"أحلم أن أصبح مشهورًا"، بنطق سريع يصاحبه ارتجاف بالصوت، يبدأ حُسام، ذو السادسة عشرة من عمره (اسم مستعار)، حديثه بارتباك لـ"خيوط"، فالفتى تعرض لتشوه بإحدى ذراعيه؛ أثناء التهام الحريق منزله، حينما كان يلعب بالكبريت في طفولته بالقرب من مواد قابلة للاشتعال.
على إثر ذلك، تعرض حُسام لصدمة نفسية عقب الحادثة، والتي أدّت إلى ظهور مشكلة التأتأة "التلعثم" لديه؛ تكرار حروف معينة عند الحديث، أو التوقف أثناء الكلام لأنه وصل إلى كلمة يصعب عليه نطقها، إضافة إلى اصطدام حسام بطريقة التعامل المجتمعي، وقلة الوعي الذي يتسبب في تصنيف "المتلعثمين" بأنهم أقل ذكاء، بسبب عدم طلاقتهم في الكلام؛ بخلاف ما تصنفه الدراسات التي أجريت بهذا الخصوص والتي تعتبرهم أذكياء أعلى من المتوسط.
وتُعرف التأتأة بأنّها خلل يصيب طلاقة الكلام ويعيق تدفقه بسبب ثقل اللسان، فيفقد الطفل القدرة على السيطرة، لذا يقوم بتكرار الحرف أو الكلمة، وأحيانًا الجملة بشكل لا إرادي. وممّا يفاقم من مشكلة التأتأة أو التلعثم هو عدم تركيز الأسرة على المشكلة أو التدخل عند التركيز بشكل خاطئ، كالتساؤل والتهجم أو السخرية .
ويواجه الآلاف من الأطفال والمراهقين في اليمن، اضطراب النطق والكلام لأسباب عدة، طبية واجتماعية ونفسية، كما أنّ للحرب والصراعات الداخلية والنزوح دورًا في تزايد عدد الإصابات بالتلعثم أو التأتأة إلى حدٍّ ما، حسب ما جاء في الاستبيان الذي أجرته "خيوط".
يضاهي دور المعلم في المدرسة دور الأم في المنزل، من خلال التخفيف من توتر المتلعثم وطمأنته، وأيضًا تحفيزه حتى وإن تعرض للتنمر بسبب إصابته بالتأتأة أو غيرها من المشكلات، عن طريق استخدام الأسلوب الهادئ معه، وخلق بيئة حاضنة تشعره بأهميته وتميزه.
ويحتفل العالم باليوم العالمي للتأتأة يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، إذ يعد التلعثم أو اضطراب النطق مشكلة عالمية، حيث يبلغ عدد المتلعثمين حول العالم ما يقارب 70 مليون أي 1% من سكان العالم، وتشكل نسبة إصابة الذكور أربعة أضعاف إصابة الإناث.
كما تم اعتماد شعار ذي لون أخضر مزرّق لإظهار العلاقة بين السلام والحرية من أجل دعم المجتمع ورفع مستوى الوعي العام، بهدف الحصول على أشخاص يفهمون ويتبادلون تجاربهم .
في اليمن، تغيب الجهود والفعاليات التي تهدف إلى مساندة وتأهيل هذه الشريحة من مرضى التلعثم، إضافة إلى غياب الإحصائيات الرسمية حول عدد المتلعثمين في اليمن، ومستوى تزايد أو انخفاض عدد من تلازمهم مشكلة التأتأة.
تنمُّر وصَمْت
يتعرض العديد من الأطفال والمراهقين في اليمن للتنمر بسبب إصابتهم بالتأتأة أو التلعثم، وهو ما يجعلهم أكثر انطوائية من رفاقهم بالعمر داخل المجتمع، سواء كان التنمر من العائلة أو المدرسة، كما في قصة يوسف عبدالله (14 عامًا)، والذي استقصت "خيوط" معاناته من ظاهرة التنمر على طريقته في الكلام من قِبل بعض أفراد عائلته، والذين جعلوا إصابته بالتأتأة مادة دسمة للتندر والسخرية، غير آبهين بفهم مشكلته ومعالجتها.
