تتزايد أعداد مرضى الثلاسيميا والأنيميا المنجلية في اليمن، بشكل مستمر، حيث بلغ عددهم ما يزيد على 40 ألف حالة بحسب تقديرات وزارة الصحة العامة والسكان بصنعاء، علاوة على مئات الآلاف من الحاملين للجين المسؤول عن المرض، من دون علم أغلبهم، ما يُنذر بخطر كبير على مستقبل الطفولة عمومًا.
يوافق الثامن من مايو/ أيار من كل عام، اليومَ العالمي للثلاسيميا، الذي يحتفل به اليمن والعالم في سبيل تسليط الضوء على هذا المرض الخطير؛ والتضامن مع المصابين به، والتوعية للوقاية والحدّ من انتشاره، حيث تشير إحصائيات إلى أنّ ما يقارب 7% من إجمالي سكان العالم، حاملين لأمراض الاضطرابات في الهيموجلوبين.
والثلاسيميا هو أحد أنواع تكسرات (انحلال) كريات الدم الحمراء الوراثي، الناتج عن انتقال جينات المرض من الأبوين إلى الأبناء، حيث يعجز نخاع العظام عن تصنيع كمية كافية من خضاب الدم السليم (الهيموجلوبين)، كما هو في خلايا الدم الحمراء الطبيعية، ومن ثَمّ تتوقف حياة المريض على الدم المنقول من المتبرعين؛ لتعويض النقص المستمر في خلايا الدم الحمراء.
ينتشر الثلاسيميا في اليمن في محافظات حجة، وعمران، وصنعاء، وذمار، وصعدة، والمحويت، والبيضاء، والضالع، وشبوة، وأبين، وحضرموت. فيما تنتشر الأنيميا المنجلية بشكل أكبر في: حجة، وتعز والحديدة، وعمران، وصعدة، والمديريات الغربية من محافظات ذمار، وإب، والمحويت، وصنعاء، ولحج؛ نتيجة الكثافة السكانية من ناحية، وقُرب هذه المحافظات من الساحل الغربي المحاذي لشرق إفريقيا التي تنتشر فيها الأنيميا المنجلية.
أوجاع دائمة
بملامح ذابلة وعينَين صفراوَين وجسد منهك، تتحدث سارة عبداللطيف (18 سنة)، من صنعاء، عن معاناتها مع الثلاسيميا، حيث تحتاج لنقل الدم كل 3-4 أسابيع، مع الاستمرار في تناول الأدوية بشكل يومي.
سارة تتعرض للكثير من التنمّر والمواقف المزعجة؛ بسبب آثار الثلاسيميا على بنيتها ولونها، ما دفعها للتفكير في ترك المدرسة؛ يشاركها المعاناة هذه أخوها الأكبر سليمان (23 سنة)، المصاب بالمرض نفسه.
تتحدث لـ"خيوط" أماني، إحدى قريبات سارة، قائلة: "يعاني الأخوَان سارة وسليمان، خاصة أيام الحرب، من عدم توفّر علاج سحب الحديد، ما سبّب لهما مضاعفات خطيرة أدّت إلى تراكم مخزون الحديد لأكثر من 6000 ملّيجرام/ لتر، في حين أنّ المعدل الطبيعي عند النساء 307 ملّيجرام/ لتر، وعند الرجال 336 ملّيجرام/ لتر، الذي ساهم في تضخم الطحال؛ الأمر الذي استدعى إجراء عملية لاستئصاله".
من جهته، يقول أحمد شمسان، استشاري طب الأطفال، لـ"خيوط": "يعتمد ظهور أعراض الثلاسيميا على حالة المريض، إذ تظهر من عمر 4-6 أشهر من بعد الولادة، على شكل فقر دم شديد، وشحوب في الوجه، إضافة إلى صعوبة في التنفس، وسرعة الإجهاد وضعف نمو العظام وتشوهها، أو بروز عظام الوجه والوجنتين بشكل لافت، وتأخر في النمو".
وأضاف سنان: "أهم مضاعفات الثلاسيميا، هو تراكم الحديد الناتج عن عملية تكرار نقل الدم المستمر، الذي يؤدي بدوره إلى تضخم أعضاء الجسم الرئيسية، كالطحال والقلب والكبد والبنكرياس والكلى، ومن ثم تعطيل وظائفها، ما قد يتسبب بوفاة المريض في كثير من الأحيان".
