صبيحة الاعتداء الأول على خيام المعتصمين، التي نبتت في محيط بوابة جامعة صنعاء الجديدة، في منتصف فبراير 2011، حملتُ كاميرا سوني كانت بعهدتي -بوصفي مسؤول الإعلام في مشروع تطوير التعليم الأساسي- وذهبت لساحة التغيير، لتصوير مخلفات الاعتداء، بما فيها سيارة مرسيدس قديمة تم إعطابها، وقيل إن مالكها هو من تزعم قيادة مجاميع البلاطجة للاعتداء على الساحة، وكان يتبع بشكل مباشر، حسب المتداول في الأخبار، حافظ معياد رئيس المؤسسة الاقتصادية وقتها.
بعد ثلاث لقطات فقط، تفاجأتُ بمجموعة من الشبان الصغار الملتحين، يطوقونني ويريدون انتزاع الكاميرا مني وحذف الصور منها، وبعد أن رفضت، وتهيأت لخوض معركة من أجل حقي في التصوير، تدخل أكبرهم وطلب مني، وبلغة ناعمة ومهذبة، أن أرافقهم لخيمة المسؤول الأمني بالقرب من البوابة لاحترازات أمنية، وتسوية الموضوع بعد أن بدأ الناس بالتجمهر لسماعهم أصواتنا المرتفعة.
كانت عيون الشبان الملتحين تقدح بالشرر وهم ينظرون إلي، وكنت أبادلهم شعورًا مماثلًا، وفكرت، وأنا برفقتهم في طريقنا للخيمة، بجميع الاحتمالات عند مقابلتي لمسؤولهم الأمني، بما فيها العراك معه، وحين وصلت للخيمة وجدت شابًّا يظهر أن الأرق امتصّ حيويته، لكنه لم يبدد عنجهيته الفارغة، وحين تقدم إليه قائد المجموعة وهمس بأذنه، رفع رأسه بتكاسل ناحيتي، وسأل: "أنت تشتغل مع من؟"، فقلت: "مع محمد عبدالوهاب الشيباني"، ومع نطقي للجملة تمامًا دخل الخيمة أحد ناشطي الإصلاح المعروفين والمرحين، وأول ما رآني رحّب بي بصوت مرتفع: "أهلًا أهلًا، بصديقي اليساري. ماذا تفعل هنا، وما سرنا بهذه الزيارة يا رفيق؟!".
التفت إليه المسؤول الأمني، وسأله: "هل تعرفه يا أستاذ؟"، فقال: "ومن لا يعرف محمد الشيباني عضو اتحاد الأدباء وشاعر الجينز" وضحك، ثم قال: "أي خدمات"، فقلت له:
"قل لأصحابك حبَّة حبَّة، هذا وعادهم مامسكوش سلطة؛ فماذا سيفعلون بالناس إن أمسكوها بجد؟!".
المهم انتهت هذه المقابلة، باعتذار فاتر من رئيس الفريق الأمني؛ وبعد خروجي من الخيمة وجدت ثلاثة من الرفاق الحزبيين النشطين في الساحة بمكان قريب، فحكيت لهم الحكاية وأنا في ذروة انفعالي وتوتري، وكنت أنتظر من أحدهم ردة فعل إيجابية فيعود معي لخيمة المسؤول الأمني لتسجيل موقف ما، لكن بلا فائدة، وكأن انتهاكًا مثل هذا لا يستدعي من أحدهم التنازع مع شريك سياسي من أجلي!! طبعًا واحد من هؤلاء، وهو من أعز أصدقائي، عرض عليّ بعد فترة، نصًّا شعريًّا قادحًا يهجو به الشريك!!