هذا الأمر جعل يوسف يلتزم الصمت ويتجنب الحديث معهم، ويتغيب عن اجتماعاتهم العائلية، ورغم دعم والدته الدائم له والسعي لإيجاد حل لمشكلته عن طريق البحث والاطلاع، فإنّ يوسف يشعر بالخجل والتوتر عند التحدث معه أو توجيه سؤال مفاجئ له، خاصة في المدرسة.
تقول والدة يوسف لـ"خيوط"، إنه أصبح شديد الحساسية والخوف، حتى عندما يطرح عليه المعلمون سؤالًا أثناء الحصص الدراسية، فإنه يبدأ بالتوتر والتلعثم، وهذا يجعل بعضهم يصرخون في وجهه، ويتهمونه بالتهرب من الإجابة لأنه لم يذاكر، وتزيد معاناته مع بداية كل عام دراسي جديد، مضيفًة أنّ ذلك أدّى إلى اهتزاز ثقته بنفسه وكرهه للمدرسة بسبب التعليقات المضحكة من قبل أصدقائه في الصف الدراسي، وهو ما اضطرها لنقله إلى مدرسة أخرى جديدة وشرح حالته للأخصائي الاجتماعي في المدرسة والذي ساهم في تحسن نسبي في حالته.
على النقيض، لا تزال براءة (12 عامًا)، تقاسي من ظاهرة التنمّر، والتي جعلتها حبيسة المنزل بعد أن تركت الدراسة في الصف الرابع؛ بسبب ما تعرّضت له من تنمّر من قِبل الطالبات.
تقول شقيقتها لـ"خيوط": "كان الجميع في المدرسة يسخر من كلام براءة، ويضحكون عليها، حتى معلمتها، وهو ما جعلها تخاف الخروج من المنزل".
تتابع حديثها: "حاولنا إيجاد مدرسة أخرى جديدة لها، فرفضت بشدة، لكن والدي أرغمها على الذهاب للمدرسة، وعند عودتها ذات مرة رأيناها تصرخ بكلام لا نفهمه وتشنّجت حتى سقطت أرضًا، حينها خاف والداي عليها، وتركاها براحتها".
فضلت براءة العيشَ بين جدران منزلها الصغير، بعد أن أُطلق عليها في الصف وصف "الغبية، والعجماء (الخرساء)"، وكان للتصرف اللانساني للمعلمة التي سخرت من براءة أمام زميلاتها، دورٌ كبير في القضاء على مستقبلها الدراسي، فبدل أن تكون لها الدواء، فاقمت من انتشار الداء.
ويضاهي دور المعلم في المدرسة دور الأم في المنزل، من خلال التخفيف من توتر المتلعثم وطمأنته، وأيضًا تحفيزه حتى وإن تعرّض للتنمّر بسبب إصابته بالتأتأة أو غيرها من المشكلات، عن طريق استخدام الأسلوب الهادئ معه، وخلق بيئة حاضنة تُشعره بأهميته وتميزه. كما ينبغي على المعلم أن يكافح ظاهرة التنمر من خلال التوعية والتثقيف بأخطارها ونتائجها السلبية على المجتمع.
في هذا الخصوص، تشير أنسام الشيباني، مُعلِّمة، لـ"خيوط"، إلى أنّ مثل هذه الممارسات كالتنمّر داخل الفصول الدراسية تؤثر على المستوى الدراسي لمن يتعرضون لها، وهنا يأتي دور المعلمين في المدارس في التصدي لمثل هذه الممارسات، والحديث مع الطلاب والطالبات، وتوضيح مشكلة من يعانون من "التأتأة" أو التلعثم، وهو ما قامت به وزميلاتها المعلمات في المدرسة التي يعملن فيها، إذ تم شرح وتوضيح معاناة إحدى الطالبات التي كانت تتعرض للتنمر من قبل زميلاتها، فأدّى إلى تعاطف زميلاتها وتغير علاقتهن بها بشكل كبير.
