في الأسبوع قبل الماضي، التقى بعض من مشايخ اليمن، وزعماء عشائر، وقيادات اجتماعية في عمّان برعاية أوروبية، وتنظيم كلٍّ من "مركز صنعاء للدراسات"، و"منظمة مبادرة للأزمات الدولية".
في ختام اللقاء، دعا المجتمعون جميعَ الأطراف في اليمن لوقف شامل وفوري لإطلاق النار، وفتح جميع الطرقات، وحماية الإنسان اليمني، وإطلاق جميع المعتقلين والأسرى، كما دعوا إلى تفعيل القواعد العرفية بصفتها الضامن لعلاقة اليمنيين، فيما بينهم بما في ذلك احترام الأماكن السكنية، ومخيمات النزوح، وعدم استهدافهما.
كما دعوا المبعوث الأممي والوسطاء لتقديم تصوراتهم للحل، وصولًا إلى وقف الحرب، وإلى الشراكة تحت مظلة الجمهورية، والعدالة والمواطنة المتساوية، مؤكدين على السلام المستدام، وتعدد المسارات الشاملة، ومشددين على الانطلاق من المحلية الفاعلة، وصولًا إلى القيادات والمكونات السياسية.
كما دعوا إلى إنهاء الانقسام المالي في مختلف المناطق؛ لرفع المعاناة عن كاهل المواطنين، وتوريد كافة الموارد المالية للبنك المركزي، وصرفها لصالح الخدمات الأساسية لكافة مناطق اليمن، وصرف مرتبات موظفي الدولة، ودعوا الأشقاء والأصدقاء لتعزيز الدعم الاقتصادي، وناشدوا الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، خصوصًا الاتحاد الأوروبي، لتعزيز دور القبيلة وأدواتها في احتواء الصراع وآثاره، وتقديم ضمانات لجهود الوسطاء المحليين، لدعم وتسهيل مؤتمر عام لكل قبائل اليمن في الداخل، وعقد لقاءات على مستوى المحافظات، ودعوة الوجاهات الاجتماعية والقبلية للانضمام لهذه الجهود التأسيسية.
وقد حث المجتمعون الأطرافَ الراعية لاتفاق الرياض وستوكهولم، وجميع الاتفاقيات المحلية على الالتزام بهذه الاتفاقيات وتنفيذها؛ لوقف نزيف الدم بين اليمنيين.
الدعوة للسلام في المحنة الكبرى التي تطحن اليمن مهمة ومرحب بها، كما أن الدعوة لإطلاق سراح المعتقلين، وفك الأسرى، والدعوة لاحترام المساكن، ومخيمات النازحين، وصرف المرتبات، وضبط الموارد وصرفها لصالح الخدمات الأساسية- كلها مهمة ومرحب بها.
غاب عن البيان تشخيص الداء؛ كون المجتمعين واقعين بين مطرقة أنصار الله (الحوثيين)، وسندان التحالف العربي، وهم جزء أساس من محنة اليمن، وجزء من الحل، وأغلب المعارك تدور في مناطقهم، والعدد الأكبر من أبنائهم وأفراد قبائلهم منخرطون في هذه الحرب المركبة والكارثية؛ فالقبيلة وزعاماتها -كبنية وكتركيبة اجتماعية- شكّلت ولا تزال الطرف الأساس في حروب الماضي، وفي التاريخ المعاصر، وتحديدًا منذ 1948، و1955، و1962، و14 أكتوبر 1963، وحروب 72، و79، و94، وحروب صعدة الست.
كان للقبيلة ورموزها الدور الأكبر، ولم يكونوا بعيدين عن مآسي صراعات 13 يناير في الجنوب 1986، وأحداث أغسطس 1968، أما في الثارات والحروب البينية فهم الأساس، كما أن الحرب الحالية التي عمت اليمن شمالًا، وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، تشارك فيها المجتمع الأهلي والمدني، ولم تعد القبيلة وزعاماتها الطرف الوحيد؛ فقد انخرطت الأحزاب السياسية، وتوزعت على الجبهات والميليشيات. إذن لم تكن القبيلة وحدها من تحتكر الكارثة، وبالتالي أيضًا، لا يمكن أن تتفرد بالحل، كما تدعو في البيان.
