ما إن استلقيت بجسدي المنهك على السرير حتى شعرت أنّ المكان يدور مسرعًا من حولي، حاولت تلمس الجدار كي يكف عن الدوار، بَيدَ أن الجدار بريء، فالدوار متعلق برأسي، رأسي الذي أصيب بحالة لا أستطيع وصفها، كوصف الحالة التي مررت بها من فجر اليوم الأول وحتى غياب شمس اليوم التالي على كرسي السيارة بغية الوصول إلى منزلي، وسط مدينة تعز المحاصرة.
قرابة 12 ساعة ونحن ندور في فلك لا نهاية له، فالسفر إلى مدينة تعز من الجهة الشرقية (الحوبان)، يبعث على القلق والضيق والدوار لما ينتظرنا من بؤس قادم، يبدأ من منطقة (الأقروض)، وينتهي بمشارف المدينة، وأكاد أجزم أن لا عذاب ولا مشقة ولا همّ، يمكن أن يصيب المرء، مثل أن يمر بطريق (الأقروض)؛ ما إن وضعت المركبة سيارة المواصلات التي تقلنا في هذه الرحلة عجلاتها على بداية الطريق، حتى يخيل لك أنك وسط عصّارة كهربائية تدور بك دون نهاية. تشعر أن الحصى والتراب ليس سوى شرارات تخرج من هشيم نار تتوقد، حتى تلك الأشجار التي كانت تمتد على قارعة الطريق، أجزم أنها لم تكن سوى أشواك ذات مخالب حادة.
إنه البؤس الذي يلاحق اليمني أينما حل، ففي حين يمكن أن تتجاوز الأمر في بضع دقائق وتصل إلى المدينة، يتوجب عليك أن تتحمل ساعات تصل إلى أربع أو خمس ساعات لكي تقصدها، ألم نقل دائمًا، إن اليمني شقي في حياته؟! هذا ما اكتشفناه واقعًا يتجسد بصورته الأصلية عبر هذه الرحلة.
تارة يغني "يا ساري سرى الليل"، ذات الفلكلور البدوي، فعلًا نحن نسري سرى الليل وطوله وظلامه ووحشته، وتارة يغني "ارحم حبيبك"، كأنه يرسل رسالة للأطراف المحلية والدولية للنظر بعيون إنسانية لملف الطرقات في اليمن الذي يستمر كحرب أخرى أنهكت اليمنيين وفاقمت أوضاعهم الإنسانية والمعيشية وضيقت الخناق عليهم من كل اتجاه.
إنها طريق اللانهاية، يخيل إليك وأنت تمر فيها أنها عبارة عن سلسلة متواصلة من العذاب الأبدي، الذي يبقيك حبيسًا حتى عطشك، فعندما تريد أن تأخذ رشفة ماء تسقط القنينة من يديك، معلنة هزيمتها أمام اهتزاز السيارة التي تأخذ شكل جرس الساعة المزعج، في الوقت الذي تتطاير فيه ذرات التراب، مكونة هالة كالشبح تطاردنا من النافذة على مر الطريق.
متى سنصل؟
الطريق هنا ضيقة، وعندما تمر السيارة تشعر بقليل من المواساة النفسية بأن الأمر يمكن أن ينقضي، بيدَ أن وجود سيارات على الجهة المقابلة، يمكن أن يعيدك إلى النقطة السابقة، حيث تتراجع السيارات إلى الخلف بضعة كيلو مترات، في محاولة لإيجاد مكان صغير يمكن أن يكون كالموقف الطولي للسماح للسيارات أو قاطرات نقل البضائع المقابلة بالمرور، يمكن للأمر أن يتطور إلى ساعات من التوقف لكلا الطرفين، خصوصًا عند عدم وجود مكان أوسع بقليل، لتجنب السيارات، أو حوادث انقلاب شاحنة وما أكثرها.
أغمضت عيني فإذا طفلي ذو السادسة من العمر يسألني للمرة المليون: "هيا ماما، متى بنصل تعز؟"، أعدت جملتي المتكررة: "باقي قليل ونصل". منذ دخولنا إلى طريق العذاب (الأقروض)، لم تُجدِ نفعًا هذه الجملة، فقد نظر إليّ هذه المرة بتوتر وعدم رضا، صارخًا: "يعني تعز مهليش"؛ يقصد لا وجود لها، ربما أن طفلي كان محقًّا، تعز "مهليش"، في أجندة وسياسات أطراف النزاع، فمنذ قرابة التسع سنوات، وسكانها يعانون أشد معاناة في طريق لا تصلح حتى للحيوانات، دون اكتراث أيٍّ منهم.
وبالرغم من المناشدات والحملات والمطالبات المتكررة بفتح الطرقات الرئيسية للمدينة، فإن الأمر لم يُجدِ نفعًا، وما زالت أرواحنا تصعد وتهبط كلما تذكرنا ما نمر به في هذا الطريق، لا أعلم ما هي المعجزة التي سوف تساهم في فتح الطرق الرئيسية أمام المسافرين.
معاناة الأمهات الحوامل
تحسرت على المرضى وكبار السن، حتى الأطفال الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يحدث، فالقدر وحده جعلهم يعيشون في أسوأ حقبة سياسية تمر بها اليمن، تحسرت على أحلامنا المستقبلية في الوقت الذي لا نجد فيه طريقًا معبّدًا نمر به.
تربط منظمات دولية أعداد الوفيات الكبيرة جدًّا للأمهات الحوامل في اليمن، بعدد من العوامل؛ معظمها له نتيجة مباشرة بالحرب والصراع في البلاد. وتشمل هذه العوامل الافتقار إلى المرافق الصحية العاملة في اليمن، والصعوبات التي تواجه الأشخاص في الوصول إلى تلك المرافق، وعدم قدرتهم على تحمل تكاليف البدائل والمواصلات.