(2)
في ذروة نشاط الساحة كنت أنشر العديد من الصور في صحيفة التجمع، التي كنت أشغل فيها موقع نائب رئيس التحرير، وفي صفحتي في الفيسبوك، التي أنشأتها في تلك الفترة بمعاونة من صديقي الراحل محمد الجبلي، وكان أول منشور لي فيها عنوانه الأمل، أعرض فيه للأمل الذي تصنعه الساحة في مداركنا لمعنى الثورة بشقها السلمي، فعرف الكثير من زملائي في العمل نشاطي في الساحة، ولا أدري كيف وصل الأمر لمدير المشروع الصديق الودود المهندس أحمد عبدالوهاب العرشي، الذي رآني، في واحد من صباحات مارس 2011، في الممر فطلب مني مرافقته لمكتبه، وهناك قال لي، وهو يبتسم وبلهجته الصنعائية المحببة:
"ما هو يا عزي، قالوا أنكم بتصوروا بكاميرا المشروع في ساحة الجامعة! وأنت سيد العارفين أن هذه الكاميرا مالهاش دخل بالسياسة حقكم!!".
فقلت له، وبلغة مازحة أيضًا، ولكن مرتبة: "هذه الكاميرا، يا صفي، هي ملك للشعب اليمني داخل الساحة وخارجها، وهي محسوبة على المشروع في حسابات القرض الذي يدفع تكاليفه الشعب بكل فئاته، والذي من حقه أن يتصور بها، وهو يتظاهر ضد الذي جوّعه"؛ فضحك ولم يفتح معي الموضوع بعدها مطلقًا، ولم أتعرض لأي نوع من المضايقة حتى من أحد الأمنيين في المشروع، الذي أبصرني في سبتمبر2011 وأنا في المتراس الأول الذي صنعه الثوار بعد تجاوزهم لجسر كنتاكي، وكان هو في الجهة المقابلة بملابسه الشعبية ضمن المجاميع المحسوبة على الحرس الجمهوري، وحاول تحاشي معرفتي به بكل الوسائل.
(3)
على مدى ستة أشهر كاملة كنت أتواعد، في صباحات كثيرة، مع صديقَيَّ مصطفى عبدالجليل وفؤاد المقطري في مقهى أبو أصيل في شارع هائل عند التاسعة، ثم نتحرك بعدها بالسيارة التاكسي، التي يمتلكها مصطفى، ومعنا بعض الأصدقاء والرفاق؛ فيقوم بركن السيارة في أحد المواضع الآمنة في الحواري المجاورة للساحة، ثم نتجاوز المداخل الأمنية للساحة من جهة شارع الرباط، أو الدائري الغربي، وفي مرات قليلة من جهة الزراعة وشارع العدل بعد تفتيشنا، فنصل إلى المنصة أولًا، ثم نعود، بعد جولة تصويرية، للجلوس في المقهى القريب منها مع الأصدقاء والرفاق، ونحن ممسوسون بحلم التغيير الجميل، قبل أن نعود ظهرًا أدراجنا إلى شارع هائل بعد جرعة تفاؤل مكثفة بقرب عملية التغيير.
بعد مرور أسابيع قليلة، وهروب الكثير من فسدة النظام وحلفائه العسكريين والقبليين والدينيين إلى الساحة، بدأ الحلم الجميل بالتبدد، وتلاشى نهائيًّا، بعد أشهر عشرة، بذهاب راكبي الموجة من أذرع النظام إلى تسوية سياسية عنوانها المحاصصة، واقتسام السلطة من جديد، على حساب فكرة التغيير، التي دفع مئات الشبان أرواحهم ثمنًا لها بقناصات وبنادق وقنابل النظام وحلفائه وهراوات وسكاكين بلاطجته في ساحات المدن المختلفة.
(4)
استعادةً لهذه الذكرى النبيلة، والتي لم تزل عنوانًا للحلم الجميل، أُعيد نشر مجموعة من الصور التي لم تزل تستنطق حلمنا المسروق، وهي جديرة بالتعريف بمحتواها مباشرة، دون تعليقات أو فذلكات.