تعيش النساء اليمنيات قصصًا مُرّة من واقعهن المحافظ، كما يتباهى بنفسه دائمًا، في الوقت الذي لا يقبل فيه المجتمع الأصوات المتذمرة، ويعتبر كل محاولة لانتقاده فرصة للتقليل من أصالته، ويرى أنّ هذه القصص غير جديرة بالتوقف عندها أو أخذها على محمل الجد. ولا سيما حين تتحدث النساء عن خيبة الأمل التي يسببها الذكور لهن، بما أنّ التوجه الأبوي هو الطرف المتحكم في السلوك العام.
يغلب في المجتمع اليمني، نمط تولّي الذكور لكل شؤون الأسرة، وإزاحة النساء بصورة تامة عن المشهد الخاص بالعائلة فيما يخص القرارات العائلية، على الرغم من أنّ المرأة شريكة في كل شيء تقريبًا، فعلى سبيل المثال يشاركن النساء القرويات في جلب المياه والحطب والزراعة وتربية الأغنام، إضافة إلى أعمال البيت وتربية الأبناء، وقد تفوق إنجازاتها اليومية الرجل بمراحل، أما المرأة الموظفة فقد تشارك في مصروف المنزل أو تتولى الأمر كله، لكن كل ذلك لا يقنع المجتمع بأهلية المرأة لتسيير أمور حياتها الشخصية ووضعها دائمًا لصيقة ظهور الرجال كيفما كانوا في حياتها، وإن كانوا غير مسؤولين. وهناك صور عديدة تروى على الألسن تبيّن الهوّة الكبيرة بين المسؤولية التي تمنح للرجل وبين قدرته على تحمل المسؤولية على أكمل ما يكون.
واقع الحال
يكلف الذكر وهو في سن صغيرة بمسؤوليات تكبره بكثير، استجابة لمعتقدات المجتمع التي ترى أن رمي المسؤوليات عليهم "تُرجوِلهم"؛ أي تجعل منهم رجالًا، قابلين لتحمل الشدائد. وليس ذلك فحسب، فالمجتمع يربي داخلهم هذه التصرفات التي تجرّدهم من حق المرور بمراحل العمر بتصاعد طبيعي، وتسحب منهم حق الاعتراض أو المكاشفة بأنهم لا يستطيعون التحمل، بل حتى يحرمهم من البكاء.
لذا تظهر صور كثيرة توضح الفجوة بينهم وبين ما تعيشه النساء اللواتي يشتكين من العنف المتمثل بعدم قدرة شركائهن على إدارة شؤون الحياة. ومن أبرز هذه الصور، تلك القصة التي تتكرر دائمًا عند سفر المرأة وضرورة مرافقة الرجل لها، حيث تُعدّ مرافقته للمرأة أمرًا هامًّا بما أنه "محرم" بغض النظر عن قدراته في تسهيل الأمور والحماية، وقد تحرم من الفرصة، سواء كانت علاجية، أو عملًا، أو ترفيهًا، إن لم يأتِ معها.
لكن ما تكشفه بعض النساء عن عدم قدرة المرافقين لهن على التصرف والإقدام على الأمور، وعرقلتهن في حال أرادت المرأة القيام بمساعدة نفسها، وذلك بحجة أنها امرأة في حضرة ذكر سيقوم بما يجب- يضع السؤال الأهم: إلى أيّ مدى يصدق الذكور بأنهم قادرون على كل شيء؟!
يبدو الوضع محبطًا حين يواجه الفرد نفسه ويعترف بالأخطاء التي تدور حوله، حتى تلك التي ليس له ذنب فيها ولم يقترفها؛ تلك الأخطاء التي تكون سلوكًا جمعيًّا لأمة كبيرة يدعمها في الغالب النساء والرجال على حد سواء، يصعب تغييرها أو حتى الحديث عنها، في بلد متمسك بعاداته كاليمن.
تحكي إبتهال لـ"خيوط"، قصة من قصص متشابهة تدور بين النساء عن المواقف التي يظهر فيها الرجال بغاية الإصرار على البقاء في موقع لا يستطيعون عليه، إلا أن الرجوع عنه قد يضعهم في موضع صعب أمام العائلة ويكسر الرجولة داخلهم، تقول: "صادفت أسرة يمنية في مصر، صدمت حين عرفت أنهم لم يتعدوا عتبة الباب منذ وصولهم، أي قبل أسابيع. وعندما سألت عن السبب، برر "المحرم" أنه لا يفهم لهجة البلد، ولا يعرف كيف يتفاهم معهم، في الوقت نفسه، كانت تعاني أخته من آلام في المعدة، ورفض النزول إلى الصيدلية لجلب الدواء لها. وحين قرر أخذها للمستشفى ظلت تمشي وراءه لمسافات طويلة رغم أنها متعبة، ولم يكلف نفسه جلب "تاكسي"، كل ذلك كان نوعًا من التأديب والعقاب؛ لأنها أصرت على زيارة الطبيب. أيضًا هو لا يريد أن يبيّن عجزه أمامها لعدم معرفته المرور بالطريق، ولا سؤال الناس كيف يصل للمستشفى، حتى لا تنكسر صورة البطل الخارق في عينيها، لولا تدخلي أنا ومساعدته حين عرفت بعجزه".
