يبدو أنه من المفيد، قبل تناول موضوع العنوان، التطرق بلمحة خاطفة للمعالم العامة للقبيلة في المنطقة الجنوبية والشرقية، التي كانت منضوية في "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية".
بناءً على المتوفر من المعلومات بشأن القبيلة في هذه المناطق، لا نقف على دراسات تتطرق للعلاقات القبلية، باستثناء حضرموت ويافع اللتين كُتب عنهما قدر لا بأس به، ثم العوالق. وجل ما نعثر عليه هو أن القبيلة الفلانية تنقسم إلى أقسام، دون الكشف عن مستويات تلك الأقسام ولا مهامها. كما أن كل الأقسام تبدأ بـ"آل" أو بـ"أل" التعريف أو بـ"أهل"، في الغالب الأعم، أو أحيانًا بـ"بيت" أو بـ"فخذ" أو "فخيذة" أو "بطن"، دون تحديد واضح للمكانة القبلية لكل من هذه الاصطلاحات. يظهر ذلك بوضوح عند حمزة لقمان في "تاريخ القبائل اليمنية– قبائل جنوب اليمن وحضرموت"، وكذا عند الشاطري في "أدوار التاريخ الحضرمي" وغيرهما.
بشأن تعريف القبيلة في عموم مناطق "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، يذهب لقمان إلى أن المجتمع القبائلي يتكون من مجتمعات صغيرة، ترتبط بعلاقات القرابة والمصاهرة، ومن هذه المجموعات تتكون القبيلة التي تحدد علاقاتها بالمجموعات الأخرى، طبقًا لظروف المعيشة والحياة الاقتصادية، والعواطف هي التي تحكم أفراد القبيلة؛ فشعور الولاء الذي يحس به الفرد نحو مجموعته ناتج عن الشعور بالأمن داخل المجموعة، وهذا الشعور هو الذي ينمّي فيه روح العداء نحو المجموعات الأخرى التي ينظر إليها بحذر دائم، وهذه الروح هي التي تنشر السلام داخل مجموعته. [لقمان: 9].
يفهم من لقمان أن المنطقة القبلية هذه تخلو من أية بنية قبلية لها مستويات وجماعات ذات مهام متعارف عليها؛ فالقبيلة عنده جماعات قرابية صغيرة تكوّن القبيلة المعنية. والحقيقة أنه من حيث الاحتمال التجريدي الصرف، لا يمنع من أن تتحول القبيلة إلى الحالة التي يذكرها لقمان؛ أما المشكلة فهي هذا التعميم الجارف لهذه الحالة الني يسحبها على كل هذه المنطقة. ومرة أخرى، لا شيء يمنع من مثل هذا التعميم الجارف لولا أن بعض المؤلفات تقول أمرًا آخر، سواء في حضرموت أو في يافع أو في ردفان وفي غير هذه المناطق.
بشأن التضامن القبلي، يذكر روديونوف –وعلى الرغم من أن الحديث هنا يدور حول القبيلة في حضرموت، فإنه عمومًا، يسري على مختلف الجماعات القبلية– أنه على مستوى القبيلة تقام الحدود العليا للتضامن القبلي، وفي الغالب يتم الإخلال بها؛ لأن النزاع هو أحد المبادئ الرئيسية للانفصال إلى فروع. وإذا بدأت أعداد الفرع القبلي تتضاعف بدرجة قصوى، فإن الإخلال بالمساواة الاقتصادية كافٍ إلى درجة ما لأي عذر شكلي للانقسام. وفي النتيجة، فإن الأقلية من الائتلاف تُطرد، عادة، خارج الحدود السابقة. مثل هذا الصدام يمكن أن يحدث في إطار الأسرة الواحدة (الآل)(1).
ويشير رديونوف إلى أنه في ثلاثينيات القرن العشرين، كان يوجد في حضرموت الداخل أكثر من ألف فرع من القبائل المستقلة، أبرزها: المناهيل: وتمتد أرضها الواسعة من ثمود في الشمال وحتى الساحل في الشرق؛ والحموم: من وادي المسيلة وحتى مدينة الشحر، سيبان: من الساحل عند مدينة المكلا وحتى وادي دوعن؛ والصيعر: في المناطق الصحراوية إلى الغرب وإلى الشرق من الوادي الرئيسي؛ ونهد: غالبًا في وادي الكسر وفي مجرى أسفل وادي عمد؛ وتحالف قبائل الشنافر: وهم الكثيري والعوامر؛ والجابري: تقع أراضيهم بين مدينتي شبام وتريم؛ والدَّيْن: إلى الشمال من الهضبة بين وادي عمد ووادي دوعن. (روديونوف: 54-55).