انتشار ومعاناة
تعتبر التأتأة (التلعثم) من الإصابات الشائعة لدى الأطفال دون الخامسة من العمر كحالة طبيعية؛ نتيجة للتطور اللغوي المستمر وتضاعف عدد الكلمات التي يكتسبونها في سنواتهم الأولى، إلا أنّ استمرار هذه الإصابة يتحول لحالة مرضية مزمنة قد تستمر إلى مرحلة المراهقة وما بعدها.
صلاح الجبري البالغ (22 عامًا)، يعاني من مشكلة التلعثم، وفاقمها إهمال وتأخر عائلته في عرضه على الأطباء في وقت مبكر، إذ أثّرت سلبًا على حياته بشكل عام، خاصة في فصول وقاعات الدراسة والعمل، فصلاح أُهمل وتأخرت عائلته من عرضه على الأطباء.
مع مرور الوقت، تفاقمت حالة صلاح وزادت معاناته في التخاطب والقدرة على التحكم بالكلام بصورة كبيرة، وذلك بعد أن دُمج مع أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة في إحدى المراكز التدريبية، والذين يفتقرون للإدراك والحركة معًا، بعد أن رفضته المدارس العامة بحُجة أنّ المعلمين لا يفهمون كلامه، وقد اتضح لعائلته عقب إجراء الفحوصات والأشعة اللازمة عند تجاوزه العاشرة من عمره، أنه فقد التناسق الوقتي والحسي والحركي؛ نتيجة تشوهات في الجزء المتحكم في حركات الكلام منذ طفولته إثر تعرضه لحُمّى شوكية.
وقد سبّب تأخر صلاح في تلقي العلاج لاضطرابات في جزء من الدماغ، وما زاد من حدة مشكلته هي عملية الدمج، التي أثرت عليه نفسيًّا وجسديًّا واجتماعيًّا .
يتطرق استشاري أمراض نفسية وعصبية إلى ما يمثله المجتمع من عدم الوعي الذي ينعكس في طريقة التعامل مع من يعانون من هذه المشكلة، ومدى تأثير ذلك بشكل سلبي على الأطفال، خصوصًا لدى التحاقهم بالمدرسة، إذ قد تتفاقم مشكلتهم بنسبة 100%، في حال لم تكن المدرسة حاضنة له ومتفهمة لحالات التلعثم، خاصة مع تواجد التنمُّر.
ويقسم الأطباء التأتأة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، منها: التأتأة النمائية والتي تختفي دون الحاجة إلى علاج، وتنتشر بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 6 سنوات، بالإضافة إلى ذلك التأتأة العصبية والتي تنتج بسبب وجود خلل في الإشارات المرسلة بين الأعصاب والدماغ والعضلات، وهي تحتاج إلى تدخل طبي، وأيضًا التأتأة النفسية، والتي تحدث من الجزء الخاص بالتفكير والاستنتاج في المخ، وهي الأكثر انتشارًا .
وتكثر قصص المصابين بالتأتأة، وبالرغم من اختلاف أسبابها، فإنّ المعاناة واحدة، إذ لا فرق بينهم، فترى غالبية المتلعثمين يتشابهون في صفاتهم؛ لأجل ذلك لا يفضلون التواصل مع الآخرين، كما أنّهم يشعرون بالقلق الدائم، ويتجنبون المواقف التي تتطلب منهم الحديث أو الإجابة عن الأسئلة .
على النقيض، فإنّ البعض منهم قرر أن يتجاوز مشكلة التأتأة بعدم الاكتراث لها، كجمال الحيدري، الذي اتخذ منها أسلوبًا لجذب انتباه الآخرين حوله من الطلاب، وإلقاء النكت عليهم، وتقليد بعض الشخصيات الكوميدية، وما ساعده على ذلك انتشارُ ظاهرة التلعثم والتأتأة بين أفراد عائلته.
