منذ عقود لم يكن المناخ في اليمن بكل هذا السخط وهذه القسوة التي ظهر عليها خلال الأيام القليلة المنصرمة. رياح شديدة، أمطار غزيرة، وسيول جارفة كأنها القيامة، تجتث كل شيء في طريقها، لتضيف مأساة إضافية إلى مجموع مآسي اليمنيين الذين أجهزت عليهم الحرب والصراعات الدائرة منذ عقد. ورغم التحذيرات مما قد يفعله التطرف المناخي ببلد هش بلا خدمات، ولا بنية تحتية، ظلت الأطراف اليمنية الفاعلة والمسيطرة على الأرض تدير رحى الصراع العسكري والسياسي والاقتصادي، ترك موضوع التغيرات المناخية خارج اهتمام المتصارعين، وتحت رحمة أصعب الاحتمالات وجد الناجون من الحرب أنفسهم تحت رحمة التغير المناخي، الذي إن غضب فإنه لا يبقي ولا يذر.
محافظة غنية/ فقيرة
في صباح يوم الإثنين الخامس من أغسطس/آب الجاري أفاق الأهالي في قرى دير الزين والنجاري التابعتين لمديرية القناوص شمال محافظة الحديدة على مشهد مفزع لجثة شخص مجهول يغمره الطين والتراب. وبعد عملية انتشاله تم التعرف على هويته، ويدعى عبد الله جيلان، من قرية الجيلانية، حملته مياه وادي تباب القادم من جبل ملحان ومن جبل الظاهر التابع لمديرية الخبت بمحافظة المحويت، وهو وادٍ معروف بأنه يمر بمديرية القناوص وصولا إلى منطقة ابن عباس المطلة على البحر الأحمر غربي اليمن.
لم تكن هذه السيول الهادرة شمال الحديدة المحافظة الغنية بمواردها، المفقرة على أرض الواقع، سوى إيذان بوقوع كارثة طبيعية طالت هذه المرة مناطق كثيرة في معظم مديريات المحافظة. فعند السادسة من مساء الثلاثاء، السادس من أغسطس/آب، كانت هذه المديريات على موعد مع ليلة عصيبة من الأمطار والسيول والصواعق الرعدية غير المسبوقة منذ حوالي أربعة عقود. فقد استيقظ الناس في اليوم التالي على دمار واسع خلفته السيول، من مديرية الزهرة شمالا وحتى مديرية حيس جنوبا وصولا إلى مديرية باجل شرقا، وحتى المديريات الثلاث في مركز المحافظة هي الأخرى أغرقتها الأمطار والسيول وخلفت أضرارا مادية كبيرة.
كانت المديريات الجنوبية الأكثر تضررا، ففي قرية القحمة ببلاد الرقود التابعة لمديرية زبيد تم توثيق وفاة فتاتين من أسرة آل العجمي. وفي قرية القرشية السفلى التابعة لمديرية زبيد أيضا عثر الأهالي على جثمان طفل جرفته سيول وادي عجي، وفي مديرية الدريهمي عثر الأهالي على جثامين طفلين في منطقة النخل، وفي حيس جرفت السيول الشاب عبده المسعودي بعد أن حاول إنقاذ طفلين ما أدى لوفاة الجميع، وفي الزهرة القريبة من القناوص شمالا توفي شاب مع زوجته نتيجة تهدم المنزل عليهم جراء الأمطار الغزيرة.
في صباح اليوم التالي السادس من أغسطس/آب وبعد ساعات من العاصفة خيمت أخبار الضحايا والمفقودين على المشهد في الحديدة، فيما تضاربت الأرقام الرسمية حول أعداد الضحايا. فقد أكدت جمعية الهلال الأحمر اليمني وفاة 45 شخصا لقوا مصرعهم، فيما لا يزال 12 آخرون في عداد المفقودين، نتيجة الأمطار الغزيرة والسيول الشديدة التي شهدتها محافظات الحديدة وحجة وتعز وعمران وصعدة وذمار وصنعاء.
أفاق الناجون من السيول على خسائر مادية مهولة لم تكن متوقعة ولم يعشها السكان من قبل. وبحسب الهلال الأحمر اليمني فقد تضرر من السيول نحو 93 ألفا و440 شخصا، وتسببت السيول والأمطار في نزوح 3 آلاف و640 شخصا.