قبل أن تطأ أقدام جيش الاحتلال البريطاني تربة عدن، كانت العلاقة على وجه العموم، بين القبيلة والكيانات القبلية السياسية متوترة على الدوام، فما أن تهدأ برهة من الزمن حتى تمد أعناقها لأكثر من سبب
القبيلة والكيانات السياسية
إن من أهم، إن لم يكن الأهم على الإطلاق، ما يميز المناطق التي غابت عنها "الإمامة"، نشأة الأطر أو الكيانات السياسية القبلية، على هيئة "إمارة" أو "مشيخة" أو "سلطنة"، حيث لم يكن يدّعي زعماؤها تمثيلهم للسلطة الدينية. وعوضًا عن ذلك، كان لأغلب، إن لم يكن لكل إطار سياسي قبلي، رجال دين يمثلون السلطة الدينية، يطلق عليهم "المناصب"، وكان حكام تلك الكيانات يستندون إلى هؤلاء "المناصب" في تسيير أمورهم الدينية وغير الدينية. أما الصراعات أو النزاعات القبلية، فكانت تجري تحت رايات تلك الأطر السياسية، وكانت تتخذ شكلًا قبليًّا واضحًا من وجهة نظر الأطماع القبلية، أو بالأصح، من وجهة نظر أطماع زعامات تلك الأطر التي تتوسع حدودها حينًا وتنقبض حينًا آخر. والوجه الآخر لهذا الصراع القبلي، هو انقسام الكيان الواحد للتحالف القبلي الواحد، مثل تحالف قبائل العوالق، إلى ثلاثة كيانات سياسية قبلية. كما نجد قبائل بعض المناطق مبعثرة ومنفصلة عن بعضها، تحارب بعضها بعضًا حينًا، وتقاتل عن استقلالها ضد أطماع الكيانات السياسية القبلية المحيطة بها حينًا آخر. كما أن حالة "التناتش السياسي" بين تلك الكيانات السياسية البدائية وصلت إلى حد اقتسام البلدة الواحدة بين عدة أطراف، كما حصل في بعض مدن حضرموت.
إذن، قبل أن تطأ أقدام جيش الاحتلال البريطاني تربة عدن، كانت العلاقة على وجه العموم، بين القبيلة والكيانات القبلية السياسية متوترة على الدوام، فما أن تهدأ برهة من الزمن حتى تمد أعناقها لأكثر من سبب وسبب، وأرجو من القارئ الكريم أن يحتفظ بهذه الإشارة لأهميتها البالغة.
ظل الوضع المضطرب كما هو، حتى وصل الأمر ببعض القادة الاجتماعيين والسياسيين في حضرموت إلى الانتهاء إلى خلاصة مفادها أن إمكانية إخماد التمردات القبلية لن تتحقق كما ينبغي إلا بالتدخل الخارجي المتمثل آنذاك بسلطة الحماية البريطانية. بهذا الصدد يقول القعيطي إن السيد أبوبكر بن شيخ الكاف، كان من رواد التحديث، وكان يرى أنه بدون قوة خارجية فعالة، فإن الحروب القبلية لن تنتهي، وستتعرض البلاد إلى المزيد من التدهور. وأعلن عدد من قيادات المجتمع الحضرمي عن رغبتهم في تدخل البريطانيين. وقد أبدى علي بن صلاح الرغبة في التعاون مع السيد الكاف، وكتب له في هذا الصدد. وعندما تولى علي بن صلاح السلطة في منطقة شبام، كانت المشكلة الأولى الملحة، هي مشكلة الصراع القبلي، الذي يحد من طاقات الأمة. ولعل علي بن صلاح كان أكثر الحكام تأهيلًا للتصدي لها، لمعايشته لقضايا المنطقة ولمعرفته الوثيقة بالقبائل، وللثقة التي يحظى بها بينهم، فلا غرو إذا استعان به السلطان والإنجليز. وقد عبّر علي بن صلاح عن تمكنه من فهم مشاكل القبائل في لقائه مع إنجرامس، إذ قال له: "سوف نستميل رؤساء القبائل بطريقتنا العربية الخاصة من حسن استقبال وإعطاء الاعتبار وتوزيع السلاح وتجديد الأحلاف والاتفاقات القديمة، ونربط من لم يرتبط بعد ونكون على اتصال واحتكاك بهم وبالأرض وتعزيز ذلك بفتح المطارات، وهكذا عقد ما أطلق عليه "صلح إنجرامز"، الذي جرى تطبيقه في أكثر من حالة". [القدال: 57-62].