صدمات نفسية واجتماعية
يعيش الكثير من الناس صراعات نفسية تؤدي إلى الانطفاء وعدم الرغبة في استمرار الحياة والخوف من المجهول؛ بسبب مشكلات تعرّضوا لها في مرحلة الطفولة دون الاكتراث لمعالجتها بحجّة أنّها عادية، غير مبالين بما تؤول إليه في المستقبل، وما تنعكس به من أضرار على نفسية الطفل الذي تعرض لها .
فمحمد الذي نشأ في بيئة قاسية مليئة بالعنف والصراخ، وفي ظل انفصال والديه، عانى كثيرًا بسبب التعليقات السيئة التي كان يسمعها ممّن حوله، إذ لا يزال الأثر واضحًا عليه، رغم تقدم عمره ومرور الزمن .
في السياق، يرجع الدكتور عمرو الخرساني، استشاري الأمراض النفسية والعصبية، أسباب التأتأة، في حديثه لـ"خيوط"، إلى النظام الحيوي البيئي الاجتماعي والنفسي، وتنتقل بنسبة وراثية من الأسر إلى الأبناء، ولكن ليس بشكل كبير، ولا تقتصر أسباب التلعثم -وَفقَ الخرساني- على العامل الوراثي فقط، حيث للبيئة التي نشأ فيها الطفل دور أيضًا، فبعد تجاوزه الثالثة من عمره يلاحظ عليه التأتأة بعد أن كان كلامه في السنوات الأولى والثانية طبيعيًّا، وهذا يعود لاكتسابه كلمات كثيرة تضغط على قدراته اللغوية البسيطة، لذا فإن تم التركيز على ما يقوله ويتفوه به والتعليق السلبي عليه، فستزيد نسبة التأتأة لديه لتصل إلى 10% من كلامه.
ويتطرق إلى ما يمثّله المجتمع من عدم الوعي الذي ينعكس في طريقة التعامل مع من يعانون من هذه المشكلة وتأثير ذلك بشكل سلبي على الأطفال، خصوصًا لدى التحاقهم بالمدرسة، إذ قد تتفاقم مشكلتهم بنسبة 100%، في حال لم تكن المدرسة حاضنة له ومتفهمة لحالات التلعثم، خاصة مع تواجد التنمر.
ويصف ذلك بالكارثة الخفية مع تطور مراحل التلعثم نتيجة التعليقات السلبية، وتتحول إلى مشكلات نفسية لا تقتصر فقط على صعوبة الكلام بل تصل إلى الاستطالة، حيث يبدأ المصاب بالتشنج وترجرج العينين والشد على الرقبة، وكل هذا ينعكس على صحته الجسدية والنفسية معًا.
وتعزز المشاكل النفسية للطفل، كالعنف الأسري وعدم الأمان، من تطور مشكلة التأتأة ومشكلات نفسية أخرى لا يصبح التعافي منها سهلًا في الكبر، بَيدَ أنّ حلها في الطفولة يسهم في صقل شخصية من يعانون منها، وتلافي أزمات مستقبلية مؤثرة.
فضلًا عن ضرورة الإدراك أنّ التلعثم والتأتأة وغيرها من المشكلات، ناتجة عن خوف وخجل وقلق بسبب بيئة سيئة منذ الصغر ومجتمع لا يبالي، ويجعل من كل ما هو مميز محلًّا للسخرية والاستهزاء، لم تكن التأتأة عيبًا ولا قصورًا وإنّما حالة تزول بزوال المسبب، وبناء على ما تقدّم يقول الدكتور الخرساني؛ أنّ المشاكل البسيطة يمكن التغلب عليها بسهولة، من خلال عرضها على طبيب نفسي أو أخصائي نفسي.
وينبه إلى أنّ أهم مرحلة في العلاج هي العائلة؛ لذا عليها عدم التهجم على الطفل ومخاطبته بهدوء، ومن لم يستطع الذهاب للطبيب، فهناك بدائل كثيرة، منها مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة كيفية العلاج، إضافة إلى أهمية إدراك خطورة وتبعات التعامل السلبي والتنمّر، خصوصًا على الأطفال، وانعكاس ذلك، مع مرور الوقت والإهمال وعدم الاهتمام، إلى مشكلة يصعب حلها.