جوهر الصراع منذ ازدهار الحياة المدنية والسياسية في عدن، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين الماضي، ونشأة الأحزاب والحركة النقابية والمدنية، وحركة 48، والثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر، وقيام الوحدة- يتجلى في مطلب بناء الدولة المدنية، وكان هدف القوى الديمقراطية بناء الدولة المدنية الديمقراطية، ورغم تأكيد برامج الأحزاب السياسية وبياناتها، إلا أن بناء هذه الدولة ظل الغائب الأكبر.
اشتغلت الثورة العربية، واليمنية بخاصة، بالصراع الكالح، والتعويل كثيرًا على القوة، والتجريم والتخوين وشيطنة المختلف، وعجزت عن تجسيد قيم التعايش والتسامح والحداثة.
المهمة الرئيسية -كقضية حياة، وهي القاسم الأعظم والمشترك- هي الدعوة والعمل لوقف الحرب، والدخول في حوار شامل تشترك فيه ألوان الطيف المجتمعي والفكري والسياسي على التشارك في التأسيس لحياة مدنية، وبناء كيانهم المدني الديمقراطي الذي لا يستثني أحدًا، فلم يعد مقبولًا ولا ممكنًا العودة إلى مقولة "أهل الحل والعقد" كما يتوهم الداعون في عمّان، ولا القفز على القبيلة أيضًا.
ما ينبغي التأكيد عليه، استحالة أن ينفرد بالحل، ومن باب أولى حكم اليمن المتنوع والمتعدد، طرفٌ واحد. وخطيئة المجتمعين دعوة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى دعم القبيلة، وتعزيز مكانتها؛ فاليمنيون والمجتمع الدولي يدركون أن مكونات ما قبل عصر الدولة -ليس في اليمن فحسب، وإنما في المنطقة العربية كلها- هي مصدر أساس في الاحتراب، والتفكيك القائم في غير منطقة عربية، وذاكرة اليمنيين في الحروب المعاشة، ودور الزعامات القبلية في مؤتمرات الجند وعمران وخمر والطائف وحرض، حاضرةٌ وحية.
شيطنة القبيلة لم يعد مجديًا، كما أن هوس زعاماتها بالتفرد باطل وضلال. لا يمكن تجاوز القبيلة بالوعظ السياسي أو بالتنظير العام والمجرد. التحولات المجتمعية الشاملة وحدها كفيلة بخلق البنى المجتمعية الحديثة، وهو ما فشلت فيه الثورة العربية، وبالأخص في اليمن.
جرت مياه كثيرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهمّشت الحروب الكيان والمجتمع اليمني، وأكّدت الأحداث التداخل بين المجتمعين الأهلي والمدني، وهو ما يفرض القراءة وإعادة القراءة لواقع اليمن، فالدعوة لوقف الحرب هي القاسم الأعظم والمشترك بين المجتمعين المدني والأهلي، بين قادة الأحزاب، والمشايخ وزعماء العشائر والواجهات الاجتماعية.
هذه الدعوة الطيبة لا بد أن تتجسد في الممارسة الواقعية، ثم إن القبيلة ليست البنية المجتمعية، وإنما هي أيضًا قيم وأفكار وتقاليد تعشعش وتنتشر في الوعي المجتمعي، وتفكير ومسلك قادة الأحزاب ليست بعيدة عن هذا التأثير.
الغرام بالصراع، ودعاوى التميز حد الاستعلاء، شيمة قبائلية: "لنا الصدر دون العالمين أو القبر"، وقد ألبستها القومية الشوفينية والستالينية أردية عصرية.
إلقاء التبعة كل التبعة على القبيلة، فيه قدر من تبرئة الذات؛ والثناء عليها، والتغاضي عن ذلك هو السبب الجوهري للحالة التي وصلنا إليها.
اشتغلت الثورة العربية، واليمنية بخاصة، بالصراع الكالح، والتعويل كثيرًا على القوة، والتجريم والتخوين وشيطنة المختلف، وعجزت عن تجسيد قيم التعايش والتسامح والحداثة، وفشل الحكم الثوري في تحديث البنية وتطويرها بما يكفي، وبالتالي رفض الانتقال من "الشرعية الثورية" المنقوصة إلى الشرعية الديمقراطية والحكم المدني، وغيبت الحرية والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والأهم غياب الإصلاح للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة، وحمايتها والحفاظ عليها.