وإذا كان هذا الأسلوب العنيف قد جرى تطبيقه فيما كان يسمى بـ"المحميات الشرقية"|(2)، فإنه كان يجري في "المحميات الغربية"(3)، بدون هذا الصلح أو ما يشابهه.
بيد أن الأمانة العلمية تقتضي عرض وجهة نظر أخرى تتناول "صلح إنجرامز"، وهي التي تذهب إلى أن غاية البريطانيين من عقد هذه الهدنة، كانت توطيد الأمن في المنطقة خدمة لأهدافهم البعيدة، وليس لكي ينعم الأهالي بالأمن والاستقرار. كان الأمن البريطاني أمنًا تتعلق به عدة خيوط، كان أمنًا يعالج الأعراض ولا يعالج المرض. [بامطرف: 46].
مهما كان الأمر بصدد هذا "الصلح"، فإن الحقيقة تطل برأسها بكل مكابرة وعناد لتفصح –هذا على الأقل ما فهمته مما أوردته أعلاه، سواء أكان فهمًا سليمًا أم مغلوطًا– عن التقاء مصالح الاحتلال البريطانية مع المصالح الموضوعية للجمهور الحضرمي، الذي ينشد الاستقرار والأمن للمنطقة، والتي عبر عنها بعض الزعامات الحضرمية. هذا، إلا إذا ذهبنا مذهبًا جبانًا هاربًا من مواجهة الحقيقة كما هي، فنصم تلك الزعامات بالعمالة والخيانة... وهلم جرًّا، ولربما قال أحدنا: "هي عميلة دون أن تدري!"؛ هذه هي الدائرة المربعة!
تلكم هي أسطر عابرة خاطفة، والآن لنقم بمقاربة أيضًا سريعة عجلى –لأن المقام لا يسمح إلا بالعجلة!– لعلاقة سلطة الاحتلال البريطاني وأعوانهم من الحكام، بالقبيلة في المنطقة.
دعمت بريطانيا تكوين قوات محلية لحماية الحكام الموالين لها في "المحميات" وضرب الجماعات القبلية المناوئة، وسميت تلك القوات بـ: جيش محمية عدن (الليوي)، الحرس الحكومي، الحرس القبلي، جيش البادية الحضرمي، الجيش اللحجي، جيش المكلا النظامي، الجندرمة القعيطية، والجندرمة الكثيرية.
سياسة الاحتلال والقبيلة
منذ أن وطأت أقدام الاحتلال البريطاني شواطئ عدن حتى انتزاع الاستقلال الوطني الكامل، جرى تعامل سلطة الاحتلال البريطانية مع المستعمرة عدن ومحيطها القبلي، عبر ثلاث سياسات عامة، هي:
- سياسة "عدم التدخل"، وقد قابلها على الصعيد القانوني توقيع "اتفاقيات الولاء" أو "معاهدات الصداقة".
- سياسة التدخل، وقد قابلها توقيع "معاهدات الحماية". وبشأن اصطلاح "محمية" فيذكر جافين أن "المحمية أو (الحماية) مصطلح ملتبس، وينتمي بصورة أساسية إلى اللغة الدبلوماسية الدولية، ويعرف المنطقة التي تخضع علاقاتها الخارجية حصريًّا للسلطة الحامية وفي الممارسة العملية مع ذلك. وفي لغة التعبير العامة بحلول أوائل القرن العشرين، كانت الكلمة قد استخدمت كتعبير ملطّف للمستعمرة، وتشير إلى السيطرة الكاملة على الشؤون الداخلية، مثلها مثل الخارجية في المنطقة المحمية". [جافين: 329].
