما يقارب نصف واردات اليمن من القمح يأتي من هاتين الدولتين.
ومع الأخذ بالاعتبار انهيار الاقتصاد اليمني واعتماد البلاد على المساعدات الإغاثية في توفير الغذاء والدواء، فقد صارت الدول الممولة لاستمرار هذه المساعدات، تواجه التحذيرات الآخذة بالتصاعد من أزمة غذاء سوف تسببها الحرب الروسية الأوكرانية على جميع بلدان العالم، خاصة بلدان الشرق الأوسط.
الحرب الجديدة
الدكتور أحمد سنان كان قد توقع في تحليل حصري لـ"خيوط"، في يناير/ كانون الثاني الماضي 2022، حدوث انقلاب جوهري في ميزان القوى العالمي؛ وفي انتظار متغيرات حادّة ودرامية في طبيعة النظام الدولي السائد منذ نهاية الحرب الباردة. تجري عملية تقسيم وإعادة تقسيم العالم اقتصاديًّا وعسكريًّا وجيوسياسيًّا، وَفقًا لما سيُسْفر عنه الصراع لتعديل ميزان القوى.
في نفس الوقت الذي كانت تستعد فيه أوروبا لإشعال حرب جديدة في أوروبا نفسها، ولا تخفي بعض الدول الأوروبية رغبتها في نشوب مثل هذه الحرب، وقد بدأت بريطانيا -وهي صاحبة الخِبرة التاريخية الطويلة عمليًّا- التمهيدَ لهذه الحرب.
هذه الحرب التي انطلقت الخميس 24 فبراير/ شباط، ومسرحها أوكرانيا، التي أعتبرها الدكتور سنان على أنقاض علاقة مع روسيا امتدت لأكثر من ألف عام.
بحسب الدكتور سنان؛ "الحرب الجديدة عارية من الادعاء الأيديولوجي. لم يعد للاشتراكية من وجود في روسيا، فروسيا تواجه الغرب بأدواته (اقتصاد السوق، التقنيات العسكرية الحديثة، الإعلام والطاقة)؛ فروسيا تسعى لمواجهة التوسع الأطلسي شرقًا، بينما يمعن الأخير في التوسع وكأنه يدفع الروس نحو زاوية ضيقة.
كما أن روسيا تسعى للاستفادة من ميزة توفر الغاز الطبيعي الذي تزوّد به أوروبا؛ ربما تفكر أوروبا: (لماذا) لا تستحوذ على الغازّ الروسيّ بالمجان أو حتى بأسعار رمزية، بينما كانت أوروبا تطالب بتفعيل آلية السوق في مجال الطاقة؟
لا تنتهي قصة ما يدور في العالم هنا، فأوروبا والولايات المتحدة لا تقلق من روسيا وحدها. تستند أوروبا على تاريخها الاستعماري الطويل، وهي غير قادرة على التحرر من إرث ذلك التاريخ. والولايات المتحدة تأخذها المخاوف على مكانتها الإمبراطورية في العالم، حتى وإن كانت قد فقدت الكثير في المضمار الاقتصادي والعسكري لصالح قوى دولية وإقليمية صاعدة.
مع انشغال الدولُ العظمى بصراعات أكثر قلقًا لها على المستوى العالمي والتوازن الاستراتيجي بينها، لم يعد يعنيها الحرب في اليمن إلا بالقدر الذي يمكن أن تؤثر به على مصالحها الحيوية، كمصادر الطاقة أو طرق الإمداد، وما دامت لم تتأثر، فلِمَ العجلة إذا كان اليمنيون لديهم نَفَس طويل للحرب.
بدائل الغذاء
نقل موقع (بي بي سي العربي) عن محللة شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كيلي بيتيلو، أن التصعيد في أوكرانيا ستكون له "عواقب وخيمة للغاية على الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، والتي استحوذت على 40 في المئة من صادرات أوكرانيا من الذرة والقمح عام 2021.
وأضافت أن دول مثل مصر، التي تعد أكبر مستورد للقمح في العالم، ولبنان واليمن وعُمان وليبيا وغيرها، ستجد نفسها في موقف صعب، خاصة إذا ما نظرنا إلى "الدور الذي لعبه الأمن الغذائي في اندلاع الانتفاضات العربية قبل أكثر من عشر سنوات".
وعن البدائل تقول بيتيلو أنه من الناحية النظرية، هناك بدائل لأوكرانيا وروسيا، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ولكنها بدائل باهظة الثمن، فضلًا عن أنه "يمكن للمرء أن يجادل بأن فقدان الإمدادات الروسية والأوكرانية يمكن أن يزيد من نفوذ الولايات المتحدة على واردات الغذاء في المنطقة".
كما تشير إلى أنه حتى في حال توفر المال اللازم لاستيراد القمح من هذه الدول بكلفة أعلى، "لا تزال هناك مشكلة فيما يتعلق بامتلاك البنية التحتية المناسبة والإعداد لجلب هذه الإمدادات"، إذ تعتمد معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على البحر الأسود كطريقة لدخول السلع الزراعية، وهو ما يعني أنه سيتعين على هذه البلدان استيراد هذه السلع عبر طرق بديلة.
وفي البيان الذي صدر اليوم الخميس (24 فبراير/ شباط 2022)، حذر المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، من أن "اليمن يتجه نحو كارثة، إذ ينضب التمويل الإنساني، مما يضطر البرنامج إلى تقليص المساعدات الغذائية لملايين الأسر الجائعة"، وفقًا لما نشره موقع أخبار الأمم المتحدة.
وقال بيزلي الذي التقى رئيس الحكومة المعترف بها دوليًا قبل يوم واحد من اندلاع الحرب في أوكرانيا: "ليس لدينا خيار سوى أخذ الطعام من الجياع لإطعام المتضورين جوعًا، ما لم نحصل على تمويل فوري، سنخاطر في غضون أسابيع قليلة حتى بعدم قدرتنا على إطعام المتضورين جوعًا. سيكون هذا الجحيم على الأرض."
ويرجّح برنامج الأغذية العالمي أن يؤدي تصعيد الصراع في أوكرانيا إلى زيادة أسعار الوقود والغذاء، خاصة الحبوب في اليمن الذي يعتمد على استيراد غذائه بنسبة تتجاوز 90%.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، قدمت حكومة صنعاء التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) تصوّرًا للعمليات الإنسانية لمنظمات الإغاثة العاملة في اليمن، بحسب وسائل إعلام تابعة لسلطات صنعاء، دون تفاصيل عن هذا التصور.
وبما أن الحرب في اليمن ظلت فعليًا في هامش الاهتمام الدولي طيلة السنوات السبع الماضية، فمن المبكر التكهن بالمدى الذي سيصله تأثير النزاع الروسي الأوكراني عليها، لكن هذا المستوى من النزاع الدولي وحجم الدول المنخرطة فيه، لا يستبعد أن يصل هذا التأثير إلى درجة ضبط إيقاع النزاعات المسلحة في المنطقة العربية على إيقاعه وتطوراته.
ولم تصدر مواقف رسمية من الدول العربية حتى الآن من الحرب الروسية الأوكرانية، عدا لبنان الذي أدان الاجتياح الروسي للبلد الحليف للمعسكر الغربي.