"لم أكن أعلم أنّ من بين شبكة الألغام تلك، لغمٌ سيكون سببًا في إنهاء حياة اثنين من رفاقي وبتر أطرافي الأربعة، وقلع عيني". هكذا بدأ سليمان من أهالي مديرية شمير (غرب مدينة تعز)، حديثه لـ"خيوط"، عن المعاناة المريرة التي يتجرعها نتيجة إصابته بأحد الألغام الأرضية.
فقد سليمان ذراعيه وساقيه وعينه اليمنى وجزءًا من اليسرى، أثناء مشاركته في نزع لغم أرضي كان مزروعًا في أحد أرصفة مدينة تعز، التي شهدت مواجهات عنيفة بين قوات أنصار الله (الحوثيين) والرئيس السابق صالح من جهة، وقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا و"المقاومة الشعبية" الموالية لها في العام 2015.
منذُ سبتمبر/ أيلول 2018، يعيش سليمان (30 سنة) مأساته الخاصة بنصفِ جسد، وجزءٍ من بقايا نظر، يكابد الحياة، ويصارع جراحات أثخنت ما تبقى من جسده. هو أحد الشباب المتطلعين للحياة، والحالمين بمستقبلٍ مشرقٍ، ووطنٍ آمن يسوده الأمن والرخاء. كبُر مع أحلامه الوردية وآماله الكبيرة، مثل أي شابٍ يحلمُ بمستقبلٍ أفضل وحياة كريمة.
عاش سليمان طفولة قاسية مليئة بالتعب والمسؤولية والكفاح، وشبّ في زمنٍ يشيخ فيه الأطفال قبل أوانهم، وتندثر فيه أحلام الشباب قبل نضجها، نتيجة الأزمات السياسية التي أدت في نهاية المطاف إلى حرب أثخنت اليمن بالجراح والمآسي؛ ولأنّ أسرته من العائلات التي تمنح التعليم أولوية -رغم فقرها- تلقى تعليمه الأساسي والثانوي في مدرسته الريفية القريبة من منزله، إلى أن أكمل تعليمه الثانوي، بعدها توجه سليمان إلى مدينة تعز، حاملًا حلمه على كتفيه، ومستبشرًا بقبوله في كلية الهندسة بجامعة تعز.
يقول سليمان: "كان قبولي في كلية الهندسة أعظم إنجازاتي بنظر الآخرين، وكنتُ أظنها أولى خطواتي نحو تحقيق أحلامي في ظل مستقبل أفضل. لم أكن أعلم بأن الحرب تقتل الأحلام، وتدمر الحاضر والمستقبل". شرع سليمان في دراسته بكلية الهندسة، مترقبًا تخرجه من السنة الأخيرة؛ لكي يمنح أسرته فرحتها المنتظرة بلقب "المهندس" الذي سيحمله ويبدأ بشق طريق حياته، لكن القدر كان له تدبير مختلف.
ذات يومٍ من العام 2015، وبينما كان سليمان يستمع إلى إحدى محاضراته في الجامعة، اشتعلت الحرب في المدينة، وتوسعت دائرتها حتى أصبحت تجتاح أغلب المدن اليمنية. اقترب القتال من كل بيتٍ في مدينة تعز، حيث يقطن سليمان لأجل الدراسة، وتصاعدت أعمدة الدخان والتهمت ألسنة النيران بعض منازل المدينة جزئيًّا وكليًّا، وبدأ المدنيون يسقطون بلا أي ذنب.
يضيف سليمان: "حينها وقعت عيني على مشاهد لم أكن أتخليها، ولم أشاهدها حتى في أفلام الرعب"، وكان ذلك ما دفعه لمغادرة مقاعد الدراسة الجامعية مطلع العام 2016، والعمل مع بعض زملائه في محاولة نزع الألغام التي خلّفها حينها مقاتلو جماعة أنصار الله (الحوثيين) وصالح، في المناطق التي انتهت فيها المواجهات المسلحة.
على الرغم من نجاته من الموت بنصف جسد، إلا أن سليمان لا يزال يبحث عن بصيص أمل وثغرة نور في واقع الحرب المظلم، متنقلًا بين مستشفيات مصر والهند
وهكذا صار سليمان وزملائه يتجولون لمدة سنتين ونصف، في شوارع وأرصفة مدينة تعز، وأزقة حاراتها وحدائقها، لانتشال "القاتل المستتر" تحت التراب، وشارك بانتزاع نحو مئات الألغام بحسب حديثه.
وبحسب تقرير لمنظمة "مواطنة" لحقوق الإنسان في العام 2018، فإن "ألغامًا أرضية زرعتها جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيون) وقوات الرئيس السابق صالح، قتلت 57 مدنيًّا بينهم 24 طفلًا وأربع نساء، وجرحت 47 مدنيًّا آخرين، بينهم 21 طفلًا وست نساء، في ست محافظات يمنية".
في أحد أيام سبتمبر/ أيلول 2018، تلقى سليمان اتصالًا من أحد أعضاء فريقه، يفيد بأن هناك مزرعة بداخلها شبكة من الألغام في "حيّ الزنوج" القريب من جبل "جرّة"- شمال غرب المدينة، وأنه يجب تفكيكها لكيلا تقتل المدنيين الأبرياء الذين يتجولون في الحي.
يقول سليمان: "كان شعورٌ غريب أنني سأكون سببًا في بقاء إنسان على قيد الحياة؛ لأنّ الجميع يستحق البقاء"، مشيرًا إلى أنه وصل مع مجموعة من المهندسين وفككوا عدة ألغام في الحارة حتى وصلوا إلى آخر موقع، وكان، بحسب سليمان، على خط تماس في منطقة اسمها "الصومعة" بمنطقة "الزنوج" خلف جبل "جرة".
وعن اللغم الذي انفجر به وبرفاقه، يقول سليمان إنه كان عبارة عن "عبوة حساسة جدًّا مشرّكة تشريكًا كهربائيًّا باحتراف وعن بُعد، وتحتوي على مادة سي فور C-4، وهي مادة شديدة الانفجار وحساسة جدًّا، وكانت موجهة إلى أمامي. حاولت فصل الأسلاك عنها، لكن لأنها تتفجر عن بُعد، كانت الأقدار أسرع مني".
على الرغم من نجاته من الموت بنصف جسد، إلا أن سليمان لا يزال يبحث عن بصيص أمل وثغرة نور في واقع الحرب المظلم. يتنقل بين مستشفيات جمهورية مصر العربية ودولة الهند، علّه يستعيد بعض عافية تمكّنه من المضي قدُمًا في حياته، لكن يشعر بما وصفها "مرارة إهمال الجهات الرسمية".
أصبح سليمان طريح الفراش في مستشفيات دولة الهند بمدينة -بونا- يعتاش على الصبر، ويكابد الحياة، ينتظر لفتةً من الحكومة المعترف بها دوليًّا لاستكمال علاجه، ومساعدته في تدبير أموره المعيشية، واستكمال مشواره التعليمي، وتدارك ما تبقى من عينه اليسرى. إذ يقول إن التقارير الطبية الخاصة بعينه اليسرى تفيد بأنّ 5% من عينه ما زالت تعمل، وبحاجة إلى زرع قرنية في ألمانيا.
وتظل أطراف سليمان الأربعة وعيناه، شاهدةً على جحيم الحرب، وآثارها المأساوية. كما هي شاهدة على بشاعة زراعة الألغام ضمن أسلحة الحرب.
تحرير "خيوط"