- سياسة "التقدم إلى الأمام"، وقابلها توقيع "معاهدات الاستشارة". وهي المعاهدات التي عقدتها سلطة الاحتلال مع الكيانات السياسية القبلية بعد أن أصبحت عدن تابعة لوزارة المستعمرات البريطانية منذ العام 1937.
هذا على الصعيد الشكلي التخطيطي، أما في الحقيقة، فقد كانت سلطة الاحتلال تتدخل في شؤون الكيانات السياسية القبلية كلما رأت مصالحها ذلك، بصرف النظر عن تلك "المعاهدات" أو "الاتفاقيات" التي لا يعتد بها على الصعيد القانوني. ويصرح يعقوب عن رأيه بهذا الشأن فيقول: "أما من حيث إلغاء المعاهدات، فالسبب في ذلك يكون عائدًا للمغزى والمضمون، فقد لا تعد أكثر من مجرد خطاب مكتوب" [يعقوب:45](4). وفعلًا هي كذلك من وجهة نظر القانون الدولي الذي يشترط لصحة المعاهدات القانونية شروطًا لا بد من توافرها فيها، أهمها أنها اتفاق بين دول؛ فالاتفاقية هي "اتفاق بين دولتين أو عدد من الدول في شأن من الشؤون تترتب عليه نتائج قانونية. [الكيالي: مادة "اتفاقية"].
لقد كانت كل سياسات سلطة الاحتلال البريطانية قائمة على أمن وسلامة عدن في المقام الأول. وقد عبر عن ذلك جافين في قوله: "إن أمن عدن كان مرتبطًا بصورة لا فكاك منها، بحالة علاقات بريطانيا مع قبائل المحميات، ومع الإمام في اليمن، وأولًا وأخيرًا مع كل حكام الجزيرة العربية. وكل تأرجح في مكانة بريطانيا، وكل تغيّر في المشهد السياسي في تلك المناطق، كان يؤثر على تقدير قوة الحامية العسكرية المطلوبة لعدن. [جافين: 301].
هذه، إذن، هي الأركان التي رست عليها السياسة البريطانية في عدن: القبيلة، حكم "الإمامة"، ثم الحكم السعودي. وما يهمنا هنا هو علاقة بريطانيا بالقبيلة من جهة، وبـ"الإمامة" من حيث علاقتها بالتمردات القبلية في "المحميات" من جهة أخرى.
سلطة الاحتلال والتمرد المسلح للقبيلة
على الرغم من أنه يكاد يستحيل على الباحث تسجيل أول تمرد قبلي مسلح ضد الاحتلال البريطاني في المنطقة أو ضد الحكام المتعاونين معه، فإن المكتوب في هذا الصدد –وبالذات في كتاب "التاريخ العسكري لليمن" للباحث القدير سلطان ناجي (رحمه الله)– يشير إلى أنه "بعد إبرام اتفاقية صنعاء عام 1934، عمل الإنجليز بهمة على الإخضاع النهائي للمحميات، وذلك بدعم سلطة السلاطين وضرب القبائل المناوئة لهم، أو التي تفرض إتاوات على القوافل المارة بمناطقها أو تعترض حركة حرية التجارة. وقد استخدموا الطائرات لهذا الغرض". [ناجي: 92].
ولعل أهم هذه التمردات التي جرت في عقد الثلاثينات من القرن العشرين، هي:
- قبائل القطيبي، التي ضُربت بالطيران طيلة (67) يومًا، ولم يتوقف ضربها إلا بعد أن أرغمت على تقديم الرهائن ضمانًا لسلامة الطرق في مناطقها.
- قبائل الصبيحة، وقد عوملوا بمثل قبائل القطيبي ولنفس السبب: أمان وسلامة الطريق التي تمر عبر أراضيهم.
- قبائل المراقشة وأهل حيدرة منصور، حتى أخضعوها لسلطة السلطان الفضلي؛ لأنها لم تكن تعترف بالسلطان الفضلي.
- قبائل دثينة، بسبب معارضتها للسلطان الفضلي، لنفس السبب أعلاه.