تضيف إبتهال: "هالني الوضع. هذه ليست المرة الأولى التي أشهد فيها حكايات كهذه، بل هي أمر متكرر، لا أعرف لماذا يصر الرجال على أنهم يستطيعون عمل أي شيء بينما في الواقع هم عكس ذلك تمامًا، ويقفون حائلًا بين المرأة ومسؤوليتها تجاه نفسها".
قد نجد هذه السردية تعبر عن إشكالية كبيرة مصاب بها المجتمع اليمني، ولكنه لا يعترف على الإطلاق، خاصة أنه مشحون بمفردات تعزز من تكبير الأنا الذكورية للذكر، دون المساعدة على السعي لتحسين أهم الجوانب الشخصية له، بالتالي يستمر إنتاج أفراد محملين بالأفكار القبَلية والرجولة والقوة والسلاح، كشعارات تمثل خلاصة تكوين شخصياتهم، بينما يفشلون من أول اختبار حقيقي مع الحياة خارج نطاق البيئة التي ينشؤون فيها، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ الفشل قد يكون من داخل تلك البيئة وبأنماط مختلفة.
ثقافة ذكورية
يطفو على اللسان اليمني كثيرٌ من الأمثلة والعبارات التي تعزز من انفصال الطفل عن طبيعته في المراحل الحساسة الأولى، لدرجة أنها تكوّن معتقداته ويستمد منها القوة، كأنها سلاح يحمي بها نفسه عندما يكبر. ولا تفرق هذه الثقافة الذكورية بين أنثى وذكر، لكل واحد منهم سيلٌ من هذه الأمثلة التي تضع الفروقات بينهم، كتلك التي تقال للذكور: "قل أنا رجّال" أو "لا تبكِ؛ أنت رجال"، و"لا تعمل كذا لأنك رجال"، و"أنت رجال البيت".
تقول آلاء عبدالله (اسم مستعار)، لـ"خيوط": "كبرت في عائلة مكونة من أب مغترب وأم وأخ يصغرني بسنوات، منذ أن بدأ أخي يكبر كان كل قرار يخصنا أنا وأمي يصدر بأمر منه؛ لأنه رجل البيت، كما يقول أبي، ومع الأسف حتى أمي كبّرت هذا الشعور داخله، مما جعله يتمادى علينا ويتحكم في كل شيء بما أن كل هذه الامتيازات لديه، على الرغم من أن عمره لا يتجاوز السادسة عشرة".
تواصل آلاء حديثها: "اضطررنا إلى السفر خارج اليمن لعمل فحوصات لأمي، أصرّ أخي على مرافقتنا بحكم أنه محرم، مع أنه لن يفيد بشيء، طوال السفر كان يتشرّط علينا في لبسنا وكيف نتحدث مع الآخرين، ومرات يرفع صوته علينا أمام الناس حتى لا نتكلم".
"أعاق حركتنا، وهو لا يفهم الناس ولا يستطيع التخاطب معهم"؛ كما تقول آلاء، وآخر الأمر تواصل مع أحد أقاربنا الذي يعيش في هذا البلد ليقوم بالمسؤوليات التي كلفها به والدي نيابة عنه، بينما كان يجب أن يعترف بأنه بحاجة إلى المساعدة من بداية الأمر، وذلك يحز في نفسي دائمًا فرغم معرفتي وقدرتي على الاعتماد على نفسي، فإن وجودي وعدمه واحد طالما لست ذكرًا".
الإيمان بالكفاح
يبدو الوضع محبطًا حين يواجه الفرد نفسه ويعترف بالأخطاء التي تدور حوله، حتى تلك التي ليس له ذنب فيها ولم يقترفها؛ تلك الأخطاء التي تكون سلوكًا جمعيًّا لأمة كبيرة يدعمها في الغالب النساء والرجال على حد سواء، يصعب تغييرها أو حتى الحديث عنها، في بلد متمسك بعاداته كاليمن.
غير أنه كان هناك من يؤمن بقضيته ويكافح من أجل النساء اللواتي يعانين من هذا الظلم ويشعرن به، وحتى أولئك اللواتي لا يشعرن به. وقد يكون الجميع -ظالمًا ومظلومًا- مظلومين، خاصة أنّ المظالم تتوارث لجيل تلو آخر تحت مسمى "عادات وتقاليد" تحفظ المجتمع وتصونه، وإن كانت بوسائل غير قابلة للاستخدام، كالمحارم المبللة.