في الثامنة والنصف من صباح الأربعاء الماضي 24 ابريل/ نيسان انطلقنا ( د عمر معد يكرب الهمداني وثابت القوطاري واحمد القِراع وأنا ) في رحلة إلى مناطق المزارات والمعالم الاسماعيلية بقرية طيبة ومحيطها من القرى التاريخية في وادي ظهر.
بعد نصف ساعة من انطلاقنا كنا نجلس على الهضبة المطلة على وادي ظهر، نشرب قهوة محضَّرة من البن الحرازي المميز ومعها تمر نجراني، ومكسرات عيدية أحضرها ثابت، وأمامنا مباشرة كان دار الحجر التاريخي الذي يطل من الجهة الشمالية على الوادي المكسو بخضرة الأشجار ( معظمها اشجار قات معمرة وقليل من اشجار المشمس واللوزيات).. كانت ايضا أمامنا مباشرة قرية القابل الجميلة، وعلى يسارنا يطل بمهابة جبل (افئدة )من جبهة الغرب.
قال عمرو أنه قبل خمسين سنة كان يسهل الوصول إلى قمة الجبل بواسطة الحمير والجمال لإيصال الزوار الإسماعيليين، غير أن سواتر إعاقة مستحدثة صارت تحول دون وصول الراغبين إلى القمة ، حيث تكثر اضرحة وقبور متعددة لدعاة إسماعيليين ومنذ عشرة اعوام سعى رجال مال اسماعيليين من طائفتي السليمانية والداودية في حراز ونجران والهند تحويل مقبرة اسماعيلية قديمة أسفل الجبل إلى مزار أنيق.
ما يشد الانتباه في مجمل المباني أنها جمعت في تصميماتها بين طرازات العمارة الهندية والفاطمية واليمنية، فالقباب هندية وكذا سرج الاضاءة ، أما المشربيات والتفصيلات الخطوطية فاطمية، والعمارة الحجرية الخارجية يمنية
طرازات ثلاث ورائحة ناعمة
قبل أن نهبط الوادي من الطريق الرئيس بأمتار قليلة واجهتنا مبان حديثة شيدت بخليط من الرخام والأحجار الحمراء عليها قباب خضراء يحتويها سور خارجي واحد من البلك . انتظرنا لدقائق قليلة حتى وصل الحارس لفتح البوابة الخارجية لندخل إلى مزار أفئدة.. خلعنا أحذيتنا قبل صعودنا درجات رخامية حمراء إلى بوابة المبنى الرئيس بشكله المربع ، والذي تتوسطه قبة دائرية خضراء محاطة بقباب أصغر أشبه بالمنارات القصيرة، وتحت القبة الرئيسة لهذا المبنى ضريح رخامي لداع اسماعيلي معروف هو محمد بن الحاتم بن الوليد الأنف،.، مغطى هذا الضريح بقطيفة حمرا مطرزة، ويعلوه سقف خشبي منحوت بتفاصيل زخرفية بأربعة قوائم متصلة بعوارض منقوشة ايضا تحوطه من الجهات الأربع، وإلى جوار الضريح الرئيس مجموعة اضرحة رخامية، لما يعرف بالحدود – وهم الأشخاص المقربين من الداعي من الناحية الدينية - وأقارب لهم منهم إبراهيم بن الأنف، وعلي بن إبراهيم الأنف، وعلي شمس الدين ، عليها هي الأخرى، سقوف خشبية بذات الطراز.. النقوش على الخشب الصلب ( الأبنوس غالباٌ ) الذي يغطي الأضرحة خليط من الخطوط الفاطمية ومزخرفات الأرابيسك المشرفية.
انتقلنا بعد ذلك الى مبنى أصغر قليلاً، في الجوار يحتوي على مجموعة من الأضرحة التي رممت بذات الكيفية وإن كانت محاطة بسقف خشبي واحد وليس بسقوف منفصلة ، ثم هبطنا عبر درج رخامي تنتهي إلى مجموعة من القبور القديمة ( قبور المؤمنين) التي اعيد ترميم اكثرها وابقاء البعض منها على حاله للتحققات التاريخية كما قال حارس المزار. أما اصغر المباني، والمشيد بذات الطراز، يقبع في الركن الشمالي الغربي هو مصلى صغير بمحراب متواضع للغاية.
