مع نهاية العام التاسع للحرب وتعاظم آثارها المدمرة على الوضع الاقتصادي والإنساني، وكذا تبيُّن عدم جدوى المساعدات الإنسانية وتراجع حجمها، تسعى الأمم المتحدة للتحول من سياق الدعم الإنساني الطارئ إلى حلول تنموية دائمة من خلال تمكين السلطات المحلية بالمحافظات من الشراكة مع المنظمات الدولية والقطاع الخاص المحلي لتقديم الخدمات العامة للسكان، وبالوقت نفسه دعم إنشاء مشروعات للتنمية المستدامة. إلا أنّ ذلك يصطدم بموروث المركزية في إدارة شؤون الحكم المحلي، بما في ذلك إدارة الموارد المالية على المستويَين المركزي والمحلي؛ الأمر الذي يتطلب جهودًا مكثفة لتمكين قيادات السلطات المحلية بالمحافظات من صلاحيات كاملة في إدارة الموارد المالية والتنموية.
ولذلك تأتي أهمية موضوعنا في هذه المقالة، لنبيّن مدى الأثر السلبي الذي خلّفته إدارة المالية العامة للمحافظات مركزيًّا من خلال معطيات نموذج محافظة تعز؛ كونها المحافظة المختارة من قبل الأمم المتحدة لتكون نموذجًا للتحول المشار إليه سابقًا.
لم يكن في شمال اليمن قبل عام 1962، جهاز ماليّ للدولة بالمفهوم العصري. حيث كان الجهاز المالي عبارة عن مخزن يسمى بيت المال، تجمع داخله موارد نقدية وعينية من المواطنين بمختلف تشكيلاتهم الاجتماعية، وتوضع هذه الموارد تحت تصرف الإمام. وكان للإمام ولاة وحكام يتم تعيينهم في المحافظات والنواحي لتمثيل الإمام في الحكم، وأهم مهامهم جباية الأموال العامة لبيت المال التي يتحكم بمواردها الإمام.
وبعد أن قامت ثورة سبتمبر 1962، وبدأ العمل بتأسيس الدولة العصرية مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، أُنشِئت وزارات قطاعية لإدارة شؤون الدولة، ومن بين هذه الوزارات (وزارة المالية)، لتشكل الإطار التنظيمي والإداري للموازنة العامة للدولة، على المستوى المركزي والمحلي.
وبحكم أن محافظة تعز كانت تابعة لنظام الحكم في الشمال قبل الوحدة اليمنية، فقد كان الجهاز المالي في محافظة تعز، ممثَّلًا بمكتب لوزارة المالية بالمحافظة، ويدار بأسلوب النظم المركزية. حيث يقتصر دور مكتب المالية في المحافظة على تنفيذ قرارات وزارة المالية التي مقرها في العاصمة صنعاء. ومن ثَمّ فقد كانت الموازنة العامة للمحافظة، يتم إعدادها مركزيًّا في وزارة المالية كبقية محافظات اليمن الشمالية التابعة لمركز نظام الحكم في صنعاء. ولم يكن للجهاز المالي في المحافظة أيُّ دور سوى الإشراف على جمع الموارد المالية من مصادرها المختلفة لخزينة الدولة المركزية، والإشراف على إنفاق ما هو مخصص في الموازنة العامة للمحافظة.
وعندما قامت الوحدة اليمنية في عام 1990، وتم دمج مؤسسات الدولة في كلٍّ من الشمال والجنوب، دُمِجَ الجهازان الماليان للدولتين بجهاز مالي واحد، بإطار وزارة المالية بشكلها ومكوناتها الحالية؛ الأمر الذي أنتج صلاحيات ومسؤوليات أوسع مما كانت عليه قبل الوحدة. وعلى هذا، فقد تم تطوير إدارة مكتب المالية في المحافظة ليتولى الإشراف على تنفيذ سياسات وزارة المالية مع بعض صلاحيات في جانبَي الإيرادات والمصروفات، تمثّلت بمنح مكتب المالية بعض الصلاحيات المحدودة بهدف التخفيف من الإدارة المركزية الصارمة.
ومن ثَمّ أصبح مكتب المالية بالمحافظة، يقوم بإعداد مشروع الموازنة العامة للمحافظة ورفع حسابها الختامي للوزارة المركزية التي تقوم بدراسته، بمشاركة إدارة مكتب المحافظة وتقرير ما تراه بشأنها.
