تعوّد الإنسان هنا وفي العالم العربي على الكذب، الحاكم يكذب، الإعلام يكذب، الناس بالتالي على دين ملوكهم؛ يكذبون على بعضهم، ولذلك عبّر عبدالكافي عن الأمر تعبيرًا عميقًا، كان ذلك في تعز أيام ما كانت طريق الحوبان مفتوحة، فقد ذهبتُ إليه إلى البيت بعد العصر، دخلت ديوانه، كان وحيدًا، سلمت، جلست، لاحظت أن صوت التلفزيون مرتفع، لكن الشاشة كانت على الجدار! قلت: يا عم عبدالكافي، لماذا؟ أجاب مبتسمًا وبوجه المنتصر: "أعاقبه مثلما كان يعاقبني كل يوم من لما يفتح إلى أن يغلق -أيامها كان التلفزيون اليمني يغلق عند الثانية عشرة- كذب، دعه يكلّم الجدار، عقابًا له!".
في البيت ما إن تسمع جرس التليفون حتى تقول لمن هو بجانبك: "قل إنني غير موجود". كلنا نكذب، ولذلك أدمنّا الكذب، حتى إننا نرتاح لمن يكذب علينا!
قلت لقريبي الشاب: لماذا تكذب على صاحبك؟ قال: "لو قلت له الصدق، يزعل!".
الآن عندما تقول لأي واحد: لست متفائلًا بأننا نسير على طريق الحل، تراه يصرخ في وجهك: "يا رجل، لا تكن متشائمًا"، تقول له: كل المؤشرات تقول إن الطريق طويل، وإن أي أحد لم يبدأ بعد.
الواقع الآن أنّ الهدنة الثانية، والتي ستنتهي في 2 أغسطس، ستلحق -على ما يبدو- سابقتها، وانظر كنت تفاءلت بفتح طريق الخمسين-الستين، تبين أنّ الأمور ظلت كما هي.
يروّج الآن لهدنة لمدة 6 أشهر قادمة، أشك أنها ستتم، وحتى لو تمت لمدة أقصر فلن يكون الأمر مدعاة للأمل بأن السير في طريق السلام قد حان
ما هو حاصل في المنطقة يعكس نفسه حتى على الطريق التي يمكن أن تخفف عن الناس جزئيًّا، وانظر:
قمة جدة قالت بمباركة الهدنة، وتعمل أمريكا على استمرارها، والعليمي قابل بلينكن من أجل الاستمرار. هنا في صنعاء، قال محمد علي الحوثي: "دعهم يقررون ما يريدون، ونحن قرارنا بأيدينا"، محمد بن سلمان قال بحل عبر حوار يمني يمني، وهذا ما لا يريده "أنصار الله"، هم يريدون التفاوض مباشرة مع التحالف، والتحالف لا يريد أن يلتزم بشيء لما بعد الحرب.
محمد البخيتي ظهر كما لو أنه يمثل الصقور، فقد قال: لن نقبل حالة اللا سلم واللا حرب، بالمقابل: الشرعية تبدو حبيسة المعاشيق ولا تستطيع الخروج، فقد قالها الزبيدي عضو مجلس القيادة: "أهلا بكم ضيوفًا لدينا حتى تحرروا بلادكم!".
اتفاق الرياض لم ينفّذ كاملًا إلى الآن ولن ينفذ، التحالف يريد أن تظل كل الأمور معلقة، ويظل البلد متشظيًا هكذا، وإن أردتم فارجعوا إلى الجزء الثالث من مذكرات القاضي الإرياني ستقرؤون كيف عملت السعودية على شراء الذمم للأسف من الصف الجمهوري لمحاربة الجنوب، وظلت تشتري ولاء المشائخ والقبيلة حتى أضرمت حرب 72 التي حذر منها القاضي، وظل حسب "مذكراته" يعمل بكل قوة لإقناع من حوله بأن "لا نحارب الجنوب، فالسعودية تريد أن تظل القلاقل وعدم الاستقرار"، هكذا هي سياستها من أيام الملك فيصل.
بالطبع اكتشف القاضي أنّ "معظم من حوله استلم ويستلم"، وهي المصيبة القائمة حتى اليوم.
الملف اليمني، قلناها مرارًا لم يعد بيد الأطراف وكلاء الصراع، بل أصبح جزءًا من ملفات المنطقة، تتأثر الحالة هنا بما يجري، فإذا لم يتفق الأمريكان والإيرانيون على العودة إلى اتفاق 2015، فمعنى ذلك أن التصعيد سيعود هنا بأقوى مما كان! والتبعات كثيرة، احتمال أن تنشب حرب في جنوب لبنان مع ما يتبعها من تصعيد في المنطقة، ما سيؤدي إلى إغلاق مطار صنعاء الذي فُتح جزئيًّا، وستعود طوابير البترول إلى الشوارع.
العملية الروسية في أوكرانيا قسمت العالم، وأمريكا تحاول أن تعود وهيمنتها على المنطقة. لن تستطيع، لأن الأولاد كبروا، ورعى الله أيام زمان الانقلابات التي تدبرها الـCIA، تغير العالم واقترب من تعدد الأقطاب مرة أخرى، والزمن الغربي بدأ يأفل حسب "توني بلير" رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، الذي قال إن التغيير الجيوسياسي سيأتي من الصين.
يروج الآن لهدنة لمدة 6 أشهر قادمة، أشك أنها ستتم، وحتى لو تمت لمدة أقصر، فلن يكون الأمر مدعاة للأمل بأن السير في طريق السلام قد حان.
الظروف لم تنضج بعض، ولا يزال العالم والمنطقة جزءٌ منه يبحث عن طرق للوصول إلى ما يبتغيه في الخارطة الجديدة.
"يا قافلة عاد المراحل طوال، وعاد وجه الليل".