ما يشد الانتباه في مجمل المباني أنها جمعت في تصميماتها بين طرازات العمارة الهندية والفاطمية واليمنية، فالقباب هندية وكذا سرج الاضاءة ، أما المشربيات والتفصيلات الخطوطية فاطمية، والعمارة الحجرية الخارجية يمنية.
الطبيعة غير المستوية للموضع منحت المهندسين اليمنيين والهنود مساحة لتشكيل المكان جماليا كممرات وسلالم حجرية محاطة باصص الأزهار وأشجار الزينة وتعريشات العنب.. أما الجهة اللصيقة بالجبل من جهة الغرب فنفذ فيها شلالاً اصطناعيا مرتبطاً بنظام إضائي حديث يتوزع بشكل متناسق على جدران السور الداخلي الذي شيد بذات أحجار المبنى وتشكيلاتها.، أما رائحة العودة الطرية فتفوح عابقة في حجرات المزار، و أن زوار من الطائفة الهنود يجلبونها معهم لإشعالها في المزارات, لتبقى الرائحة لصيقة بالمكان بشكل دائم . طبعاً هذا المزار تعرض للإغلاق أكثر من مرة ، بسبب النظرة التمييزية للطائفة الاسماعيلية والشحن المذهبي ضدها، ولم يفتح أمام الزائرين إلا بتدخلات سياسية ودبلوماسية رفيعة، كما قال الهمداني
بمحاذة المسجد والقبة من جهتي الجنوب والغرب صهريج ماء قديم منحوت في تشكلات الصخر بتجاويف مفتوحة مطلية بمادة القضاض ،يُهبط إلى قاعه بواسطة درجات مسطحة يمكن بواسطتها التجول بمستوياته المختلفة من الأعلى إلى الأسفل ، و تقوم الطائفة بتنظيفه بشكل دوري
الصعود إلى طيبة الهمدانية
بعد خروجنا من المزار بدأنا الصعود شمالاً عبر طريق مسفلت باتجاه قرية طيبة التاريخية، فصار جبل أفئدة جنوبنا ، وهذه القرية تتخذ موضعها في هضبة مرتفعة تطل على الودي من اتجاهات ثلاثة ( شرقاُ وشمالا وغرباً) حيث تتشكل امام عيون المطل كل التفاصيل التي منحتها الطبية للوادي المكسو بالخضرة والمتفتق من طين أغبر .
أول ما شد انتباهي مبنى حديث الطراز من طوابق، قيل أن صاحبه أحد أعيان وقادة الدعوة الاسماعلية في نجران وشيده ليكون ( مضيفاً) لزوار الطائفة من الهند ونجران، هو ما يحجب المسجد القديم في القرية من الاطلالة على الوادي من جهة الشرق، على العكس من جامع القرية الرئيس الذي يطل بلونه الأبيض على الوادي، ويمكن مشاهدته بوضوح من الأسفل، يطلق على الجامع اسم جامع المطهر نسبة للإمام المطهر الذي قيل أنه شيده على انقاض مسجد اسماعيلي، فصار مسجداً زيدياً في عرف السكان المخلوطين من الزيدية والاسماعيلية ، غير أن قبة في المدخل الغربي للجامع تشير إلى هذا التمازج ، وهذه القبة تسمى القبة اليوسفية تحوي على ضريح داع اسماعيلي معروف اسمه يوسف نجم الدين، وإلى جوار الضريح المغطى بقماش أحمر مشغول قبران عاريان من أي زينة لاثنين من أتباعه الخلص ( الحدود)، داخل القبة وفي جدارها الشمالي يبرز حجر عمودي عليه نقش مسندي شديد الوضوح، وخزانة خشبية صغيرة بها كتب ومصاحف,
بمحاذة المسجد والقبة من جهتي الجنوب والغرب صهريج ماء قديم منحوت في تشكلات الصخر بتجاويف مفتوحة مطلية بمادة القضاض ،يُهبط إلى قاعه بواسطة درجات مسطحة يمكن بواسطتها التجول بمستوياته المختلفة من الأعلى إلى الأسفل ، و تقوم الطائفة بتنظيفه بشكل دوري، لهذا كان، عند زيارتنا نظيفا جداً، حتى الماء المترسب في قاع التجويف اكتسب لونا طحلبياً فاتحا.