لذلك، فقد ظلت المالية العامة للمحافظة مقيدة مركزيًّا من العاصمة صنعاء، وتواجه الكثير من الاختلالات والعجز عن تلبية متطلبات نفقات المحافظة التشغيلية والرأسمالية.
مركزية السلطة المالية وحالة الحرب والحصار التي تعيشها تعز، تؤدي إلى تبديد كل مواردها المالية، والجزء البسيط المتحصل في المناطق التابعة لحكومة عدن يُنفَق في قضايا التشغيل لمكاتب السلطة المحلية، بينما الجزء الأساسي من الموارد المالية، يُصرَف حسب إرادة حكومة صنعاء وخارج إطار التزامات الدولة والتنمية المحلية.
وفيما يلي، نناقش اختلالات الموازنة العامة للمحافظة:
أولًا: في جانب الإيرادات
من دراستنا للتصنيف المتبع لإيرادات الدولة من محافظة تعز، تبيّن أنّ السلطة المركزية بالعاصمة صنعاء، قيدت صلاحيات السلطة المحلية بالمحافظة، بحيث تودع كل إيرادات الدولة الأساسية للخزينة المركزية. وما أعطي من الصلاحيات للسلطة المحلية بالمحافظة، هامشيٌّ للغاية. وللتأكد من ذلك، تم الرجوع إلى مكتب المالية بالمحافظة للاطلاع على الموازنة العامة الخاصة بها، قبل الحرب، وتحديدًا في عام 2014، وتبيّن أنّ الإيرادات لهذا العام بالريال اليمني، كانت كما يلي:
- الإيرادات المركزية (54.5) مليار
- الإيرادات المحلية (1.4) مليار
- الإيرادات المشتركة (2.4) مليار
----------------------------------
إجمالي الإيرادات (58.3) مليار
ويعني ذلك أنّ صلاحيات السلطة المحلية في جانب الإيرادات، تقدر بنسبة 6% فقط من إجمالي إيرادات المحافظة، والنسبة الباقية 94% مقيدة، وتورّد مباشرة لخزينة الدولة المركزية عبر الأجهزة المالية المختصة، التابعة لوزارة المالية بالعاصمة صنعاء. الأمر الذي يعكس ضبابية الرؤية لدى مكتب مالية المحافظة، وصعوبة معرفة إجمالي موارد المحافظة المركزية، ومِن ثَمّ إخضاع سلطة المحافظة لإرادة القيادات المركزية.
ثانيًا: في جانب المصروفات
من معطيات الحساب الختامي للمحافظة، حسب مكتب المالية، فإنّ الإنفاق الفعلي للمحافظة بالريال اليمني، توزع لنفس العام 2014، على النحو الآتي:
- الرواتب والأجور وما في حكمها (54.5) مليار
- النفقات التشغيلية (2.5) مليار
- المنح والإعانات (0.3) مليار
- النفقات الاستثمارية (5.8) مليار
-----------------------
إجمالي الإنفاق السنوي (63.1) مليار
ويعني ذلك أنّ الإنفاق الاستثماري (الرأسمالي) للمحافظة يشكّل فقط نسبة 9% من إجمالي الإنفاق، بينما 91% من إجمالي الإنفاق، رواتب وأجور، ونفقات تشغيلية ومنح ومساعدات. ويشير ذلك إلى أنّ مخصص تعويض الإهلاكات والتراكم الرأسمالي ظلّ بسيطًا ولا يفي بحاجة المحافظة لمواجهة الإهلاكات والاحتياجات المتزايدة في البنية التحتية للمحافظة؛ الأمر الذي يسوّغ ما تعرضت له المحافظة من التدهور في بنيتها الأساسية وقطاعات الخدمات العامة، واتساع الفجوة بين الاحتياجات وما هو متاح. وبناء عليه، فقد أدّى ذلك إلى خلق بيئة طاردة للاستثمارات المحلية والأجنبية. ولذا، فالنتيجة تراجُع مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر في المحافظة.
