يتسم التاريخ في مراحل مختلفة بعودة إلى الوراء. فالتاريخ ليس رصيف نهر النيفا كما يقول تشرنفسكي؛ خطّ التطور في اتجاه التقدم العام يمكن أن يتجه إلى الوراء، ويمكن أن يعبر عن الحركة الراجعة. ففي أي مجتمع مثلًا، لا تظفر القوى الطليعية الجديدة دفعة واحدة، إذ كثيرًا ما تفشل أمام قوى القديم التي تكون أكثر قوة وخبرة من الجديد الناشئ. من هنا كانت حتمية التفجرات في التطور، والتراجع المؤقت. الوطن العربي خير مثال لهذا التراجع، وربما كانت اليمن والسودان من أسوأ نماذج الخط الراجع.
لنترك اليمن جانبًا، ونقرأ محنة السودان؛ ففي الـ22 من ديسمبر/ كانون الأول 2019، انتفض الشعب السوداني، وعلى مدى أكثر من مئة يوم تواصلت الاحتجاجات السلمية حتى تمت الإطاحة بالبشير. انقلب حميدتي قائد ميليشيا الجنجويد (قوات التدخل السريع)، ومعه قائد الجيش عبدالفتاح البرهان على سيدهم. تشكل رأس الدولة من مجلس سيادة برئاسة البرهان ونائبه حميدتي، وقسم من "الحرية والتغيير" الذين قبلوا الشراكة مع العسكر. برزت الدولة برأسين غير متكافئين. نسج العسكر علاقات مع إسرائيل، وأصدقائهم العرب المطبعين والمعادين للربيع العربي. حافظ العسكر على البنية العميقة للدولة، وحافظوا على طبيعة نظام البشير، وتحالفاته مع القبيلة والكيانات الجهوية الموالية للإسلام السياسي الذين لم يكونوا بعيدين عنه.
جدل الصراع في السودان منذ الاستقلال- 1956، يتجلى بين الطموح لحكم مدني ديمقراطي يعبر عميقًا عن مجتمع السودان الفسيفسائي شديد التعدد والتنوع، وبين قوى تقليدية محافظة تريد الإبقاء على بنية ما قبل الدولة؛ وهو ما يعني بقاء الكيانات الطائفية والجهوية والإثنية على حالها، مع هيمنة طائفة أو جهة على عموم السودان الذي لا يمكن أن تحكمه طائفة أو جهة أو حزب أو إثنية. وإنه ليستحيل حكم السودان بدون الإقرار واحترام كياناته الجهوية، وأعراقه المختلفة، ودياناته المتعددة والمتنوعة، وثقافاته، ولغاته، وحتى لهجاته الكاثرة.
الأحزاب التقليدية الطائفية والجهوية وجدت نفسها عاجزة عن الحكم، فتحالفت مع العسكر، ومع القوى التقليدية في المناطق المختلفة، ولكن الانتفاضات المتكررة منذ انتفاضة أكتوبر الشهيرة عام 1964، أكدت صعوبة الحكم عبر قوى لا تؤمن ولا تحترم طبيعة الشعب السوداني، وربما كانت تجارب الإسلام السياسي الطائفي: المرغنية، والمهدية، وحكم قادة العسكر: عبود، والنميري، والبشير- الأكثر قساوة وبؤسًا في تاريخ السودان الحديث.
بدأ المدنيون التحاور مع الحركات المسلحة في العديد من المناطق، في حين عمل البرهان وحميدتي على فتح خط مع إسرائيل، وتعميق الصلات بقوى الثورة المضادة داخل السودان، ومع المحيط والدول العربية المعادية للربيع
فرضت الجبهة الإسلامية أحكام سبتمبر؛ تطبيق الحدود: قطع الرؤوس والأيدي والأرجل، وطبقت الحدود الجائرة، بما فيها حد شارب الخمر على المسيحيين: مواطنين، وأجانب، وعلى وثنيين عراة، وإقامة حد الردة على العالم الإسلامي الجليل محمود محمد طه- زعيم الحزب الجمهوري السوداني.
المتحمسون لأسلمة الجنوب بالحرب، هم ممن دفع الجنوب للانفصال، رافعين في حربهم شعار وحدة العقيدة أهم من وحدة التراب، وأضاعوا العقيدة والتراب معًا.
ما حدث في العاشر من أبريل 2019، لم يكن انقلابًا خالصًا، وإنما كان في الأساس ثورة مضادة ضد الانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ أكثر من مئة يوم ضد البشير. أُزيح البشير جانبًا مع الإبقاء على طبيعة الحكم، وانضم فريق من "الحرية والتغيير" إلى الانقلابيين، ليكونوا حكومة واجهتها مدنية، ورأسها عسكري: البرهان، وحميدتي.
استطاع المدنيون برئاسة حمدوك من فك الحصار على السودان، وإسقاط ثلثي الديون التي تتجاوز الستين مليارًا، ورفع السودان من قائمة الإرهاب، وكسب ثقة وتأييد المجتمع الدولي، وتهيئة المناخ للسلام، وتدفقت بعدها المساعدات على السودان. بدأ المدنيون التحاور مع الحركات المسلحة في العديد من المناطق، في حين عمل البرهان وحميدتي على فتح خط مع إسرائيل، وتعميق الصلات بقوى الثورة المضادة داخل السودان، ومع المحيط والدول العربية المعادية للربيع.
في يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، استيقظ الشعب السوداني على اختطاف رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، ووزراء "الحرية والتغيير" الذين قبلوا بالشراكة مع العسكر، وإعلان حالة الطوارئ، وإلغاء البنود المهمة من الوثيقة الدستورية، والعودة بالوضع إلى ما قبل انتفاضة ديسمبر 2019.
دفع الانقلابيون باعتصام أمام مجلس الوزراء قام به بعض الفلول، وهم الموالون لزعيمي حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم (إخوان مسلمون)، ومن مِنِّي أركو مناوي– منشق من حركة تحرير السودان، وكبير مساعدي البشير، إضافة إلى القيام بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها بعض الضباط كجسّ نبض أو "بروفة" للقادم، وقد استغلها العسكر لإدانة جماعة "الحرية والتغيير"، والتحضير للانقلاب الفعلي الذي سبقه أيضًا تمرد في شرق السودان قامت به "قبائل البجا" بزعامة الناظر ترك- أحد أتباع البشير.
فور الانقلاب خرج الشعب السوداني في معظم مدن السودان، وكانت مليونيته يوم السبت 3 أكتوبر/ تشرين الأول، ذروة هذه الاحتجاجات، وتظافرت هذه الاحتجاجات مع احتجاجات المَهاجر السودانية في المدن الغربية، ويتصاعد الدولي: الأمريكي، والأوروبي الداعي للدعوة إلى عودة العسكر إلى الثكنات، واحترام الحكم المدني، والتراجع عن الانقلاب الذي أسماه مجلس الأمن "الاستيلاء على الحكم"، وكان طلب مجلس الأمن بالإجماع الإفراج عن المعتقلين، وعودة الحكم المدني، ويتوقع تصاعد الاحتجاجات، وأن يتصاعد الضغط الدولي على قادة الجيش والداعمين العرب المعادين لشعوبهم وأمتهم؛ فهل تكون انتفاضة السودان بداية ربيع عربي يغمر الأرض والأمة العربية كلها.