- آل رشيد وآل العظم: قام كل من هاتين القبيلتين الواقعتين في سلطنة الواحدي بتمردها أو بانتفاضتها في أواخر العام 1937. وكان أحد الأسباب الرئيسية التي قادت إلى ذلك التمرد هو ذلك الصراع الطويل بين كل من القبيلتين من جهة، وآل أحمد بن هادي الواحدي حاكم سلطنة الواحدي، حيث لم تعترف القبيلتان بسيادة الواحدي عليهما. ثم يأتي رفض القبيلتين لـ"صلح إنجرامز"، القاضي "بتجريد القبائل من السلاح". وقد ضُربت هاتان القبيلتان بالطائرات البريطانية، والذي على إثره جرى الاتفاق بفرض شروط قاسية على كل من القبيلتين. [بن رشيد: 37-38، 41، 42].
جدير بالذكر أنه قد رافق صياغة هذه السياسة الجديدة ("التقدم إلى الأمام") تكوين قوات محلية، هدفها الرئيسي هو حماية الحكام الموالين لهم في "المحميات"، مع ضرب الجماعات القبلية المناوئة لهم. وهذه القوات هي: جيش محمية عدن (الليوي)(4)، الحرس الحكومي، الحرس القبلي، جيش البادية الحضرمي، الجيش اللحجي، جيش المكلا النظامي، الجندرمة القعيطية، والجندرمة الكثيرية.
باندلاع الحرب العالمية الثانية، خفف البريطانيون من سياسة "التقدم إلى الأمام"، والجدير بالذكر أن الجنود في هذه الجيوش كانوا يُختارون من الأقارب أو الموالين، وذلك حتى يكونوا وسائل قمع بأيدي الحكام، وبأيدي الإنجليز في المقام الأول [ناجي: 141، 151]، والذين كانوا يستخدمون تلك القوات ليس لضرب الجماعات القبلية المناهضة للزعامات الموالية لهم فقط، وإنما أيضًا لفرض الحاكم الذي يرون أنه أكثر ملائمة لهم عن طريق تقديم المستشار "النصح" للحاكم السابق بالتنحي عن كرسي الحكم. فبعد عام 1946، نجدهم مثلًا يقومون بتنحية عدد من الأمراء والسلاطين الذين لمسوا فيهم عدم رضا أو قابلية أو تلكؤ في تنفيذ سياستهم الجديدة. ولو أن الأحداث قد أثبتت فيما بعد أنهم كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لبعضهم، للالتحاق بجانب الثورة (يقصد: التمردات القبلية) من أجل التجسس أو الاحتياطي.
ازدادت حوادث التمردات ضد الإنجليز خلال عام 1954، وبدأ المعتمد البريطاني يستلم التقارير بأن أعدادًا كبيرة من رجال القبائل في العوالق السفلى يذهبون إلى البيضاء، للحصول على الأسلحة من أجل مقاومة المشاريع البريطانية
ويمكن الإشارة هنا إلى بعض الأمراء والسلاطين الذي جرى تنحيتهم:
- في الضالع "نُصح" الأمير نصر بأن يتنحى عن الإمارة، وينفى إلى اليمن المتوكلية، وعيّن بدلًا عنه ابنه الأمير حيدرة. وفيما بعد قام الابن بالتمرد ضد تدخلات الإنجليز المباشرة وتبع أبيه.
- تنحية شيخ الشعيب بعد أن أجبرته القوات المحلية البريطانية المكونة من ست مئة جندي على اللجوء إلى تعز.
- في يافع السفلى "نُصح" أيضًا (حاكمها) بأن يتنحى و"ينفي" نفسه إلى الخارج.
- في سلطنة الفضلى المجاورة، عزل السلطان الأول، ثم "نُصح" خلَفه بأن يسلّم سلطاته إلى بديل معيّن من قبل الإنجليز.
وفي أواخر الأربعينيات، كان هدف "الإمام" أحمد إثارة القلاقل ضد الإنجليز، فقام بتقديم العون لعدد من القبائل، لعل أهمها ما جرى في:
- بيحان: وذلك بسبب تدعيم سلطة شريف بيحان، الذي كان حتى ذلك الوقت لا يملك ناقة ولا جملًا في الأمر. وقد عارضت حكمه قبائل مصعبين، وكذا قبيلة بلحارث التي اعترفت بنفوذ الشريف الديني فقط، ثم عادت ونقضت ادعاءاته. وعندما ثار الجميع ضد شريف بيحان، قام الإنجليز بضرب تلك القبائل بالقنابل حتى أخضعوها لحكمه. وهاجرت قبائل مصعبين إلى ما وراء الحدود المصطنعة، إلى أراضي المملكة المتوكلية.
