جمهرةٌ من الشباب والفتيات، أغلبهم في العشرينيات من العمر، يقفون في مجاميع متفاوتة العدد أمام بوابة جامعة صنعاء، فيما شمس ما بعد الظهيرة تلفح وجوههم التي يبدو عليها علامات الضجر والترقب، والانفعال أحيانًا؛ بانتظار إحدى الحافلات العامة (الباصات) أملًا في مقعدٍ شاغر يتدافعون عليه كالغنيمة، حتى وإن لزم الأمر بقاء بعضهم واقفًا أو معلّقًا على الجانب.
هذا المشهد الذي صار يتكرر يوميًّا، لا يعد سوى جزءٍ من جملة المعاناة التي يعيشها طلاب الجامعات اليمنية ومعظم المواطنين من سكان العاصمة صنعاء، وسواها من مدن البلاد، بسبب أزمة الوقود التي وصلت ذروتها القصوى _منذ اندلاع الحرب_ مع بداية مارس/ آذار من العام الجاري 2022، أدَّتْ في المقابل إلى أزمة في المواصلات العامة ورفعت أسعارها إلى الضعف.
أزمة الوقود الحالية تأتي امتدادًا تراكميًّا لسلسة من أطوار أزمات الوقود التي تقلَّبَ على جَمهرها اليمنيون منذ نحو سبع سنوات من الصراع في البلاد، وتوظيف بعض الأطراف المتحاربة لورقة المشتقات النفطية في مناوراتِ السياسة والمصالح الفئوية.
الارتفاع الطارئ في أسعار المواصلات العامة، أثّر بشكل كبير على نسبةٍ ملحوظة من طلاب الجامعات الذين أجبرهم ضيق الحال وشحة المورد، على الإحجام عن حضور محاضراتهم، أو الذهاب إليها مشيًا لمسافات طويلة، بعد أن أمسى سعر المواصلات المضاعف متعذِّرًا عليهم.
رغم أن تبعات ارتفاع أجرة المواصلات العامة، أثَّرتْ سلبًا على جميع الطلاب تقريبًا، وعلى نسبة حضورهم إلى الكليات، إلا أن الفتيات (الطالبات) كنَّ أكثر تأثرًا بحكم خصوصية الظروف وصعوبة التكيّف مع المتغيرات الجديدة التي فرضتها الأزمة
كمال عبده (24 سنة)، طالب في المستوى الخامس في كلية الطب البشري بجامعة صنعاء، يقول لـ"خيوط" إنه منذ خمسة أيام أصبح لا يتناول سوى وجبةٍ واحدة في اليوم، توفيرًا لثمن الموصلات التي تكلفه أكثر من ثلثي مصروفه اليومي البسيط، نظرًا لبعد المسافة بين محل سكنه ومكان المحاضرات التطبيقية التي يتعين عليه حضورها في عدد من المستشفيات الحكومية بصنعاء.
يشير إلى عبء المواصلات بالنظر إلى طابع الدراسة في هذا العام، إذ يقول: "هذا العام ندرس سنة تطبيقية؛ يتم تقسيمنا إلى مجموعات، كل مجموعة تحضر مع دكتورها حسب نوع الكورس؛ تشريح، جراحة، جلدية، توليد، نتنقَّل خلالها بين مستشفيات: الكويت، السبعين، الثورة، الجمهوري"، ويتطلب الوصول من مرفق إلى مرفق قطع مسافة كبيرة بالمواصلات العامة.
يضيف: "قبل أسبوعين كنت أنفق ألف ريال في المتوسط ثمنًا للمواصلات، الآن صار عليَّ أن أدفع فوقها ألفًا أخرى، وهذا فوق طاقتي حاليًّا، لكن لا خيار أمامك إلا أن تتنازل عن أهم ضرورياتك الحياتية حتى يأتي الله بالفرج".
