يقع الكتاب المتوسط الحجم في 331 صفحة، يتراوح الحرف ما بين 14 و16 بنط، ويبدأ بمقدمة لابنتي علي عقيل: الدكتورة عزة، والدكتورة ليلى، تشيران فيها إلى أنهما عند قراءة الكتاب تبدت لهما صورة والدهما جلية رغم بعد السنين. وتضيفان: عانى الفقر والعوز يتيمًا، في حين أن حديثه عن زمن طفولته معهما كانت تتسم بالمرح والسعادة، مشيدتان بأمهما الأمية، لكنها المرحة والتي قدمت لهما عزة النفس والعزيمة والطموح وحب المعرفة. تتحدثان عن خروج أبيهما من قرية "المسيلة" حاملًا طموحات لا تحصى. تسترجعان حياة أبيهما في القرية الصغيرة طفلًا يتردد على المدرسة بقليل من التمر واللخم. تؤكدان أن بذرة القومية العربية والفكر التقدمي الطليعي استقاه أبوهما صغيرًا في "مسيلة آل الشيخ" التي كانت على صغرها ملتقى لمثقفين ولأناس طافوا العالم، وكانوا دعاة إصلاح ونقد لمجتمع حضرموت، مشيرتين إلى ابن عمته محمد بن هاشم ابن طاهر- أحد رواد التنوير في حضرموت، بل وأحد مؤسسي صحافة المهاجر الحضرمية [القارئ].
تشيران أيضًا إلى ابتعاده عن التقليد، وميله الدائم للأفضل. تميز تفكيره بالعقلانية والاعتدال والعمق والتسامح والنزاهة. كما تشيران إلى تأسيس مجلة "الحلبة" التي أسسها مع صديقه موسى الكاظم بخط اليد، والتي كانت تناقش قضايا تعليم الفتاة، ودور المرأة في حضرموت، وقضايا المجتمع الحضرمي برمته.
عزة وليلى تحكيان قصة والدهما في قمة القيادة البعثية الحاكمة في سوريا؛ فقد كان المسؤول الأول عن الإعلام والسياسات الإعلامية وفكر البعث وتوجهاته الفكرية والعقدية، ثم هو الأكثر حرصًا ألا يبرز في الواجهة، ولا يذاع اسمه أو ينشر عنه. وفعلًا كان الرجل شديد التواضع مع ميل شديد لعدم الظهور؛ فهو إنسان عظيم يبكي عندما يشاهد مسرحية "كأسك يا وطن". يرى المفارقة بين ما يدعو إليه، وبين ما وصلت إليه الحالة. لم يكن يتباهى بأنه عضو قيادة قومية في سوريا، ولم يكن يريد أن يبهر الجيران أو حتى أسرته أنه مسؤول قيادي، وأن قضايا الفكر والنشر والإعلام مرتبطة به، فلم يكن به مرض الشهرة أو الظهور، وكان -كشهادة ابنتيه ومعارفه، وأنا منهم، ومذكراته- واحدًا من الناس البسطاء العاديين.
كان، وهو المسؤول الكبير في القيادة، يتصرف كطالب، ويُلزم بنيتيه في المدرسة بأن تظهرا كابنتين لطالب يمني، علّم أولاده وفتح أعينهم على الأدب العالمي وروائع الأدب الروسي. في الحركة التصحيحية في سوريا كان مطلوبًا، ونجا بأعجوبة؛ فقد فر إلى بيروت ومنها إلى مصر ثم إلى اليمن.
له دور عظيم إلى جانب العلامة عبدالله محيرز، في تأسيس المركز اليمني للثقافة والآثار والمتاحف. عمل على إصدار مجلة "التراث" التابعة للمركز، كما عمل على تجميع المخطوطات، وتأسيس مكتبة المكروفيلم، وكان له الفضل في نيل حب وثقة أهله في حضرموت، وهو جدير بها؛ ما مكنه من تأسيس مكتبة الأحقاف، وهي مفخرة من مفاخر حضرموت، بلد التراث الحضاري والإنساني، بل واليمن والأمة كلها.