كما يتوجب على العديد من الأشخاص عبور خطوط التماس والطرق الوعرة، أو المرور عبر المناطق المحايدة وغير الآمنة، أو التفاوض في طريقهم عبر مختلف نقاط التفتيش للوصول إلى أحد المستشفيات التي لا تزال تعمل .
تقدر منظمة أطباء بلا حدود عدد الوفيات في السنوات الأربع الأولى من الحرب في اليمن، بنحو 36 أمًّا، و1529 طفلًا –من بينهم 1018 مولودًا جديدًا، في مستشفى تعز- الحوبان، التابع لمنظمة أطباء بلا حدود في محافظة تعز، إضافة إلى مرفق آخر؛ مستشفى عبس الذي تدعمه أطباء بلا حدود في محافظة حجة.
من بين الوفيات الذين قضوا في مستشفى تعز- الحوبان، كان ما يقرب من ثلثهم أطفالًا ومواليد جددًا، لقوا حتفهم بعد الولادة. كما كان الكثير من المواليد الجدد الذين تم إحضارهم إلى منظمة أطباء بلا حدود للحصول على الرعاية يعانون من انخفاض الوزن عند الولادة أو وُلدوا قبل موعد ولادتهم، سواء في المنزل أو في عيادات خاصة صغيرة، إذ كانت أكثر أسباب الوفيات شيوعًا بين حديثي الولادة، هي الولادة قبل الموعد، والاختناق أثناء الولادة والإصابة بالعدوى الشديدة (تعفن الدم).
ترجع المنظمة الدولية جزءًا من أسباب ذلك إلى قطع الطريق الرئيسي من وإلى مدينة تعز، حيث أصبح الأمر يتطلب حوالي 6 ساعات للوصول إلى مستشفى مدينة تعز من منطقة الحوبان (شرقي المحافظة)، في حين يجب أن تستغرق الرحلة فقط 10 دقائق.
اضطرت بعض الأمهات والأطفال الذين تم إدخالهم إلى "مستشفى تعز- الحوبان"، إلى السفر عبر خطوط خطيرة وصعبة ووعرة للوصول إلى هناك، الأمر الذي يعرضهم لخطر جسدي، ويزيد من وقت الرحلة عدة أضعاف؛ إذ كان سكان الحوبان، التي تقع على مشارف مدينة تعز، يصلون إلى مستشفى عام في وسط المدينة في غضون 10 دقائق، قبل النزاع؛ أما الآن فيمكن أن تستغرق الرحلة ست ساعات.
أغاني السائق وسخرية البسكويت
نواصل الرحلة مع انشغال سائق المركبة التي تقلنا، إذ لا يعير وعورة الطريق أي اهتمام، فبينما تتهادى سيارته في طريق وعرة بين الأحجار والأشجار، ينشغل بالبحث عن أغانٍ لتشغيلها، حيث انصب تركيزه على الأغاني القديمة، كَقَدامةِ هذه الطريق التي يحاول اجتيازها بنا.
تارة يغني "يا ساري سرى الليل"، ذات الفلكلور البدوي، فعلًا نحن نسري سرى الليل وطوله وظلامه ووحشته، وتارة يغني "ارحم حبيبك"، كأنه يرسل رسالة للأطراف المحلية والدولية، للنظر بعيون إنسانية لملف الطرقات في اليمن الذي يستمر كحرب أخرى أنهكت اليمنيين وفاقمت أوضاعهم الإنسانية والمعيشية وضيقت الخناق عليهم من كل اتجاه.
وجوهنا الشاحبة، ومحاولة السائقين أو مَن معهم تنظيمَ عملية السير، مشقة لا تضاهيها سوى مرور شاحنة نقل كبيرة من جوارك، هكذا يخيل لنا أننا معرضون إلى حادث مفاجئ في أي لحظة، وليس الأمر ببعيد، فحوادث طريق الموت تتكرر يوميًّا، تتساءل المرأة الخمسينية جواري، كيف يمكن لبسكويت أبو ولد أن يصل إلى المدينة سالمًا، تتذمر بسخرية: "قد انشطرنا نحن الأوادم (البشر)، فكيف بالبسكويت أن يصل إلى وجهته سالمًا؟!".
وبينما أستمع لها بإيماءات تعجب، لاحت أمامي لافتة كتبت على الطريق: "احمد الله، فقد سمع الله لمن حمده"، رددت في سري: لك الحمد والشكر على كل حال، رفعت رأسي فوجدت لافتة أخرى تحمل آية قرآنية: "لئن شكرتم لأزيدنكم"، اتسعت حدقة عيني، حمدي الأول كان على الطريق وجحيمها، فتخيّلت أن يطول الأمر.
أسرعت بسحب دعوتي الأولى، وأنّ الحمد لا يمت للطريق بصلة، تعجبت من نفسي، قائلة: "الله يعلم الجهر وما يخفى"، ويعلم جيدًا ما أعني. يا الله كيف يمكن لهذه الطريق أن تفقدنا عقولنا؟!".
دخلنا المدينة والشمس تعلن انسحابها، تستقبلنا أصوات المارة، ضجيج السيارات، الزحمة المعهودة في شوارعها، ورائحة "خبز الطاوة" مع الشاي الأحمر، لعب الأطفال؛ الحياة في أوج انتعاشها، إنها المدينة العصية الذي ترغمك على العودة إليها مهما قاسيت من متاعب.