ما قامت به قبلَ أيام قليلة، بعضُ مكونات (قبيلة ظليمة) في مناطق حاشد بمحافظة عمران (شمال اليمن)، بإصدارها وثيقةً (مرقومًا) تُساوِي فيها بين كلِّ أبنائها في الحقوق والواجبات، وتنبذ بموجبها ازدراء واحتقار المهن التي كان على أساسها يتم تقسيم السكان فيها بين أسياد وعبيد- خطوةٌ مهمّة جدًّا على طريق النضال الطويل لِكسر تراتبية اجتماعية شديدة القسوة والعنصرية، عملت على تكريسها قوى التسلط التاريخية في هذه المنطقة وغيرها من مناطق اليمن.
وممّا جاء في الوثيقة (المرقوم):
«نحن أبناء قبيلة ظليمة – حاشد، الموقِّعون والمُبهِمون أدنى هذا المرقوم، قد عاهدنا الله تعالى على نبذ كل مظاهر الانتقاص والاحتقار للمهن والأعمال والحِرَف الشريفة والعاملين فيها، ومؤكِّدين أنّه لم يعد بيننا ما يسمّى مُزَيّن أو بيَّاع أو طرف، وإنّ كل أبناء قبيلة ظليمة – حاشد إخوةٌ متساوون في الحقوق والواجبات وفي غُرم وأغرام، ومعدا ومبدا ونصرة مظلوم وإغاثة ملهوف ورد ظالم عن ظلمه، وافدين الحق بالعدد والمدد، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تَعاوَنوا على الإثم والعدوان﴾».
أن تأتي مثل هذه المبادرة من قلب منطقة قبلية شديدة المحافظة، لَهُوَ دليلٌ إضافي على أنّ المجتمع بحاجة فقط إلى نخبة حقيقية تمسك بيده نحو قيم العصر والمدنية التي تنهض على مبدأ المواطنة، لتتمكن من إحداث مثل هذا الاختراق الكبير والمهمّ.
بقيت مثل هذه المجتمعات القبلية المحلية، ترزح لقرون، تحت وطأة مفاهيم عنصرية وتمييزية أنتجتها بنى التسلط المستديمة من الإمامة إلى المشيخة القبلية، اللذَين وقفا سدًّا منيعًا أمام أي اختراقات في جدار الوعي العام فيها، لتبقى، هذه المناطق، مجرد مخزن لإنتاج مقاتلين دائمين لحراسة مثل هذه التقاليد الظلامية التي تستقوي بها مثلُ هذه القوى المتحكمة، واستدامةِ تسلطها.
الإماميون الجدد ينبشون اليومَ في ماضيهم العنصري، ويُعيدون إنتاج مثل هذه القيم التمييزية وتكريسها في الوعي الشعبي، من بوابة الاصطفاء والأحقية في الحكم والتسيُّد، واستخدام أبناء هذه المناطق في معركتهم الطويلة لتكريس سلطتهم القاهرة بغلبة القوة وغلبة المفاهيم المتخلفة.
بقيت المهن عنوانًا للتمايز الاجتماعي والطبقي، وإنّ أكثر المهن حيوية وإنتاجًا وعلى صلة بحياة الناس، مرتبطةٌ عمليةُ مزاولتها في الوعي الشعبي في هذه المناطق، بالمنبوذين والمحتقرين اجتماعيًّا وفقًا لهذا الوعي الشائه، وهي المهن ذاتها التي يعتاش من ريعها من يرون أنفسهم أسيادًا على غيرهم.
الأسياد في مثل مفاهيم كهذه، طبقة لا تعمل ولا تُنتج، وتعيش من كدّ وعمل غيرها، وعلى رأسها أصحاب المهن المحتقرة. أسياد متبطلون على الدوام ويريدون إيقاف الحياة في حدود وعيهم المتخلف الذي يحمي مصالحهم.
عملت مثل هذه القوى (الإمامية ووارثيها من المشايخ القبليين) على تصليب جدار العزلة في هذه المناطق، وصدّت كلَّ محاولات التحديث فيها من تعليم وتنمية ريفية؛ حتى تبقى على وضعها الجامد، حمايةً لمصالحها. يقال إن شيخ القبيلة وبعد أشهر من قيام ثورة سبتمبر، عاتب رئيس الجمهورية على مئة منحة تعليمية في مجالات مختلفة قدّمتها مصر وبعض الدول الداعمة للثورة والنظام الجمهوري لأبناء القبيلة، فظنّ الرئيس أنّ عددَ المنح قليلٌ، ليتفاجأ أنّ الشيخ يرفضها في المطلق بحُجّة أنها ستُفسد مقاتليه، وأنه في المستقبل لن يجد من يرافقه من العسكر؛ لأنّهم سيكونون قد تحولوا إلى كائنات "مبنطلة" (يرتدون بنطلونات).
الإماميّون الجُدد ينبشون اليومَ في ماضيهم العنصري، ويُعيدون إنتاج مثل هذه القيم التمييزية، وتكريسها في الوعي الشعبي، من بوابة الاصطفاء والأحقية في الحكم والتسيُّد، واستخدام أبناء هذه المناطق في معركتهم الطويلة لتكريس سلطتهم القاهرة بغلبة القوة وغلبة المفاهيم المتخلفة.
رسالةٌ قوية توجّهها منطقة قبلية عانت طويلًا من التسلط والتمييز، فهل تستطيع النخب التقاطها والبناء عليها؟ ليسهل تاليًا على بقية البنى القبلية كسر مثل هذا الحاجز الصلب، وإيصال صوتها للقوى العنصرية الجديدة بأنّ مياهًا كثيرة سالت في المجرى، ولا بدّ من إحداها أن تغسل أدران الماضي من وعي مواطني اليوم.
الوثيقة: