في منتصف أبريل/ نيسان 2020، وبعد مرور أسبوع على إعلان أول حالة إصابة بفيروس كورونا في اليمن، كان الشاب أكرم (22 سنة) يحزم حقائبه متأهبًا للخروج إلى قريته برفقة شقيقته سارة (24 سنة) وطفلها زاهر ذي الأربعة أعوام، إذ كان أكرم حينها لا يعلم ما إذا كان يُسمح للمسافرين بالعبور في النقاط التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، التي كانت قد قررت إغلاق جميع المنافذ البرية في 16 مارس/ آذار، في إطار إجراءاتها الاحترازية الوقائية من فيروس كورونا.
غير أن السائق أخبره بوجود طرق بديلة عن تلك المؤدية إلى النقاط التي يُحتجز فيها المسافرون، وما عليه إلا أن يدفع 15 ألف ريال مقابل الراكب الواحد؛ أي ثلاثة أضعاف المبلغ المتعارف عليه في الأوقات العادية، وقد كان الخوف من تفشي فيروس كورونا داخل المدينة كافيًا لجعل أكرم يدفع ذلك المبلغ للخروج إلى قريته، كغيره من الناس الذين غادروا المدينة في بداية ظهور وتفشي الجائحة في اليمن.
العديد من نقاط التفتيش للفصائل العسكرية التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، كانت تحذر السائق بأن الطريق مقطوع من قبل الطرف الآخر، لكن هذا السائق لم يلتفت لتلك التحذيرات، مكتفيًا بطمأنة المسافرين بوجود طرق أخرى للعبور منها، واجتياز نقاط التفتيش على الطرف الآخر.
لا يتسع الطريق الترابي، الذي يضطر المسافرون من تعز عبوره بعد ما تسببت الحرب في إغلاق الطرق الرسمية، لأكثر من سيارة واحدة، وهو ما قد يتسبب بالتوقف لساعات على طول هذه الطريق الوعرة المستحدثة، عدا عن كونها منحدرات جبلية أشد خطورة من الطرق الأخرى البديلة.
يتوه المسافرون على هذه الطرق الوعرة في أماكن موحشة مقفرة، خصوصًا في مناطق التماس بين طرفي الصراع؛ الحكومة المعترف بها دوليًّا وسلطة أنصار الله (الحوثيين) حيث تكون المعاناة مضاعفة لدى المواطنين الذين يعانون من أمراض مزمنة
وتطال مآسي الصراع الدائر في اليمن منذ ما يزيد عن خمس سنوات، جميع الجوانب المعيشية والخدمية، ومفاقمة أوضاع المواطنين الذين تضاعفت معاناتهم كثيرًا نتيجة تقطيع أوصال المدن ومختلف المناطق التي يتركز فيها الصراع وتباعد خطوط السير نتيجة لتعدد السلطات من منطقة لأخرى، إضافة إلى استحداث طرق سير شديدة الوعورة، زادت من مدة وتكاليف السفر مع وصول الأمر إلى مناطق في إطار محافظة واحدة، كما هو حاصل في تعز، إذ أصبح الوصول إلى داخل المدينة من جهتها الشرقية- منطقة الحوبان، والتي لا تبعد عنها بأكثر من خمسة كيلو مترات، يتطلب ما يزيد عن خمس ساعات في "رحلة" لم تكن تكلف أكثر من 20 دقيقة، في أوضاع ما قبل الحرب.
منحدرات جبلية
انطلق أكرم في رحلة محفوفة بالمخاطر تستغرق بين خمس إلى ثمان ساعات، بدلًا من الطريق التي كانت تستغرق ساعة قبل الحرب، لكنها أصبحت رحلة تكاد تساوي السفر من صنعاء إلى تعز.
يبدأ الطريق الفرعي من قرية بني يوسف "جنوب مدينة تعز، الذي يؤدي إلى طرق وعرة أشهرها "الخضراء"، والمرور لمسافة نحو ساعتين تقريبًا، في منحدرات جبلية، ينتقل بعدها المسافر إلى طرق فرعية ترابية تمر بمرتفعات صغيرة، وغالبًا سيارات النقل بالأجرة عبارة عن صالون "تويوتا" قديمة من طراز الثمانينيات.
وصل أكرم إلى نقطة "الحقبة" الفاصلة بين منطقتي الصلو وسامع جنوبي تعز، وهي منطقة محايدة لا تخضع لنفوذ طرفي الصراع؛ الحكومة المعترف بها دوليًّا وسلطة أنصار الله (الحوثيين)، ليتفاجأ بوجود أشخاص من أهالي المنطقة، يمنعون المسافرين من المرور، حسب توجيهات شيخ المنطقة.