الكتاب، وإن احتوى على سيرة العالم الجليل والمناضل الفذ المتعدد القدرات والمواهب، والنبذة اليسيرة من مذكراته التي دونها، وهي غير مكتملة، إلا أنه أيضًا دراسة عميقة لجوانب عديدة من أدب كتابة المذكرات وقضايا الحياة الأدبية والثقافية والسياسية لليمن الحديث ولحضرموت خصوصًا. الأهم هو التوثيق للتعليم التقليدي في القرى الحضرمية في النصف الأول من القرن الماضي؛ وهي الكتاتيب السائدة في اليمن كلها، وهي التي حفظت لنا لغتنا العربية، والقيم والتقاليد الإسلامية، وهويتنا الحضارية.
يشيد الباحث باندماج علي عقيل في بيئته التي يغيب عنها التمييز السلبي، والتي تمثل الأنموذج الأرقى للقرية الحضرمية. يتناول دورها الواصل إلى الدولة العثمانية، ومصر محمد علي باشا وإلى الهند
يؤرخ الباحث الدكتور صالح أبوبكر ابن الشيخ أبوبكر، لنشأة رفيقه وأستاذه علي عقيل، ونزرًا من حياة والده وأمه الفاضلة وأسرته الصغيرة، حسبما دونته مذكراته، ومراحل تعلمه، وشغفه بالقراءة، وبالأخص الأدبية، وحفظه نهج البلاغة وألفية ابن مالك في سن مبكرة، وقراءة مقامات الحريري على وعورة لغتها، ومطالعاته في العقد الفريد- كلها شواهد التفوق المبكر والنبوغ؛ ما مكنه من التدريس في جمعية "الأخوة والمعاونة" والتي تعد من أهم الجمعيات الإصلاحية والتنويرية، بل لقد طُلب منه أن يكون نائبًا لرئيسها. (ص54 و55).
يدرس الباحث الأكاديمي البيئة الاجتماعية (قرية المسيلة)- قرية الطالب النابه علي عقيل، وهي الحوطة الصغيرة جغرافيًّا وسكانها لا يتعدون المئتي نسمة، ولكنها الكبيرة وزنًا وتأثيرًا وعلمًا ومكانة.
يشيد الباحث باندماج علي عقيل في بيئته التي يغيب عنها التمييز السلبي، والتي تمثل الأنموذج الأرقى للقرية الحضرمية. يتناول دورها الواصل إلى الدولة العثمانية، ومصر محمد علي باشا وإلى الهند، ودورها في الصحافة وإنجاب رجال الصحافة الأوائل. والواقع أن حضرموت سباقة في دعوات الإصلاح والتجديد والحداثة والتنوير، ولكن ريادتها لم تُنصَف ولم تُدرس كما ينبغي.
يتناول المكانة العلمية للمسيلة الحوطة الصغيرة، ومكتبة آل يحيى؛ وهي إحدى أهم مكونات مكتبة الأحقاف وتأسيسها على يد علي عقيل، كما يتناول مدرسة آل يحيى العلمية والتي كان لها الأثر العميق والكبير على الطالب المجد والمجتهد علي عقيل، وعلى جيل بكامله وعلى حضرموت كلها، ومن ثمارها الطيبة أربعاء العلامة حسين بن عبدالله الحبشي؛ فالبيئة الأسرية والتربوية وإرادة الطالب الدؤوب والمثابر، تؤهله للمواصلة.
يسرد الدكتور صالح مفردات تعلم وتعليم علي عقيل، آتيًا على كل مفردات الروافد والمصادر، بما فيها التربية الأسرية والمكتبات وحلقات الدرس ومناقشات العلماء وحتى "الروحة"؛ وهي مجلس بعد العصر تُقرأ فيه كتب معينة. فطفولة علي عقيل ومراهقته وشبابه كلها تعلّم وتعليم. والعلم -كما يقال- "إن لم تعطه كلك لا يعطك بعضه".
يكرس الباحث الفصل الرابع لتفتح علي عقيل على مشاكل مجتمعه المحلي، ويحدد ثلاثة مصادر تلقى منها الوعي بقضايا عصره السياسية: الأستاذ حمزة العيدروس، والمنصب أحمد بن حسين العيدروس، والمقدم عيضة بن شيبان التميمي. ويتناول الباحث صفات وميزات كل واحد من هؤلاء؛ فحمزة مثقف موسوعي تشرّب تجارب خارجية، وعرف أنماطًا من التفكير الجديد، وتعايش مع شعوب مختلفة، واحتكّ بالاستعمار الأوروبي وحركات التحرر في جنوب شرقي آسيا. ويمثل المنصب أحمد بن حسين التفكير الحكمي الملم بالعلاقات الاجتماعية، وكيفية معالجتها، والحفاظ على السلم الاجتماعي. أما عايض ابن شيبان التميمي فنمط التفكير القبلي الشعبي؛ وهو قيادي في الحركة الإرشادية، ويتبنّى روح التعاون والتوادّ، عكس ما عاشه في المهجر حيث أصدر صحيفة في أندنوسيا.