خسائر وتداعيات صحية
الخسائر المادية في قطاع الزراعة والثروة الحيوانية كانت كبيرة جدا. فقد دمرت السيول الجارفة عشرات المزارع وأدت لنفوق مئات المواشي التي يعتمد عليها السكان لتوفير قوتهم، خصوصا في مديريات الدريهمي والمنصورية والحسينية وزبيد الواقعة جنوب الحديدة.
أفاق الناجون من السيول على خسائر مادية مهولة لم تكن متوقعة ولم يعشها السكان من قبل. وبحسب الهلال الأحمر اليمني فقد تضرر من السيول نحو 93 ألفا و440 شخصا، وتسببت السيول والأمطار في نزوح 3 آلاف و640 شخصا.
إلى الشرق من الحديدة وفي إحدى قرى مديرية المراوعة يقف أحمد عمر على ما تبقى من أنقاض منزله، ويروي تفاصيل ليلة عاصفة، طويلة لم يعهدها من قبل، ويؤكد عمر في حديث لخيوط أن السيول دمرت أجزاء واسعة من منزله ومنازل إخوته.
وفي مديرية حيس أقصى جنوب الحديدة، يعاين الحاج مرشد انهيار سقف إحدى غرف منزله الواقع في وادي نخلة. يقول مرشد لخيوط إن لديه ثلاث غرف أسقفها من الطين انهارت وتضررت بشكل بالغ، ودخلت مياه الأمطار والسيول إلى داخل الغرف وأتلفت ما لديه من طعام وألبسة وأفرشة.
هذه الخسائر لم تكن الأولى هذه السنة. فقد أكد تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في اليمن في فبراير/ شباط 2024 أن تغير المناخ وجه ضربة مزدوجة للزراعة في الحديدة، حيث اجتاحت الفيضانات والسيول الشديدة الأراضي الزراعية، وأحرقت موجات الحر المحاصيل، وبالذات في مديريتي السخنة والمنصورية، ما أدى إلى تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي السيئة بالفعل في المنطقة.
وكان لهذه السيول أضرار مباشرة على القطاع الصحي . فإن المياه قد غمرت بعض المستشفيات والمراكز الصحية الريفية في عدد من مديريات الحديدة، ولحقت أضرار جسيمة بالمعدات والأدوية، علاوة على وجود مخاطر صحية جراء المستنقعات التي خلفتها الأمطار، خصوصا في أحياء مدينة الحديدة، ما ينذر بانتشار البعوض والحشرات الناقلة للأمراض، وهو ما حذر منه تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في أغسطس/آب 2024. أشار التقرير إلى أن المياه الملوثة وخدمات الصرف الصحي المتدهورة زادت من خطر الإصابة بالأمراض المنقولة عن طريق المياه الراكدة التي خلفتها الفيضانات، ما يخلق بيئة خصبة لتكاثر البعوض، ويثير مخاوف بشأن احتمال تفشي الأمراض التي تنقلها الحشرات مثل الملاريا وحمى الضنك.
كل هذه المخاطر الصحية تستدعي تدخل الجهات المعنية بشكل عاجل للبدء بعمليات رش ومكافحة الحشرات وتجفيف هذه المستنقعات التي هي خليط بين مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي، ووضع إجراءات عاجلة لتلبية الاحتياجات الإنسانية الطارئة ومعالجة المترتبات طويلة الأجل لتغير المناخ في البلاد.
بالإضافة إلى الخسائر البشرية والمادية للسيول التي ضربت الحديدة، فإن هناك مخاطر جديدة مرتبطة بحالة الحرب والصراع التي تعيشها البلاد من سنوات وأفرزتها هذه السيول. فقد تم رصد عشرات الألغام التي جرفتها السيول إلى منطقة وادي نخلة في مديرية حيس جنوب الحديدة، وهو الحال ذاته في القرى والمديريات التهامية التابعة لمحافظة حجة أقصى الشمال الغربي لليمن.
المناطق التهامية تفتقر إلى السدود والمصدات الخرسانية اللازمة للتحكم بمسار سيول الأمطار وفيضانات الأودية المنحدرة من الجبال الشرقية المطلة عليها من المحافظات المحاذية لها، وأكبرها وادي مور الذي يسمى ميزاب اليمن الغربي لغزارة سيوله الموسمية.
