في رحلة تستغرق 8 ساعات، يضطر محمد يحيى (30 سنة)، إلى السفر من مديرية الحوبان عبر طُرق جبلية ضيقةٍ وعرة للوصول إلى مركز الأمل لعلاج الأورام في مدينة تعز غرب اليمن، لتلقي الجرعات الشهرية لمرض السرطان في المركز منذ ثلاث سنوات، في ظل الحصار المُطبق على المدينة الذي تفرضه جماعة أنصار الله (الحوثيين) "المدعومة من إيران"، بعد خروجها من المدينة إثر معارك عنيفة خاضتها مع القوات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا أواخر عام 2015.
بوجه شاحب يبدو عليه آثار التعب والإرهاق، يقول محمد: "منذ ثلاث سنوات كنت أعاني من ألم شديد في الرأس، وبعد الكشف الطبي اتضح إصابتي بسرطان الدماغ، ومنذ ذلك الحين وأنا أسافر شهريًّا من منزلي في مديرية الحوبان إلى مدينة تعز، حيث يتواجد فيها المركز الوحيد لعلاج الأورام السرطانية بالمحافظة، وبالرغم من أن المركز يبعد عن منزلي حوالي 15 دقيقة، إلا أنني أضطر للسفر 8 ساعات ذهابًا و8 ساعات أخرى للعودة إلى المنزل، كل هذا بسبب إغلاق الطريق الرئيسية بين مديرية الحوبان ومدينة تعز"، وهذا ما رفع تكاليف السفر والتنقل، حيث يذكر محمد أن السفر من وإلى المدينة يكلفه شهريًّا أكثر من 30 ألف ريال يمني؛ أي ما يقارب 50 دولارًا.
بسبب الحرب الدائرة في اليمن منذ نحو سبع سنوات، أغلقت جماعة أنصار الله (الحوثيين) كل الطرق التي تربط مدينة تعز بالمحافظات والمناطق المجاورة، الأمر الذي فاقم من معاناة سكان المدينة الأكثر ازدحامًا بالسكان، وجعل نحو 3 ملايين شخص تحت الحصار المُتعمد.
لكسر الحصار استحدث المواطنون طرقًا بديلة، لكنها ضيقة ووعرة، والسير فيها يتطلب سيارات دفع رباعي للوصول إلى المدينة، في حين تستغرق هذه الرحلة في هذه الطرقات البديلة أكثر من 8 ساعات، كل ذلك بعد أن كان القادم من المحافظات الشمالية يصل إلى المدينة في غضون 15 دقيقة قبل أن تُغلق جماعة أنصار الله (الحوثيين) الطريق الرئيسي الذي يربط المدينة بمنطقة الحوبان شرق محافظة تعز.
لا تقتصر معاناة سكان مدينة تعز جراء الحصار على المرضى والحالات الإنسانية، بل تمتد إلى جميع الجوانب المعيشية، حيث يشكو المواطنين داخل مدينة تعز من ارتفاع الأسعار بشكل كبير، حيث تصل أسعار السلع والمواد الغذائية داخل متاجر المدينة إلى ما يقارب الضعف مقارنة بالمحافظات الأخرى.
في الثاني من أبريل/ نيسان 2022، أعلن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبيرغ هدنة لمدة شهرين، تتضمن وقف إطلاق النار، وتنص على إطلاق سراح جميع الأسرى من الطرفين (الحكومة المعترف بها دوليًّا المدعومة من السعودية، وأنصار الله (الحوثيين) المدعومِين من إيران)، بالإضافة إلى عودة تشغيل مطار صنعاء الدولي أمام الرحلات الجوية المدنية، وميناء الحديدة أمام سفن النفط، بالإضافة إلى فتح الطرق البرية بين المحافظات، وخصوصًا الطرق الرئيسية التي تؤدي إلى مدينة تعز.
حينها لاقى إعلان الهدنة تفاؤلًا واسعًا بين المواطنين في اليمن وترحيبًا كبيرًا من المجتمع الدولي، حيث رحبت كل البعثات الدبلوماسية في اليمن بهذا الإعلان، وفي اليوم ذاته أصدر ممثل بعثة الاتحاد الأوروبي إلى اليمن جوزيب بوريل بيانًا رسميًّا عن ترحيب الاتحاد الأوروبي بقبول جميع أطراف الصراع لاتفاق الهدنة، داعيًا إلى ضرورة احترامها، ومواصلة التواصل مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة من أجل وقف دائم لإطلاق النار، ومعالجة التدابير الاقتصادية والإنسانية العاجلة واستئناف العملية السياسية.
