"إلى رفاقي في الوطن المنكِسر الدروب، المليء بالحروب، إلى أصدقائي الذين يتغنون بالحياة رغم بؤس العالم".
بهذه الكلمات القليلة غزيرة المشاعر، أهدى رحمان صالح ديوانه "وزن الطائر" الذي صدر بطبعتين، منها هذه الطبعة التي صدرت عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة، مشتملة على أربعة وأربعين نصًّا، ملمومة في 92 صفحة من القطع الصغير، يتوسطها النص الذي حمل الديوان اسمه "وزن الطائر" الذي هو وزن الغصن الذي يقف عليه حين يغني، أما الأغنية فهي وزن القلب حين يحب، والحب هو وزن الإنسان حين يفكر، أمّا الإنسان فهو وزن الحقيقة التي لم تكتمل.
يتكثف التعريف المدرسي للحقيقة في أنّها "الغاية التي ينشدها كل إنسان، سواء في علاقاته الاجتماعية أو في حياته الشخصية أو في علاقته الواسعة بالوجود"، والأصل في بلوغ الغاية هو مكابدة الإنسان التي لا تنتهي. لهذا، فالحقيقة مثالٌ مكتمل في الوعي الفردي، لكنها مشتتة ممزقة في الوعي الجمعي، وهي في وزنها الشعري تساوي عدم اكتمالها.
الغصن.. وزن الطائر حين يغني
الأغنية.. وزن القلب حين يحب
الحب.. وزن الإنسان حين يفكر
الإنسان.. وزن الحقيقة التي لم تكتمل
وعلى هذا التعريف، يتأسس وعي الكاتب بماهية الشعر الذي هو عنده ليس كتابة ونظمًا وصورًا منحوتة، فكل الناس من وجهة نظره شعراء، فقط تختلف أدواتهم ومعاناتهم وطريقة عبورهم للحياة، والتعبير عن تفاصيلها. الشعر في نهاية المطاف هو تسمية، مثل الأمل والفرح والحب والحزن.
(*)
"الوجود" في التداول العام والمبسط هو: "القدرة على التفاعل مع الواقع (أو الكون) بشكل مباشر أو غير مباشر"، لكنه في وزن الطائر، هو:
البكاء الذي يصير تعريفًا للفعل الذي يُحدثه الماء بالشجرة، وهو الضحك الذي تختزله اللمعة التي يحدثها البرق بالسحابة، وهو الصمت حين يصير جدولًا شاحبًا بعد أن تغادره الطيور، وهو أخيرًا الأغنية التي بذرها الله في الكون لتمنح الإنسان السعادة.
إنسان اليوم في "وزن الطائر"، هو الشاعر نفسه، ذلك الملبوس بالانتظار الطويل لحياةٍ سافرت إلى كل مكان وصادفت أمورًا كثيرة مثل الحروب والسلام، وحينما صادفته بكت كثيرًا، لكنها لم تعطِه شيئًا!
(*)
الوطن في "وزن الشاعر" وعند كاتبه، هو كائن حافي القدمين ولزج، ولهذا عليه أن يرحل ويبتعد من طريقه حتى يمر بأمان.
هذا الوطن البائس:
يجب أن يُسجن في مكان لا يذهب إليه أحد حتى الرياح، ويجب عليه أن يُسدّد كل الديون التي عليه وأقرضه إياها الشاعر منذ طفولته.
عليه أن يترك الأشجار تنمو، والأطفال تلعب وتزرع الأمل، والصباح ينتشي بالطرقات، وقبل ذلك عليه أن يفهم جيدًا أنّه لم يعُد صالحًا للاستعمال؛ لأنّه صار خصمًا للعصافير والشجر والتأمل. هذا الوطن ليس أكثر من علبة فارغة تحدث ضجيجًا طوال الوقت.