وعندما حصلت الحرب في عام 2015، انهارت مؤسسات الدولة في المحافظة، كما أدت الحرب والحصار لتعز، إلى تقسيم المحافظة إلى ثلاثة أجزاء، وكل جزء تسيطر عليه قوى سياسية وعسكرية متباينة بتوجهاتها السياسية والعسكرية. وبناء على هذا التقسيم، تشكلت سلطتان في المحافظة؛ إحداهما تابعة لحكومة عدن، والأخرى تابعة لحكومة صنعاء، ونفوذ عسكري للقوى العسكرية المنتشرة في الشريط الساحلي للمحافظة، وكلٌّ منها شكّلت جهازًا ماليًّا خاصًّا بها. وعند عودتنا لمكتب مالية تعز، التابع لحكومة عدن، باعتبارها الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًّا والمكتب في منطقة نفوذها، تبيَّن لنا أن مكتب المالية تعرض لأضرار بليغة أثناء المواجهات العسكرية وتوقف عن العمل. ثم بجهود من قيادة المحافظة المعاد تشكيلها بعد الحرب والعاملين في المكتب، أُعيد إصلاحه وتفعيله منذ العام 2017، إلا أنّ موارده المالية السنوية ظلت بسيطة للغاية، وصلت لأعلى مستوياتها في عام 2022، بمبلغ 19 مليار ريال يمني فقط، بينما إجمالي الإنفاق تجاوز 72 مليار ريال؛ لأسباب متصلة بتقسيم المحافظة، وتوزيع مواردها المالية بين مناطق النفوذ السياسي والعسكري المشار إليها، ومعظمها موارد مركزية تذهب لصالح سلطة صنعاء.
وبالنظر إلى بساطة الإيرادات السنوية مقارنة بالإنفاق السنوي، يبدو واضحًا أنّ ميزانية المحافظة تواجه عجزًا كبيرًا يتجاوز نسبة 74%؛ حيث شكّلت الإيرادات في أحسن وضع لها في العام 2022، نسبة 26% فقط من إجمالي الإنفاق العام، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الموارد المالية الأساسية للمحافظة تأتي من ضرائب كبار المكلفين، وبحكم أنّ المصانع والمنشآت الكبيرة واقعة تحت سيطرة سلطة الحوثيين المتمركزين في منطقة الحوبان، فإن تلك الموارد تذهب لصنعاء، كما أشرت سابقًا.
وعمومًا، نستطيع القول إن مركزية السلطة وحالة الحرب والحصار التي تعيشها تعز، تؤدي إلى تبديد كل مواردها المالية تقريبًا. والجزء البسيط المتحصل في المناطق التابعة لحكومة عدن، يُنفَق في قضايا التشغيل لمكاتب السلطة المحلية، بينما الجزء الأساسي من الموارد المالية يُصرف حسب إرادة حكومة صنعاء وخارج إطار التزامات الدولة والتنمية المحلية.
وفي تحليل قمتُ به للمالية العامة للمحافظة، تبيّن لي بأن نسبة عالية جدًّا من الإيرادات العامة للمحافظة يُبدّد ولا تستطيع السلطة المحلية بالمحافظة، ممثلة بمكتب المالية، تقديرَ حجم الطاقة الإيرادية للمحافظة؛ بسبب سريان قواعد النظام المالي المركزي، وتعدد وتنوع الأوعية الإيرادية، وانتشار الفساد، وانقسام الجهاز المالي وتوزيع سلطاته. ويضاف إلى ذلك، أن ما يورد للخزينة العامة بأوعيتها المالية المتعددة من إجمالي حجم الطاقة الإيرادية للدولة، لا تتجاوز نسبته 20% في أحسن الأحوال؛ بسبب التهرب الضريبي، وانتشار الفساد في الأوعية الإيرادية للدولة منذ نشأت وزارة المالية. وحاليًّا، مع انقسام الوضع الاقتصادي وتعدد إدارات الموارد المالية، فإنّ الوضع أصبح بحالة أسوأ، ويترك آثارًا سلبية بالغة على الحياة الاقتصادية والإنسانية.
ومع كل ذلك، يمكن القول إن محافظة تعز يمكنها في حالة تغيير نظام الحكم من المركزي إلى نظام الحكم المحلي -حسب مخرجات مؤتمر الحوار الوطني القاضي بتشكيل نظام حكم فيدرالي، بحيث تتمتع المحافظة بحكم محلي- وتوفر سلطة محلية تتمتع بكفاءة ونزاهة في إدارة المحافظة، يمكنها أن تحقق تغطية كاملة للإنفاق الذاتي بجانبيه؛ التشغيلي والتنموي. وفي ضوء دراستنا للوضع الاقتصادي للمحافظة، نؤكد أيضًا أنها بما تملكه من مقومات اقتصادية، يمكنها تحقيق فوائض مالية كبيرة للتسريع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة متطلبات إعادة البناء والنهوض الاقتصادي، ومِن ثَمّ تراجُع مؤشرات البطالة والفقر، وتحسين حياة السكان، ودعم وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في عموم اليمن.