سمع بعض السائقين يحثون المسافرين على النزول إلى أسفل الجبل واجتياز الوديان حتى الوصول إلى الطريق الأسفلتي في غضون دقائق معدودة -فاستجاب لذلك عدد من الركاب- وبعد فترة وجيزة تمكن السائقون من إقناع أولئك الأشخاص كي يسمحوا لهم بالمرور، بعد أن دفعوا لهم مبلغًا من المال ومواصلة السير في منحدرات جبلية وعرة، استغرقت منهم حوالي ساعتين.
وقتها أدرك أكرم أن الأشخاص الذين قصدوا الوادي مشيًا على الأقدام كانوا في الحقيقة مخدوعين، فهم لا يعرفون تلك الأماكن، فضلًا عن طول المسافة التي يقطعونها في مغامرة قد تنتهي بالموت، نتيجة الألغام أو الاعتقال في إحدى النقاط لمجرد الاشتباه بهم.
لم تكتمل فرحة الركاب وعائلاتهم بالخروج من الطريق الترابية الوعرة إلى طريق الأسفلت، حتى بادرهم السائق بالقول: "لم يعد بإمكاننا العبور في الطريق البديل لوجود أفراد ونقاط تفتيش عديدة تابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، ولكن سنحاول المرور عبر الطريق المعتاد"، أظلمت الدنيا في وجوههم حينما أدركوا أنه في حال تم الإمساك بهم، سيأخذونهم إلى إحدى المدارس التي خصصتها السلطة التي تتبعها هذه النقاط، كمكان للحجر الصحي تكتظ بالمسافرين دون تطبيق معايير السلامة أو الوقاية من عدوى "كوفيد-19"، حسب ما قاله بعض المسافرين لـ"خيوط".
لم يكن أمام المسافرين سوى مواصلة الرحلة عبر خط "الدمنة-الحوبان" حيث تنتشر فيه العديد من النقاط العسكرية التابعة لحكومة صنعاء، الأمر الذي يزيد من احتمالية أخذهم إلى المدارس التي تستخدم لحجز المسافرين تطبيقاً للإجراءات الاحترازية لمواجهة تفشي كورونا التي تم تنفيذها في الفترة التي تلت شهر مارس/ آذار 2020.
قصص كثيرة سمعها أكرم من بعض المسافرين الذين ينتظرون منذ أيام في بعض المنافذ على امتداد هذه الطريق، أوجست في نفسه الخوف على شقيقته وطفلها، في مكان أشبه بصحراء، فلا يوجد سوى بقالة واحدة في تلك المنطقة الخالية من السكان.
تابع أكرم حديثه لـ"خيوط": "بدأ الظلام يتسلل حاملًا معه أنين الشيوخ وبكاء الأطفال والنساء، وفي تمام الساعة العاشرة ليلًا، سمعت صوت امرأة تشكو بأن السائق تركها وأطفالها وعاد باتجاه مدينة تعز. اقتربت منها لأستفهم الأمر، فقالت لي: "لا أعلم أين أذهب الآن بعد أن خدعنا السائق وأخذ مني مئة ريال سعودي، وتركنا هنا ثم هرب".
يتوه المسافرون على هذه الطرق الوعرة في أماكن موحشة مقفرة، خصوصًا في مناطق التماس بين طرفي الصراع؛ الحكومة المعترف بها دوليًّا وسلطة أنصار الله (الحوثيين)، إذ يجدون صعوبات وأوضاعًا مأساوية، حيث تكون المعاناة مضاعفة لدى المواطنين الذين يعانون من أمراض مزمنة.
يضيف أكرم: "شقيقتي مصابة بالسكر، وقد نسينا أخذ حقنة الأنسولين معنا، ومع صعوبة الطريق ارتفع لديها السكر وظلت تتقيأ لمدة 12 ساعة، حتى أصابها الجفاف ودخلت في غيبوبة، فطلبتُ من أحد الجنود في النقطة أن يذهب ويشتري حقنة أنسولين، لكن أفرادًا من النقطة الأخرى رفضوا ذلك، وحينما ساءت حالتها سمحوا لنا بعبور الحاجز الأمني الأول باتجاه الحوبان".
بدأ صوت أكرم يتغير وهو يصف ذلك الموقف قائلًا: "ما إن تخطينا أولى النقاط التابعة لحكومة صنعاء حتى وصلنا إلى حاجز أمني آخر لم يسمح لنا بالعبور، عاملونا بامتهان وكأننا غير آدميين، أنا وبقية النساء المتواجدات معنا في السيارة ترجينا قائد النقطة كي نسعف شقيقتي فقابلنا بالشتم والإهانة، وقام بإرسال أحد الأفراد ليوصلنا إلى مدرسة 22 مايو حيث الحجر الصحي".