يذكر كمال أنه مؤخرًا صار يتقدم ساعةً على موعد المحاضرات؛ تفاديًا "للتأخير الممل" الذي أصبح عادةً لدى سائقي الحافلات وتوقفهم المتكرر في كل بضعة أمتار لحشد مزيد من الركاب، موضحًا أن نظام المحاضرات التطبيقية يستدعي الانضباط التامّ في المواعيد، ما لم سيحرم الطالب من الدخول إن تأخر خمس دقائق عن موعد بدء المحاضرة.
بالنسبة لزملائه، يقول إنه منذ أسبوع أصبح ثلث الطلاب يغيبون عن المحاضرات بسبب المواصلات "تتكون مجموعتي من 19 طالبًا/ـةً، أصبح عددنا الآن لا يتجاوز 12 طالبًا فقط، صار الوضع فوق احتمال البعض، وللأسف لا أحد يكترث".
ووضعت الأزمة المتصاعدة في الوقود وتبعاتها في ارتفاع أجور المواصلات العامة، سلطات صنعاء في حرج شديد، رغم ما يلاحظ عليها من عدم مبالاتها بمعاناة الناس في مناطق سيطرتها وما يقاسونه من معاناة شديدة مع تصاعد الأزمات المعيشية بشكل غير مسبوق.
وأقدم سائقو مركبات وباصات النقل العامة الداخلية في صنعاء على رفع أجرة المواصلات من 100 ريال إلى 200 ريال لـ"المشوار" (الرحلة الواحدة)، مع دخول أزمة الوقود شهرها الثالث بدون أي حلول تذكر للأزمة، في حين يفيد مسؤول في شركة النفط اليمنية في صنعاء أنها ستوفر البنزين لبعض باصات النقل للعمل مجانًا لمن لا يستطيع دفع أجرة المواصلات.
الطالبات أكثر تضررًا
رغم أن تبعات ارتفاع أجرة المواصلات العامة، أثَّرتْ سلبًا على جميع الطلاب تقريبًا، وعلى نسبة حضورهم إلى الكليات، إلا أن الفتيات (الطالبات) كنَّ أكثر تأثرًا بحكم خصوصية الظروف وصعوبة التكيّف مع المتغيرات الجديدة التي فرضتها الأزمة.
يُمنَى الحسيني (20 سنة)، طالبة نظم معلومات بالجامعة الإماراتية، الواقعة في فج عطان (جنوب غرب صنعاء)، فيما تقيم هي في شارع الأصبحي_ مسافة الذهاب والعودة بين منزلها والجامعة كانت تكلفها 600 ريال يوميًا؛ حاليًّا، أصبحت تدفع ضعف المبلغ (1200 ريال)، مقابل المواصلات فقط، بحسب يُمنى لـ"خيوط".
تلفت الحسني إلى أن أزمة الوقود ضاعفت معاناة الطلاب بشكلٍ عام، وليس فيما يخص المواصلات فقط، "هذه الأزمة التي نمر بها، أثرت علينا من جوانب كثيرة، إلى درجة أن مقصف الجامعة قام برفع سعر الأطعمة والمعجنات التي يبيعها على الطلاب بسعر أعلى مما كان عليه قبل أسبوعين"، تردف مستنكرةً: "لم نعد ندري ما الذي عسانا فعله، أنوفِّر مصروفنا للمواصلات أم ننفقه في سد جوعنا؟".
أما نسرين (20 سنة)، وهي طالبة جرافكس وملتيميديا بالجامعة اليمنية، فتتساءل بانفعال: "ما هذا الوضع الذي وصلنا إليه؟! لم نعد قادرين حتى على ممارسة حقنا الطبيعي المكفول لنا في التعليم، والذهاب بشكل طبيعي إلى الجامعة يوميًّا؛ بسبب ارتفاع أسعار المواصلات".
قاعات شبه فارغة
طوال ثلاث سنوات من دراستها في كلية الشريعة والقانون، كانت الطالبة حنان المدامي (21 سنة)، تحضر يوميًّا _عدا أيام الإجازات_ إلى كليتها من مديرية بني حشيش (أقصى شرق صنعاء)، رغم أزمات النقل التي كانت تطرأ بين فترةٍ وأخرى، إلا أن هذه المرة صار الظرف مختلفًا وقاسيًا بالنسبة لها.