بعد خروجنا من المسجد والقبة صعدنا شمالاً باتجاه حصون طيبة القديمة التي تطل على الوادي ، والتي تعرضت لموجات تخريب متعاقبة ، منذ تشييدها في عهد الدولة الحميرية، والمتبقي منها نوبة اسطوانية بأحجار ضخمة تتجاوز بعض أقطارها المتر والنصف تتماسك بغير مواد تثبيت، وهي أشبه بحارس خرافي للدور المتناثرة على مساحة الحصن، والتي لم يزل القليل منها مسكونا، وهذه القصور كما قال الشيخ علي النقيب سكنها دعاة الدعوة الاسماعيلية في عهد الدولة الصليحية وبعدها، أو كما قال الهمداني كان هذا الحصن يقطنه أبناء الطائفة ودعاتهم وكان أحد أهم مراكز الدعوة الدينية قبل انتقاله إلى نجران، وانحسارها من همدان وحراز
وبقايا القصور لم تسقط وتندثر بفعل عوامل الزمن الطبيعية، وانما كانت تخرَّب عمداً، بعد كل حملة عسكرية في صراع الدويلات وكان كل قائد يأمر بتشتيت أحجارها أو تركها نهبا للراغبين في استخدامها في بناء منازل في المنطقة وخارجها
روح (التولقة) المعمرة
خارج القرية من جهة الغرب تتربع في مساحة مفتوحة شجرة (تولقة) معمرة صغيرة الحجم تتمدد اغصانها على مساحة دائرية، وبها تجويف يمكن الوصول إليه.. قال لنا النقيب :إن روح طيبة مسكونة بتجويف هذه الشجرة واغصانها ، فمن جوفها تتصاعد بين وقت وأخر ناراً تبقى مشتعلة لأيام يضطر معها سكان القرية لإطفائها بالتراب، ثم اشار إلى غص قديم يابس بها، فقال أن أحدهم قام بقطعه قبل سنوات طويلة فجن، تماما مثل ثلاثة شبان حاولوا على نبش ضريح يوسف نجم الدين قبل ترميمه فجن اثنين وانتحر الثالث، وقبلهم حاول متشدد ديني (إخواني) هدمه فأصيب باعتلال نفسي يعاني منه حتى اليوم.
حتى نصل إلى أقصى طرف القرية من الجهة الشمالية لنصل إلى واجهة مرتفعة متبقية من مبنى قديم جدا، قيل أنه من بقايا حصون طيبة التاريخية ويسمى قصر (نَعمَان)، وكان فيما مضى بيتا للدرج التي يصعد منها إلى سطح القصور، وكان علينا تجاوز منعرجات صخرية وعرة للوصول إليه في حافة الجبل، وحين وصلنا إلى الواجهة غير المندثرة رأينا كيف تتماسك أحجارها الكبيرة دون مثبتات.
قال لنا النقيب أن هذا المبنى وبقايا القصور لم تسقط وتندثر بفعل عوامل الزمن الطبيعية، وانما كانت تخرَّب عمداً، بعد كل حملة عسكرية في صراع الدويلات وكان كل قائد يأمر بتشتيت أحجارها أو تركها نهبا للراغبين في استخدامها في بناء منازل في المنطقة وخارجها.