ولكن وبعد مرور أكثر من شهر على هذه الهدنة، لم تُنفَّذ أيٌّ من البنود التي تضمنتها، سوى وقف الضربات الجوية للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، وفتح ميناء الحُديدة أمام سفن المشتقات النفطية، ومؤخرًا وصول رحلات مدنية إلى مطار صنعاء الدولي، بينما استمرت الاشتباكات المسلحة في جبهات القتال بين الحين والآخر، بالإضافة إلى استمرار إغلاق الطرق البرية بين المحافظات، ولا تزال تعز محاصرة حتى هذه اللحظة.
مبادرات سابقة لرفع الحصار
الجدير بالذكر أنه منذ أواخر 2015، أعلنت عن أكثر من 12 مبادرة اجتماعية لرفع الحصار عن مدينة تعز، وفتح ممرات أمام المرضى والحالات الإنسانية، كان بعضها بإشراف ورعاية أممية، لكن كل تلك المبادرات لم تنجح لأسباب غير معروفة.
ترى ألفت الدبعي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة تعز، أن أسباب فشل مبادرات فتح طرق إنسانية في تعز، يعود إلى أن جماعة الحوثي تنظر إلى ملف حصار تعز كملف سياسي وليس كملف إنساني، وتقول: "تفضل جماعة الحوثي تأجيل هذا الملف للمفاوضات الشاملة من أجل المقايضة به، وهي النظرة التي دائمًا ما تُفشِل عملية الذهاب إلى المفاوضات وإحلال السلام في اليمن".
وتضيف الدبعي، أن "المناخ السياسي سابقًا كان مشحونًا بشكل كبير ويتغذى على الصراع الإقليمي، وبالتالي كثيرًا ما تم استخدام تعز كورقة حرب لكلا الطرفين، واستخدمت كورقة مساومة أثناء مفاوضات السلام حيث كان يصر الحوثيون على أن فك حصار تعز لن يكون إلا مقابل فتح مطار صنعاء، وفي الوقت نفسه كان التحالف والحكومة الشرعية يستغلان تدهور الوضع الإنساني بسبب الحصار الذي يفرضه الحوثيون لتظهر انتهاكات الحوثيين لحقوق الإنسان، وذلك عوضًا عن إيجاد حل حقيقي للأزمة، وهذا يجعل جميع أطراف الصراع مشاركين في معاناة المواطنين داخل مدينة تعز".
في السياق، يشير الناشط والحقوقي محمد الوتيري، إلى أن جميع المبادرات منذ عام 2016 ، والتي تهدف إلى فك الحصار عن مدينة تعز وفتح ممرات إنسانية للمواطنين، كانت تلاقي ترحيبًا من جميع أطراف الصراع أثناء التفاوض، إلا أنه في وقت التنفيذ على أرض الواقع يتنصل الجميع من مسؤولياته، وهذا يعني أن أطراف الصراع ليس لديها النية الصادقة فيما يخص فتح الطرقات وفك الحصار عن المدينة، ويضيف الوتيري: "بالرغم من أن هذه المبادرات لم تخرج بنتيجة ولم تستطع أن تفك الحصار عن المدينة، إلا أنها نجحت في لفت نظر العالم وتسليط الضوء على هذه القضية".
معاناة المُحاصَرين تتفاقم
تتفاقم معاناة المرضى والمواطنين داخل محافظة تعز، نتيجة إغلاق الطرقات الرئيسية حيث تموت بعض الحالات الإنسانية والمرضى في الطريق جراء تأخر وصولهم للمستشفيات في الوقت المناسب، بسبب وعورة الطرقات، يقول الدكتور مختار المخلافي، مدير عام مؤسسة مكافحة السرطان في تعز، إن "معظم المرضى والحالات الإنسانية القادمة للعلاج في مدينة تعز، تنتكس حالتهم الصحية للأسوأ، وذلك بسبب تأخرهم عن مواعيد الخطط العلاجية، نتيجة الحصار وصعوبة السفر، والبعض لا يستطيع مواصلة العلاج؛ وذلك بسبب ارتفاع أجور المواصلات من وإلى خارج المدينة المحاصرة، وهذا يؤثر سلبًا على حياة المرضى والحالات الإنسانية".