يتركز انتشار الثلاسيميا في اليمن في محافظات حجة، وعمران، وصنعاء، وذمار، وصعدة، والمحويت، والبيضاء، والضالع، وشبوة، وأبين، وحضرموت، فيما تنتشر الأنيميا المنجلية بشكل أكبر في حجة، وتعز، والحديدة، وعمران، وصعدة، والمديريات الغربية من محافظات ذمار، وإب، والمحويت، وصنعاء، ولحج؛ نتيجة الكثافة السكانية من ناحية، وقُرب هذه المحافظات من الساحل الغربي المحاذي لشرق إفريقيا التي تنتشر فيها الأنيميا المنجلية.
انتقال الجينات
من جانبه، يقول مختار إسماعيل، مدير المركز العلاجي لمرضى الثلاسيميا وانحلال الدم الوراثي بصنعاء، في حديث لـ"خيوط": "يُعرَف الثلاسيميا أيضًا باسم (فقر دم كولي) نسبة إلى طبيب الأطفال الأمريكي توماس كولي، الذي وصف هذا المرض لأول مرة سنة 1925".
مضيفًا: "انتقل الثلاسيميا إلى اليمن عبر هجرات السكان على فترات تاريخية متتابعة من دول حوض البحر الأبيض المتوسط وشرق المتوسط، الذين هاجروا لليمن واستقروا فيه واختلطوا باليمنيين وتزاوجوا منهم، ما يعني انتقال جينات هذا المرض".
ويتابع إسماعيل: "يتركز انتشار الثلاسيميا في اليمن في محافظات حجة، وعمران، وصنعاء، وذمار، وصعدة، والمحويت، والبيضاء، والضالع، وشبوة، وأبين، وحضرموت، فيما تنتشر الأنيميا المنجلية بشكل أكبر في حجة، وتعز، والحديدة، وعمران، وصعدة، والمديريات الغربية من محافظات ذمار، وإب، والمحويت، وصنعاء، ولحج؛ نتيجة الكثافة السكانية من ناحية، وقُرب هذه المحافظات من الساحل الغربي المحاذي لشرق إفريقيا التي تنتشر فيها الأنيميا المنجلية، وإجمالًا فإن أمراض الثلاسيميا والدم الوراثي موجودة في معظم المحافظات اليمنية وإن بنسب متفاوتة".
وبحسب آخر إحصائية مسجلة بالمركز العلاجي بصنعاء، بلغ عدد مرضى الثلاسيميا والأنيميا المنجلية حتى مارس/ آذار 2024، (7414) حالة، بلغ عدد الوفيات من هذا العدد (576)، إلى جانب حالات كثيرة غير مسجلة.
لا يعيش مرضى الثلاسيميا كبقية الناس، نتيجة التبعات النفسية للمرض الذي اضطرهم للعيش مع الأدوية والحاجة الدائمة، فضلًا عن حرمانهم من الحياة مثل بقية البشر.
"أنتِ مسكينة مريضة، دائمًا تنقلي دم، لن تكملي تعليمكِ، ولا أحد يفكر في الزواج بكِ، ستموتين سريعًا"؛ كلمات قاسية تواجه رحاب فؤاد (26 سنة)، من محافظة تعز، بشكل شبه يومي، لكنها تحاول التجاهل قدر استطاعتها، ساعية للتغلب على نظرة المجتمع المشفقة، والمنتقصة لها، كونها إنسانة تكسرها كلمة أو نظرة.
تصف رحاب بعضًا من معاناتها مع المرض، قائلة: "قبل نقل الدم لي، أتعرض لنوبة ألم شديدة، وفقدان تام للشهية، فيما تتحول بشرتي إلى اللون الأصفر، وأشعر بألم شديد في المفاصل، ويتملكني الإرهاق، وتسوء الحالة النفسية".
من جانبها، تتحدث رباب توفيق، مسؤولة الدعم النفسي والاجتماعي، بالجمعية اليمنية لمرضى الثلاسيميا والدم الوراثي، عن انعكاس الآثار الصحية على نفسيات المرضى، خصوصًا عند وصولهم لمرحلة التشوه، مثل التقزم أو بروز عظام الوجه؛ المرحلة التي يشعر فيها المريض باليأس والنقص، والإحباط الشديد، وبالحاجة للعزلة والانطواء، ومن ثم تنمو لديه مشاعر الكره لنفسه وللعائلة وللمجتمع عمومًا، بل قد تتحول التبعات النفسية إلى حالة من العداء والحقد على الآخر والمحيط عمومًا، فيما تلجأ بعض الحالات لتناول كمية من المهدئات؛ خوفًا من نوبات الألم، ما يُدخلهم في حالة إدمان يصعب إخراجهم منها.