يدون الأستاذ في مذكراته حوارات وقضايا تلكم الفترة: الخوف من التبشير، والحذر الشديد من السياسة البريطانية، والفتن والصراعات المحلية، وصلح إنجرامز أو هدنته التي تحولت إلى أمر واقع، وكان الهمّ الأكبر الحفاظَ على العقيدة، والتعليم الديني، وعدم الإخلال بعادات وتقاليد الحُوَط (القرى). ويتوزع التفكير بين الانغماس في المحلية، وبين الانفتاح برؤية أوسع وأشمل لإصلاح أوضاع حضرموت واليمن والوطن العربي. وكان الأستاذ علي عقيل في طليعة هذا التفكير.
ويرى الدكتور صالح أن مشاركة علي عقيل زملاء له في إصدار "الحلبة" اليدوية، يصب في اتجاه نقد الأوضاع في حضرموت كما يراها الأستاذ محمد ابن هاشم؛ وهو مثقف إصلاحي واسع الاطلاع.
يوجه الباحث نقدًا مرًّا للنخب السياسية المتخشبة والتي لا تدرك أهمية التنوع والتعدد وحق الاختلاف، وإهدار الزمن في خلافات لا تعني الكثير
البداية الحضرمية، وسيرته الطويلة الحافلة قادته إلى دمشق متربعًا عضوية القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي؛ وذلك أعلى منصب سياسي وتنظيمي يمكن للمرء أن يتبوأه في القرن العشرين، كقراءة الدكتور صالح أبوبكر، ومعه الحق.
كانت ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين الماضي، بداية الأزمات مع بريطانيا، وبدءًا للنشاط في حضرموت؛ فقد تأسست جمعية "الأخوة والمعاونة" بمنهج اجتماعي لنشر التعليم، فأسست مدارس مجانية للبنات والبنين، وأنشأت مدارس لمحاربة الأمية وتعليم الكبار، وأرسلت بعثات إلى العراق وسوريا، وأشرفت على المدارس الأهلية، وأسست المنظمات الأدبية والرياضة للشباب؛ وهي فترة نضج الفتى علي عقيل، كتحقيب رفيقه صالح أبوبكر؛ فقد وقف إلى جانب الفلاحين ودافع عنهم، وسَنى معهم، وحملت أمه السلاح، واعتُقل لعدة أيام، وتدرب في مدرسة عسكرية، ثم اختفى خوفًا من الاعتقال، وأصدر مع رفيقه موسى الكاظم مجلة "الحلبة".
درس في العام 1946، بمدرسة "الأخوة والمعاونة"، وفي العام نفسه عاد شيخان الحبشي من بغداد بعد دراسة الحقوق، وتشرّب مبادئ الفكر القومي، فقرّب إليه الشباب، ومنهم موسى الكاظم وعلي عقيل، ويدلل الباحث بما كتبه الأستاذ المؤرخ علي محمد عبده في كتيب بعنوان "التيارات الفكرية في الساحة اليمنية".
بدأ شيخان وعلي عقيل نشاطهم الحزبي بتريم حضرموت، وساهما في تكوين أول لجنة تحضيرية للعمل من أجل وحدة حضرموت، ونشرا بيانًا في "صوت اليمن". ويوجه الباحث نقدًا مرًّا للنخب السياسية المتخشبة والتي لا تدرك أهمية التنوع والتعدد وحق الاختلاف، وإهدار الزمن في خلافات لا تعني الكثير، ويخص بالنقد الحركة القومية: البعث، وحركة القوميين العرب، والناصريين، ويشيد، ومعه كل الحق، بالقادة المؤسسين شيخان الحبشي، والنعمان، والزبيري، وعلي عقيل، والواقع أن القفز وتجاهل البدايات الريادية في حضرموت في الحياة السياسية والأدبية والثقافية وحتى في الشعر، كعب أخيل في الرؤية الوطنية برمتها.