لا تقتصر معاناة سكان مدينة تعز جراء الحصار على المرضى والحالات الإنسانية، بل تمتد إلى جميع الجوانب المعيشية، حيث يشكو المواطنين داخل مدينة تعز من ارتفاع الأسعار بشكل كبير، حيث تصل أسعار السلع والمواد الغذائية داخل متاجر المدينة إلى ما يقارب الضعف مقارنة بالمحافظات الأخرى، ويرجع ذلك إلى ارتفاع تكلفة نقل البضائع إلى مدينة تعز، بسبب الحصار وإغلاق الطرقات، وهذا يعود، بحسب جلال سعيد، الذي يمتلك إحدى شاحنات النقل في محافظة تعز، إلى أن "ارتفاع سعر النقل بكل تأكيد يؤثر على ارتفاع سعر السلع الذي يدفعه المواطن، نحن نواجه الكثير من الصعوبات في إدخال السلع والمواد الغذائية إلى المدينة، بدءًا بدفع الجبايات التي تفرضها النقاط العسكرية التابعة لأطراف الصراع المتمركزة على الطرقات، إضافة إلى توقيف شاحنات النقل لأيام بحجة التفتيش، ووصولًا إلى بُعد ووعورة الطرقات البديلة المؤدية إلى مدينة تعز، والتي دائمًا ما تحصل فيها حوادث انقلاب شاحنات ووسائل نقل البضائع، بسبب ضيق الطرقات التي لا تصلح أبدًا لمرور وسائل النقل الكبيرة".
عقاب جماعي
يعتبر أسامة الفقيه، مدير وحدة الإعلام والمناصرة في منظمة مواطنة، إغلاقَ الحوثيين للمنافذ الشرقية لمدينة تعز، عقابًا جماعيًّا للمدنيين، إذ يعرقل حركتهم وحركة دخول المواد الغذائية والطبية والسلع الرئيسية، ويضيف الفقيه: "لا يزال المدنيون يعانون من إغلاق المنافذ منذ أن بدأت الاشتباكات في المدينة في 2015، وقد وثّقت منظمة مواطنة لحقوق الإنسان في عدة تقارير وبيانات كيف ازدادت معاناة المدنيين جراء هذه الإجراءات التعسفية".
يقول ياسر المليكي، الخبير في القانون الدولي الإنساني: "إن الحصار المفروض على مدينة تعز منذ سبع سنوات يشكل عقابًا جماعيًّا للسكان وفقًا لما يراه القانون الدولي الإنساني، فهو يخالف مبدأ شخصية العقوبة، والمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر العقاب الجماعي وجميع تدابير التهديد أو الإرهاب للأشخاص المحميين أي المدنيين غير المشاركين في الأعمال القتالية، فيما يعتبر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف في المادة 75 العقاب الجماعي فعلًا محظورًا في أي وقت وأي مكان".
ويضيف المليكي: "الواقع أن جماعة الحوثي تغلق كافة منافذ المدينة وتمنع إدخال المواد الحيوية والإمدادات، التي لا تصل إلى المدينة إلا عبر طرق فرعية ووعرة بتكاليف باهظة"، ويرى المليكي أن جماعة الحوثي تسعى من خلال الحصار إلى عقاب السكان والمدنيين داخل المدينة، وهذا ما يفسر استمرار الحصار وإفشال كل محاولات الحوار من أجل فتح الطرقات المؤدية إلى المدينة أمام المدنيين.
مشيرًا إلى أن حصار مدينة يسكنها أكثر من 3 ملايين شخص، جريمة حرب ضد الإنسانية، باعتباره عملًا ممنهجًا يعمد إلى تجويع المدنيين في تعز، وحرمانهم من المواد الغذائية الأساسية التي لا غنى عنها للبقاء.
ويشهد اليمن حربًا ومعارك عنيفة منذ حوالي ٨ سنوات بعد انقلاب جماعة أنصار الله (الحوثيين) على مؤسسات الدولة في صنعاء، وسيطرتها على السلطة السياسية والعسكرية في البلاد، حينها أعلنت المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج والدول العربية إنشاء تحالف عسكري عربي لإعادة الحكومة المعترف بها دوليًّا في اليمن، والقضاء على "الحوثيين"، و"وقف تدخل طهران في الدول المجاورة" حسب تصريح أحمد عسيري، الناطق الرسمي باسم التحالف وقتها.
* ينشر هذا التقرير بالتزامن مع صحيفة "TAZ" الألمانية