لا يقتصر الأمر على التنمّر في المدارس أو الجامعات أو عدم القبول في الوظائف، بل يصل إلى رفض المجتمع تزويجهم؛ لجهلهم بالمرض، مع أنه يمكن لمريض الثلاسيميا أن يتزوج، بشرط أن يكون الطرف الآخر سليمًا من المرض، وذلك يكفي لإنجاب أطفال أصحَّاء، وإن كانوا حاملين لجين المرض.
من النادر أن تجد مريضًا بالثلاسيميا يقابلك مبتسمًا؛ استثناءات قليلة فقط هي من تتجاوز محنتها وتبتسم، أنس ناصر (14 سنة) واحدٌ من هذه الاستثناءات، إذ يعتبر أيقونة للكفاح والتحدي مقارنة بمرضى آخرين، ما إن تسمعه يتحدث حتى يتسرب الأمل إلى قلبك، بريق عينيه يحكي الكثير من الطموح الممزوج بالألم، فهو متفوق دراسيًّا، وناجح اجتماعيًّا.
السيدة رباب تلعب دورًا كبيرًا في دعم وتشجيع مرضى الثلاسيميا، وبناء شخصياتهم المتحدية؛ لتخطي أي أزمات قد يمرّون بها، خصوصًا أنّ نظرة الشفقة من المجتمع للمرضى، تؤثر بشدة على نفسياتهم، حيث يُصابون بأزمات نفسية حادّة تؤدي إلى انهيار أغلبهم.
"أريد الموت"، "أسرتي تعبت مني"، "لا أريد تناول العلاج"؛ عبارات يتردد صداها بحسرة في ذاكرة الأستاذة رباب، كونها استقبلت في الجمعية الكثيرَ ممن أهملتهم أُسَرهم وتركتهم لمصيرهم.
فرض الفحص على الراغبين بالزواج، وإبراز الأضرار المترتبة على عدم إجرائه من الأمور غير المستقرة في أذهان الراغبين بالزواج، وغائبة عن اهتمام المجتمع اليمني عامة، وإلا لكانت هناك جماعات وتيارات وشخصيات تمارس الضغط على متخذي القرار للأخذ بهذه الفكرة، بل لو كانت هذه الفكرة حاضرة في أذهان متخذي القرار ومفهومة، لَمَا رفضها مجلس النواب.
الفحص المبكر
جميل علي الخياطي، مدير عام الجمعية اليمنية لمرضى الثلاسيميا والدم الوراثي، تحدث لـ"خيوط"، عن أهمية توفير الرعاية الصحية لمرضى الثلاسيميا في ظلّ الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، منوهًا أنّ الجمعية تقوم بمخاطبة الجهات المعنية وبعض المانحين لتوفير المحاليل المخبرية والمستلزمات الطبية والأدوية التي يحتاجها المرضى، وبالفعل قدمت الجمعية خلال العام 2023، (152,637) خدمة صحية وعلاجية، حيث تتردّد على المركز العلاجي للجمعية بصنعاء يوميًّا من 100-120 حالة، كما تتعاون الجمعية مع المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه في إقامة حملات التبرع الطوعي، والإسهام في تأمين احتياج مرضاها من مخزون الدم.
الجدير بالذكر أنّ مريض الثلاسيميا في اليمن، يحتاج إلى ما يقارب 4000 دولار سنويًّا، وذلك لتغطية تكاليف الأدوية والخدمات الطبية ونقل الدم، كما يحتاج إلى الدعم النفسي والرعاية الاجتماعية.
وعن الجهود المبذولة للتوعية بخطورة أمراض الثلاسيميا والدم الوراثي، وأهمية إجراء الفحص المبكر والاستشارة الطبية قبل الزواج، يتحدث لـ"خيوط"، عبدالغني الجلة، رئيس قسم الإعلام بالجمعية، قائلًا: "تلجأ الجمعية إلى استخدام أساليب ووسائل الاتصال المختلفة في سبيل التوعية بسبل الوقاية، والحدّ من انتشار المرض، كتنفيذ الحملات، والمحاضرات التوعوية مع شركاء الوقاية في المدارس والكليات والمعاهد والجامعات اليمنية المختلفة، واستغلال منصات التواصل الاجتماعي كمنبر هامّ في نشر الرسائل التوعوية".
ويضيف الجلة: "تعمل الجمعية على التنسيق مع الفنانين والمؤثرين على السوشيال ميديا ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وشركات الاتصالات؛ للتعاون معها في حماية الطفولة والأجيال القادمة من خطورة الإصابة بهذه الأمراض الوراثية، وهناك تعاون من بعض المؤثرين وصنّاع المحتوى ووسائل الإعلام في نشر التوعية، لكن هذا التعاون يظلّ محدودًا، وهذا لا يكفي، إذ إنّه من المهم نشر التوعية على مدار العام".