- الصبّيحة: ساعد الإمام أحمد بالمال والسلاح تمردًا قبليًّا في الصبّيحة ضد سلطان لحج الجديد.
- العوالق: مد الشامي، الحاكم في البيضاء، يد العون لقبيلة الربيزي الثائرة في مشيخة العوالق العليا التي لم تقبل أن تدمج في المشيخة التي فرض عليها الإنجليز الدخول تحت نظام "الاستشارة" في عام 1952/ 1953.
- في تلك الفترة، كانت علاقة سلطان نُصاب العولقي مع الإنجليز متوترة، وذلك لاعتقاد السلطان العولقي بأن الإنجليز كانوا هم السبب في إخراج قبائل دثينة من تحت سلطته، وتشجيعهم إياها بأن تكوّن لنفسها دولة مستقلة عن العوالق. ولما لم يرضخ سلطان نُصاب لطلبات الإنجليز المتكررة لمد نفوذهم المباشر إلى سلطنته، قاموا في 1952، بإرسال قوة إلى سلطنة العوالق العليا (سلطنة نُصاب العولقية)، وأقاموا لحرسهم الحكومي مراكز لهم في نُصاب ذاتها. ولكنهم لم يستطيعوا إخضاع قبيلة الربيزي في القرب من وادي حطيب. وفي نوفمبر 1953، قاموا بغزو شامل من أجل إخضاع هذه القبيلة الشجاعة.
- تمرد دثينة: في حين كان الإنجليز يعتقدون أنهم قد سيطروا سيطرة تامة على دثينة بعد أن فصلت عن العوالق، تفجر الموقف في دثينة بقيادة شيخ قبيلة الحَسَنَة الشيخ امْجِعْلي، الذي ذهب إلى البيضاء. وفي لقائه مع المعتمد البريطاني، قال له إنه مستعد أن يعقد سلامًا مع بريطانيا العظمى شريطة أن تعترف به كحاكم مستقل ذي سيادة وعضو في الجامعة العربية. [ناجي: 191].
- ازدادت حوادث التمردات ضد الإنجليز خلال عام 1954، وبدأ المعتمد البريطاني يستلم التقارير بأن أعدادًا كبيرة من رجال القبائل في العوالق السفلى يذهبون إلى البيضاء، للحصول على الأسلحة من أجل مقاومة المشاريع البريطانية.
- كثيرٌ من زعماء القبائل عارضوا تدخلات الإنجليز في سلطنة العوالق في نُصاب. ففي أغسطس/ آب 1954، ذهب أهل بوبكر من العوالق إلى البيضاء، وعادوا في أكتوبر/ تشرين الأول، وأقاموا لهم "قيادة" في جبال الكور خلف الصعيد، وبدؤوا يصدرون من هناك النشرات التي تدين الاستعمار البريطاني. ثم كأي جماعة قبلية أخرى متمردة، بدؤوا يقومون بالغزو وإطلاق النار وإقامة الكمائن.
- تمرد بن عبدات: لعله من المهم هنا أن أفرد مساحة لهذا التمرد الشهير، بغية تسليط ضوء عليه لما له من أهمية حيال معرفة بعض الحقائق التي تكتنف بعض تلك التمردات. بهذا الصدد يرى المؤرخ سلطان ناجي أن "هذا التمرد جدير بأن يلقى الضوء عليه، لا سيما وأن كثيرين قد اعتبروا بن عبدات مناضلًا، وأن حركته كانت موجهة ضد الاستعمار وركائزه. إلا أنه بعد تتبع حوادث بن عبدات، يظهر لي أن الصورة تختلف عما قيل، وأن ضرب الإنجليز له بالقنابل وبجيش نظام حيدر أباد، صديق القعيطي، وبجيش الليوي، كان متوافقًا وسياسة الإنجليز آنذاك والقاضية بدعم السلطانين القعيطي والكثيري بدون ثالث لهما. في حين كان بن عبدات يطمح في أن يجعل من نفسه سلطانًا في حضرموت بجانب الكثيري والقعيطي"، (وللعلم فقد كان بن عبدات يمتلك أكبر فندق في سنغافورة، وكان يعتبر من "الراجات"، أي من الأمراء المستقلين، وكان شخصية غريبة الأطوار، لا يفارق مسدسه يده ألبتّة). [ناجي: 145-146]. ويذهب ناجي إلى أنه "يجب أن ندرج معارضة ابن عبدات، ضمن إطار الصراع التقليدي بين "العلويين" و"الإرشاديين"". [السابق].