في طريقهم إلى المدرسة التي حولتها سلطات أنصار الله (لحوثيون) إلى مكان للحجر الصحي، صادف أن مروا بأحد المشافي القريبة من منطقة الحوبان، فقام أكرم بتوسل الجندي كي يسمح لهم بالوقوف لمعالجة أخته التي فقدت وعيها من شدة الألم، وعلى مضض وافق الجندي على ذلك، وفي المستشفى أخبرتهم الدكتورة بأن حالتها خطيرة ولا بد أن تبقى إلى حين أن تجتاز مرحلة الخطر، وبعد جهد كبير وإصرار بذلته الطبيبة ومسؤول في المستشفى، وافق الجنود على بقائهم لمدة يومين حتى تفيق شقيقة أكرم من غيبوبتها، لكن الفتاة لم تفق من غيبوبتها.
بعد خسائر وأموال طائلة تم تقديمها، سمح لهم بنقلها إلى مستشفى الرفاعي بالحوبان. مكثوا فيه ما يقارب أسبوعين، حتى بدأت الفتاة تستعيد عافيتها، لكن ومنذ ذلك الوقت، وأكرم (اسم مستعار) مصاب بالاكتئاب مما استدعى ذهابه إلى الطبيب النفسي، وفي كل مرة يتذكر ذلك الموقف تزداد حالته سوءًا بسبب الضغوط النفسية التي تعرض لها في ذلك الوقت.
تعددت معاناة المسافرين، فلا مهرب من شمس النهار الحارقة، ولا من برودة الليل القاسية التي تخترق بقايا الأجسام المنهكة تحت وطأة الخوف والإرهاق والمرض، في معاناة لم تلتفت إليها الأنظار المنشغلة بأخبار الفيروس المخيفة آنذاك
يذكر مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان (منظمة غير حكومية)، في تقريره حول الانتهاكات التي طالت مدنيين في محافظة تعز خلال شهر أبريل/ نيسان 2020، "قيام سلطة أنصار الله (الحوثيين) بمنع أكثر من ألفي مسافر من الدخول إلى منطقة الحوبان بعد قدومهم من مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا في المدينة، واحتجزت أكثر من 200 سيارة على متنها مسافرون، بينهم نساء وأطفال في طريق مديرية سامع، ولم تسمح لهم بالدخول إلى الحوبان".
وتواصلت "خيوط"، مع مسؤولين في حكومة صنعاء بتعز، وكذلك مكتب الصحة في الحوبان للحصول على تعقيب حول هذه الانتهاكات، إلا أننا لم نحصل على رد.
تعقيدات فتح المعابر
تعددت معاناة المسافرين، فلا مهرب من شمس النهار الحارقة، ولا من برودة الليل القاسية التي تخترق بقايا الأجسام المنهكة تحت وطأة الخوف والإرهاق والمرض، في معاناة لم تلتفت إليها الأنظار المنشغلة بأخبار الفيروس المخيفة آنذاك.
وفي ظل المعاناة، تظهر من حين إلى آخر، دعوات مطالبة بضرورة التحرك لتخفيف معاناة الملايين داخل المدينة، وتصدرت تعز، أبرز عناوين المفاوضات بين الحكومة المعترف بها دوليًّا وسلطة أنصار الله (الحوثيين) برعاية الأمم المتحدة، حيث تطالب الأولى بإنهاء ما تصفه بـ"حصار تعز"، وكان التحاور بشأن الحصار أحد ثلاثة اتفاقات في مفاوضات السويد ديسمبر/ كانون الأول 2018، إلى جانب الحديدة وتبادل الأسرى والمعتقلين، لكنه لم يحقق أي تقدم يذكر حتى اليوم، فيما يخص موضوع تعز.
كانت هناك مبادرة أيضًا من جانب سلطة أنصار الله (الحوثيين) وتحديدًا في 10 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019، تقدم بها وزير الأشغال في حكومة صنعاء، غالب مطلق، بشأن فتح منافذ مدينة تعز، لكن المبادرة، لكن لجنة التواصل والتهدئة في محافظة تعز التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، اعتبرتها غير مجدية، لأنها تضمنت فتح طريق سوفتيل – زيد الموشكي فقط. اللجنة اعتبرت أن المنفذ المقترح من قبل أنصار الله (الحوثيين) هو "طريق ضيق للمارة والمركبات"، وبعد تقديم حكومة عدن مسودة أخرى للرد على تلك المبادرة، لم تنجح المفاوضات حينها، بينما ذكرت اللجنة المشكلة من قبل الحكومة المعترف بها دولياً للبت في هذا الموضوع، أن حكومة صنعاء تنصلت من التزاماتها بشأن فتح الطريق، وهكذا تاهت المبادرة بين تبادل الاتهامات بعرقلة التنفيذ.