وبحسب استطلاع أجرته "خيوط"، على فئة عشوائية من الشباب، ممن تزوجوا خلال الثلاث السنوات الماضية، تبين أنّ 82% منهم، تزوّجوا من دون إجراء الفحص الطبي قبل الزواج، رغم أن غالبيتهم حاصلون على الشهادة الجامعية، تحت مبرر أنّ الطرف الثاني ليس من الأقارب، وهو ما دعا الدكتور مختار إسماعيل إلى التأكيد أنّ حوالي 30% من المسجلين بالمركز العلاجي هم من والدَين لا تجمعهم صلة قرابة.
في سياق متصل، أكّد لـ"خيوط"، بسام المعلمي، مدير فرع مختبرات اليوسفي التخصصية، إمكانية إجراء الفحص قبل الزواج بسهولة ومبالغ زهيدة، قائلًا: "إجراء الفحص ليس مكلفًا، مقارنة بالأعباء والمعاناة بعد إنجاب أبناء مصابين- لا قدّر الله".
ويشير الجلة إلى أهمية تفعيل دور الجانب القضائي، حيث عملت الجمعية بالتعاون مع وزارتي الصحة العامة والسكان، والعدل، على إقامة ورشتَي توعية لعدد من الموثقين والأمناء الشرعيين من محافظات أمانة العاصمة، وصنعاء، وذمار، والضالع، والبيضاء؛ لنصح طرفي الزواج بإجراء الفحص المبكر، وذلك استنادًا إلى التعميم الصادر عن وزارة العدل لسنة 2022، بشأن إرشاد وتوعية طرفَي عقد الزواج بأهمية الفحص الطبي.
وبحسب دراسة فقهية مقارنة، عن إجبار الراغبين بالزواج على إجراء الفحص الطبي، أشارت دراسة، للدكتور عبدالمؤمن شجاع الدين، الأستاذ المشارك، رئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون- جامعة صنعاء، إلى أنّ اليمن هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تجبر مواطنيها الراغبين بالزواج على إجراء الفحص الطبي، وخلُصت الدراسة إلى نتائج، أهمّها: القانون اليمني وحده الذي لا يُجبر الراغبين بالزواج على إجراء الفحص الطبي؛ لعدم وضوح هذه المسألة من الناحية الفقهية والطبية بالنسبة للبرلمان اليمني.
فيما تجبر كافة القوانين في دول العربية الأخرى مواطنيها على إجراء الفحص، وبعضها يقرر عقوبات رادعة على من لا يلتزم بذلك، مثل قوانين: الكويت، البحرين، ومصر.
فَرْض الفحص على الراغبين بالزواج، وإبراز الأضرار المترتبة على عدم إجرائه، من الأمور غير المستقرة في أذهان الراغبين بالزواج، وغائبة عن اهتمام المجتمع اليمني عامة، وإلا لكانت هناك جماعات وتيارات وشخصيات تمارس الضغط على متخذي القرار للأخذ بهذه الفكرة، بل لو كانت هذه الفكرة حاضرة في أذهان متخذي القرار ومفهومة، لما رَفَضَها مجلس النواب.
ومن الناحية الشرعية، يعتبر إجبار الراغبين بالزواج على إجراء الفحص من النوازل الطبية المعاصرة التي لم يتناولها الفقهاء المتقدمون، ولكنها كانت محل خلاف بين الفقهاء المتأخرين الذين ذهب غالبيتهم إلى أنه يجوز لولي الأمر أو الدولة أن تجبر رعاياها الراغبين بالزواج على إجراء هذا الفحص، وهذا هو الرأي الراجح؛ لقوة أدلته وسلامتها، وارتباطه الوثيق بصحة الأطفال الذين يمثلون اللبنة الرئيسية للمجتمع، ورهانه المستقبلي.
يبدو مستقبل الطفولة في اليمن مجهولًا في ظلّ جهل مئات الآلاف من حاملي جينات هذه الأمراض بمخاطر الارتباط بشخص مصاب أيضًا، وتزايد أعداد الحالات المسجلة بما يتجاوز 500 حالة سنويًّا في المركز العلاجي بصنعاء، ما يتوجب على الجهات المعنية ضرورة اتخاذ خطوات جادّة، أهمّها إصدار قانون يلزم بالفحص الطبي قبل الزواج؛ لتفادي تضاعف حجم هذه الكارثة خلال العقود القليلة القادمة.