من المهم الإشارة إلى أن القوات التي شكلتها سلطة الاحتلال البريطانية، التي يُفترض فيها الولاء لها وللحكام المحليين التابعين لهم، لم تكن تمنح ذلك الولاء المفترض. وإذا كان يصعب الحديث بعامة عن ولاء كل تلك القوات، فإنه من المؤكد أن يصدق ذلك على "جيش الليوي" الذي تأكد للإنجليز أن ميول جنوده كانت مع إخوانهم الثوار (القبائل). وكان ترافيسكس (المندوب السامي البريطاني) هو الذي لمس ذلك شخصيًّا، فيقول: "من يشاهدهم وهم في زيهم يؤدون التحية العسكرية، ويضربون الأرض بأقدامهم عند إطاعتهم الأوامر، يسهل عليه جدًّا أن ينسى أن الجنود لا يمكن أن يسيروا أوتوماتيكيًّا، فعندما كنت في رحلة إلى (بلدة) المحفد مع مجموعة من جنود جيش الليوي، تبين لي أنهم تحت ملابسهم لم يكونوا سوى رجال قبائل بأفكارهم القبلية" [ناجي: 192].
إن هذه الجردة العامة اليابسة –إن صح القول– للاحتجاجات القبلية المتعددة الأهداف، كما رأينا، لا يمكن للقارئ استيعابها أو محاولة تمثلها بالحيوية التي ينبغي استحضارها، إلا إذا أضاف مستدركًا في عقله وقلبه تلك الدماء الزكية الطاهرة التي قدمها أولئك الشهداء المنسيون، وتضحيات أهل تلك المناطق المتمثلة في تدمير مساكنهم وإبادة مواشيهم وترهيب النساء والأطفال. هذا، بصرف النظر عما يمكن أن يقال –بحق أو بغير حق– عن مختلف أبعاد تلك الاحتجاجات (تمردات، انتفاضات، ثورات).
ليس بالضرورة أن تنشأ الحركة الاحتجاجية، أية حركة معارضة احتجاجية بالمطلق، مشتملة على الغايات الوطنية والقومية منذ بداية ولادتها، حتى يحق لها أن تتسم بالبعد الوطني والقومي
كانت تلك جردة عامة للاحتجاجات القبلية المسلحة حتى اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963. وبإمعان النظر فيها، يمكن للمرء الانتهاء إلى جملة من الاستخلاصات الموضوعية، لعل أهمها:
- دون أدنى شك: إن مجرد ظهور الأجنبي في أرض القبيلة يعد من أهم مسببات الاستفزاز للكرامة العامة، إن جاز لي القول، ناهيك عن الكرامة القبلية على وجه التحديد.
- تعدد أسباب اندلاع الاحتجاجات القبلية، أهمها:
بالطبع لا يمكن لأحد توزيع اللوم هنا وهناك، لا إزاء انعزال وتبعثر الاحتجاجات القبلية وغياب توحيد أهدافها، ولا لغياب مساندة تلك الاحتجاجات من قبل المدينة اليمنية. تلك كانت حالة الواقع الموضوعية، وقد سجلها تاريخ اليمن المعاصر، وليس بحاجة إلى مزيد من البراهين والإثباتات.
وإذن، كانت حركة الاحتجاجات القبلية ذات سمة محلية واضحة، تفتقد إلى البعد الوطني العام. غير أنه لا بد من التنويه إلى حقيقة أنه ليس بالضرورة أن تنشأ الحركة الاحتجاجية، أية حركة معارضة احتجاجية بالمطلق، مشتملة على الغايات الوطنية والقومية منذ بداية ولادتها، حتى يحق لها أن تتسم بالبعد الوطني والقومي، فيطلق عليها "حركة احتجاجية وطنية" أو "تمرد وطني". ذلك أن البُعد السياسي(6)، أو البعد الوطني أو البُعد الاجتماعي أو أي بُعد آخر قد يتخلق، يتولد من تفاعل مجمل العوامل والشروط الكائنة.