في حديثها لـ"خيوط"، تقول المدامي: "توقفت عن الذهاب إلى الكلية، كوني لم أعد قادرةً على تحمُّل نفقات المواصلات، بحكم أني أقدم كل يوم من بني حشيش إلى جامعة صنعاء؛ لذا سأستمر في الغياب ريثما تخف الأزمة، أو يتم وضع أي حلول لنا كطلاب، فحن أكثر من يتعرض للضرر في الوقت الحالي".
سرور واصل (22 سنة)، وهي زميلة "المدامي" في المستوى الدراسي نفسه، قالت لـ"خيوط"، إن "قاعات المحاضرات أصبحت شبه فارغة؛ أكثر من 100 طالب/ـةٍ في دفعتي توقفوا عن الحضور إلى الكلية منذ ارتفاع أسعار المواصلات؛ كثيرات من زميلاتي أحجمن عن حضور المحاضرات للسبب ذاته، خصوصًا أن غالبيتهن يعانين من ظروف مادية صعبة؛ منهن من أخبرتني أنها تضطر للبقاء دون وجبة إفطار لتوفير ثمن مواصلات العودة من الكلية إلى المنزل".
تحت ضغط الأزمة الطاحنة، وتداعياتها على الطلاب، شرع مجموعة من طلاب كليتَي الحاسوب واللغات بجامعة صنعاء (من جميع المستويات)، في توقيع عريضة احتجاجية تطالب بتجميد الدراسة إلى حين انفراج الأزمة، أو إيجاد حلٍّ لعدم قدرة الطلاب على حضور المحاضرات بسبب عدم قدرتهم على توفير ثمن المواصلات.
الطالب في المستوى الرابع بقسم الترجمة، محمد سوار (24 سنة) _وهو أحد أعضاء حملة توقيع العريضة الاحتجاجية_ أكّد لـ"خيوط" أن ما يزيد عن 40% من الطلاب الذين يدرسون معه في نفس التخصص، صاروا يغيبون عن المحاضرات؛ كونهم أصبحوا عديمي الحيلة أمام زيادة أسعار المواصلات التي أصبحت تفوق قدرتهم المادية.
أعباء فوق الممكن
لم يقتصر تأثير أزمة الوقود بالنسبة لطلاب الجامعات على الزيادة في أجرة المواصلات فقط، إنما امتد إلى كل الجوانب ذات الصلة بخدمات الطالب، مثل القرطاسيات والأدوات التطبيقية التي شهدت أسعارها زيادةً مقابلة لارتفاع أسعار الوقود؛ أضافت عبئًا مضاعفًا على جميع طلبة الجامعات، خصوصًا طلاب المراحل المتقدمة في كليات الزراعة، والهندسة المعمارية، وطب الأسنان، الذين يضطرون لشراء المواد التطبيقية التي يتطلبها تخصصهم بشكل مستمر طوال العام.
لا يتوقف الأمر هنا، بل يتعدى إلى التأثير على عائلات الطلاب، التي تضاعفت عليها المشقة المالية في توفير ما يفي من مصروفات أبنائها الذين يدرسون في الجامعات، في الوقت الذي يكافحون فيه بكل يأس في توفير الحد الأدنى من أساسيات المعيشة في ظل تعذر مصادر الكسب وتوقف مرتبات الموظفين في القطاع العام.
شأن كل مرة تشهد فيها البلاد أزمة في المحروقات، يضيق الخناق أكثر على اليمنيين، الذين أصبح معظمهم غير قادرين على توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم المعيشية الرئيسية، في ظل الارتفاع القاصم في أسعار السلع الأساسية وانعدام فرص العمل، والأزمات الاقتصادية التي تعصف بالقطاع العام والخاص في البلاد، الأمر الذي من شأنه تعميق المعاناة الإنسانية لملايين اليمنيين بمختلف شرائحهم وطبقاتهم الاقتصادية التي أصبحت تترنح بين جحيمين؛ الحربُ، وارتفاع الأسعار.