أضرحة هرمية وبقايا مسجد
عدنا من ذات المسلك هبوطا في اتجاه الغرب للوصول إلى بقايا مسجد اسماعيلي قديم ، يقال له مسجد السندي، ولم يتبق من أثره غير صهريج ماء منحوت في الصخر يهبط إليه بدرج غير مستوية، تنتهي بتجويف له فتحة اشبه بباب تنفذ للداخل، وفي محيط المكان تتناثر أضرحة شيدت بطريقة هرمية من ثلاث طبقات عليها نقوش وكتابة حروفية يصعب قراءتها.، وهذه القبور كما قال الهمداني قبور سليمانية بدرجة رئيسية
شيدت هذه الأضرحة على حافة الجبل والذي يطل منه غربا إلى واحد من مصبات وادي ظهر من اتجاه (بيت نَعَم)، ومنه يمكن مشاهدة قمم جبال مقابلة تظهر فيه بوضوح سواقٍ منحوتة من قمته حتى قاع الوادي، وفي الغالب تم نحتها لتنفيذ قنوات تصريف محكمة لمياه الأمطار النازلة من الجبل إلى قرى الوادي ومزارعه. ومن ذات الموضع يمكن مشاهدة حصن في الجهة الشمالية يعرف بحص (منيف) ويطل على قرى بيت نعم.
عدنا صعودا باتجاه الشرق للوصول إلى القرية، وكانت هذه المرة أمامنا مقبرة القرية القديمة، حيث تتميز قبورها بانها شيدت بأحجار تصل بعضها إلى ثلاثة صفوف، لهذا تبدو مرتفعة بطريقة تختلف عن كثير من القبور القديمة في معظم المناطق.
إلى خزائن المخزوف وقبوره الصخرية
قبيل الظهر غادرنا قرية طيبة في طريقنا إلى بيت نعم، وفي هبوطنا كان جبل أفئدة هذه المرة أمامنا مباشرةـ وحين اتجهت السيارة غربا وهي تصعد الوادي كانت قرية طيبة على يسارنا تطل بمهابة من أعلى على الودي وكان الأشد وضوحا في صورة القرية لون المسجد الأبيض و إطلالة المبنى الحديث.، والواجهة غير المندثرة من قصر نعمان.
استغرق وصولنا إلى قرية بيت الأمير في منطقة بيت نعم حوالي ربع ساعة، سرنا في وادي منبسط تحفه اشجار القات والمشمش ( البرقوق) واللوزيات من الاتجاهين، وكان هذا الوقت تقريبا هو بداية جني موسم البرقوق، ولهذا بدت الأشجار الضخمة بأوراقها الخضراء الداكنة وهي مثقلة بالثمار الصفراء التي بدأت بالنضوج في غاية الجمال.
تركنا السيارة في بيت الأمير، ثم هبطنا باتجاه الوادي ومنه صعودا إلى المزارع المحاذية ثم إلى جبل المخزوف ( الصعدي) ، الذي صار في سفوح قرية طيبة من الشمال ،حيث تتكاثر القبور الصخرية والخزائن الحجرية التي يعود تاريخها إلى عهد الدولة الحميرية، ومن اشهر الخزائن في الجبل خزانة الزهراء المشهورة في التراث الاسماعيلي، التي توصفها أبيات شعرية رائجة.
(كنز زهراء بنت الأزهر/ في الجدر الأعلى تحت الأسفل/ ألف حلقة ألف مدور/ ألف مكيول بالمصبَّر)
في الثانية ظهراً غادرنا قرية بيت الأمير عائدين إلى صنعاء، في الطريق كبرت في حديثنا الكثير من الأسئلة، وتختزل في مجملها في:
لماذا لا يترك للطائفة الاسماعيلية في الهند ونجران وحراز من اعادة تأهيل وترميم المعالم الاسماعيلية، وهي ترغب في ذلك اصلاً ؟
فخطوة مثل هذه يمكن أن تنشط السياحة الدينية وتخلق عشرات من فرص العمل للشبان العاطلين ، وتنشيط القطاعات المرتبطة بهذه المهنة، والأهم الحفاظ عليها من الاندثار لتبقى جزءً من الذاكرة الثقافية والتنوع الديني في اليمن.