محافظة غنية بلا بنية
وعلى الرغم من كون محافظة الحديدة إحدى أهم المحافظات اليمنية التي ترفد خزينة الدولة، فإن موقعها الجغرافي يضعها في مصب السيول القادمة من المرتفعات الجبلية، السيول التي أظهرت هشاشة البنية التحتية، وفشل السلطات المحلية، وغياب أي خطة أو تصور أو معدات للتعامل مع مثل هذه الظواهر والكوارث الطبيعية، كما أن ضعف التواصل والإنذار المبكر للمواطنين يفاقم الخسائر في ظل عدم اتخاذ أي إجراءات احترازية أو وقائية لتخفيف الأضرار.
وهنا يؤكد الصحفي والناشط الحقوقي وديع عطا أن المناطق التهامية التابعة لمحافظتي الحديدة وحجة تفتقر إلى السدود والمصدات الخرسانية اللازمة للتحكم بمسار سيول الأمطار وفيضانات الأودية، المنحدرة من كل الجبال الشرقية المطلة عليها من المحافظات المحاذية لتهامة، وأكبرها وادي مور الذي يسمى ميزاب اليمن الغربي لغزارة سيوله الموسمية.
عطا يضيف في حديث لخيوط أن المفارقة المؤلمة هي أن سكان سهول تهامة يعانون في كل موسم من كوارث سيول الأمطار، بينما لو تم تخصيص نسبة من موارد الحديدة لبنيتها التحتية لما كانت بحاجة لحملات المناشدة لإنقاذ ضحاياها. وتساءل عطا كيف تكون الحديدة فقيرة وفيها ثلاثة موانئ وشريط ساحلي يمتد على نحو 300 كلم، وثروة زراعية متنوعة تصدر منتجاتها إلى مختلف الأسواق اليمنية والدول المجاورة؟
ورغم حالة الانقسام في السيطرة على مديريات الحديدة بين جماعة أنصار الله "الحوثيين" والحكومة المعترف بها دوليا، فإن الفشل وغياب فرق الدفاع المدني كان عامل فشل وتهاون واستخفاف مشتركا، فبعد ساعات طويلة من هطول الأمطار وتدفق السيول، بدأت السلطات المحلية بفتح الطرقات الرئيسية بين المديريات والإعلان عن تشكيل فرق طوارئ لمعالجة الأضرار، ووصلت بعض المساعدات المحدودة المقدمة من منظمات وجمعيات محلية.
مواجهة التغير المناخي
ورغم الوضع الكارثي على الأرض الذي كان لمحافظة الحديدة النصيب الأكبر فيه، والمحاولات التي أظهرتها بعض الجهات المعنية وفي مقدمتها مطالبة رئيس مجلس القيادة الرئاسي التابع للحكومة المعترف بها دوليا خلال لقائه سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتدخلات دولية لإسناد جهود الحكومة في مساعدة المتضررين وإصلاح الخدمات المدمرة في أربع محافظات هي الحديدة وتعز وحجة ومأرب، فإن أي محاولات لمعالجة الأضرار في هذه المحافظات تصطدم بحالة الانقسام والسيطرة العسكرية بين الأطراف المتصارعة على الأرض.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كان تنبأ في نوفمبر/ تشرين ثاني من العام 2023 أن يكون تغير المناخ سببا في أكثر من 121000 حالة وفاة في اليمن بحلول العام 2060، كما توقع تقرير صادر عن البرنامج الأممي أن يفقد اليمن 93 مليار دولار تراكميا في الناتج المحلي الإجمالي وأن يعاني 3.8 مليون شخص إضافي من سوء التغذية في اليمن إذا لم يتم اتخاذ إجراءات مناخية لبناء القدرة على الصمود، ولم تكن هذه التحذيرات الأولى فهناك عدة تقارير صادرة عن البنك الدولي منذ العام 2012 تحذر من تغيرات المناخ على اليمن.
وفي ظل هذا الواقع المناخي المعقد تبدو اليمن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إنهاء حالة الحرب والصراع الذي أدى لتدمير البنية التحتية ووضع استراتيجية وطنية شاملة، وبناء قدرات المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني، والاستثمار في البحث العلمي، وتعزيز التعاون مع المنظمات الدولية والمانحين للحصول على الدعم المالي والتقني، لمواجهة التغيرات المناخية والتكيف معه.