إن الحقيقة البالغة الوضوح تقول لنا إن السمة السياسية الوطنية، البعد السياسي الوطني، ليس من صميم الحركة الاحتجاجية القبلية، مع العلم أن هذه الحركة، تمردًا كانت أم انتفاضة أم هبّة أم غيرها من الأوصاف والتسميات، بإمكانها أن تكون احتجاجًا سياسيًّا، كما مر معنا، ولكنها تظل في حدودها القبلية المحلية الضيقة، ولا تقوى بإمكاناتها وطاقاتها، وأكاد أقول: لا تقوى بحكم مورِّثاتها التي تختزنها في ذاتها، أن ترقى إلى الصعيد الوطني العام.
إن الحركة الاحتجاجية القبلية، بصفتها كذلك، ليست حركة سياسية وطنية، وهذا لا يعيبها أو يطعن في وطنية القبيلي الفرد أو وطنية مجمل أعضاء القبيلة، ولكنها (الحركة الاحتجاجية) يمكن أن تكتسب السمة الوطنية، البعد الوطني، من خارج صميم اهتمامات القبيلة، يمكن وبمقدورها أن تتطور إلى حركة احتجاجية وطنية. ذلك أن السمة الوطنية تأتي من خارج اهتمامات القبيلة ووعيها الموضوعي.
الهوامش
(1) إن الفرضية –إن صحت الترجمة– التي يرجحها الباحث روديونوف بين "الانقسام إلى فروع" قبلية من جهة، و"الثنائية في التنظيم الاجتماعي" من جهة أخرى، بحاجة إلى تعزيز بأسانيد وازنة، سعة وعمقًا، عوضًا عن الاقتصار على ما أورده الباحث، الذي لا يقول شيئًا، قياسًا إلى حجم الفرضية. ولا يمكن للقارئ أن يفوته هذا الصدى الذي يتردد لفرضية "التقابل" بالمعنى العدائي التي يتبناها بعض الباحثين، كما أسلفت في السابق عند الحديث عن تعريف القبيلة العربية.
(2) تتألف "المحميات الشرقية" من السلطنات التالية: القعيطي، الكثيري، الواحدي وسلطنة قشن في المهرة وسقطرة.
(3) تتألف "المحميات الغربية" من سلطنات: العبدلي، الفضلي، العوالق العليا والسفلى، الحوشبي، ويافع العليا والسفلى. كما تضم هذه المحميات مشيخات: العوالق العليا، المفلحي، العقارب، إضافة إلى إمارتي بيحان والضالع.
(4) من الأسباب التي تجعل من المعاهدات قيد الدراسة غير شرعية لمخالفتها العرف والتقاليد الدولية المقبولة، أنها معقودة بين طرفين غير متكافئين، وكانت تبرم تحت الضغط البريطاني على الأطراف اليمنية، ناهيك عن أن تلك الزعامات لم تكن على رأس كيانات سياسية لها سلطتها الكاملة عليها. انظر مثلًا: أباظة، مرجع سابق، ص425.
(5) "الليوي"، لفظة محرفة هنديًّا للكلمة الإنجليزية "ليفيز"، والتي تعني "القوات المجندة".
(6) على سبيل التذكير فقط، ليس كل احتجاج أو اعتراض أو تمرد لمجموعة من الناس، بصرف النظر عن عددهم، يعدُّ احتجاجًا سياسيًّا. فالمطالب النقابية من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل، أو الضمان الصحي وغيرها الكثير من المطالب، لا تعد ضمن المطالب السياسية. فكما هو معروف، يستهدف الاحتجاج السياسي الحكم، السلطة السياسية، سواء من حيث إصلاحه وتطويره أو اجتثاثه وتغييره برمته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يدخل عامل عدد المنخرطين في الحركة ضمن تقييم هذه الحركة أو تلك، إذْ ليس كل جماعة ذات مطالب سياسية يمكن عدها حركة سياسية، بل لا بد وأن تضم عددًا وازنًا من المنخرطين المحتجين في التحرك المعني. فالحركة السياسية أو الاحتجاج السياسي، لا بد أن يضم الألوف، عشرات الألوف، إلى جانب، بالطبع، الأهداف التي تتعاطى مع الدولة: بسلطة من سلطاتها أو بكل سلطاتها؛ بالحكم: بأحد أجهزته أو مؤسساته، أو بمجمل أجهزته ومؤسساته.
المراجع