استوقفتني تغريدة رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم على منصة (إكس)، عن الموقف العربي والخليجي على الخصوص، مما يدور في المنطقة. والتغريدة في خاتمة المطاف ليست أكثر من بكاء على أطلال السيادة المفقودة، فالعرب ليس لهم رأي حول ما يدور فعلًا في المنطقة، من فلسطين إلى العراق ومن سوريا إلى اليمن؛ وذلك "نتيجة حتمية لتهميش القضية الفلسطينية وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني...". وبدلًا من أن يحدد أسبابًا واضحة، يلقي باللائمة على سياسات تكتيكية قاصرة لأطرافٍ لم يسمِّها، أضعفت "موقفنا وجعلتنا" مجرد خدم لتنفيذ سياسات محددة لغيرهم. ولم يبين ما إذا كان هذا الوضع قد تم تصميمه برغبة العرب أم رغمًا عنهم.
وعندما يرى بوجوب توفر "سياسات عملية فاعلة، لا تقتصر على المواقف الإعلامية، بل تؤثر على الشارع العربي وتحركه"، فإنه يقفز على واقع أن أغلب الأنظمة العربية، والخليجية خصوصًا، مصممة لتخاف الشارع أكثر من أي شيء آخر. هل يستطيع أن يتحرك في حضرتها؟
وكأن احتلال فلسطين ليس بالحجة الكافية حتى تنقص العرب "دول تتسلح بحجج قوية وسياسات راسخة لحل القضية الفلسطينية" تعبر عن أن العرب مستاؤون من "استمرار بعض الجهات في مواصلة سياسات منحازة لإسرائيل بكل رعونة"، وهنا مرة أخرى لا يريد أن يذكر الحلفاء الغربيين صراحة، بل استعار مفردة "الجهات"، فكيف يستقيم الحديث عن الشجاعة؟!
إيقاف الحرب على غزة كيفما كان، هو أقصى ما يمكن أن يحلم به بعض الساسة العرب، وليس نصرة الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال، ويتمنون أن يكون لديهم (دول) تمتلك حججًا قوية لحل القضية الفلسطينية، فالاستعمار كما يبدو ليس حجة قوية وكافية.
إن الاكتشاف المتأخر لابن جاسم، جاء في ختام منشوره؛ أن النظم العربية عاجزة "عن الفعل تمامًا، حتى إن جنوب إفريقيا هي التي تقدمت بدعوى جرائم الحرب ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، ولم تفعل ذلك أي جهة عربية، وحين نضطر إلى الإعلان عن موقف مؤيد لما قامت به جنوب إفريقيا، فإننا نفعل ذلك على استحياء، ونقول: "نحن ليس لنا علاقة بل أُحرِجْنا فاضطُررنا"، في تبرير واضح لمن نريد أن نبرر له". لكن بالمقابل، يبرز موقف ناميبيا القوي أمام ألمانيا التي عبّرت عن أسفها "لعجز ألمانيا عن تعلم دروس تاريخها الرهيب"، وقال الرئيس الناميبي، هاكه كينكوب، إنه "صدم" بقرار ألمانيا "رفض الاتهام العادل أخلاقيًّا الذي وجهته جنوب إفريقيا"، وقالت رئاسة ناميبيا: "إن ناميبيا ترفض دعم ألمانيا لنوايا الإبادة الجماعية التي تنتهجها دولة إسرائيل العنصرية ضد المدنيين الأبرياء في غزة"، هذا الموقف لم تبديه أي دولة عربية أو إسلامية. بعض العرب يخوض في القضية من زاوية رد الفعل لتبرئة ساحته.
مع هذا، لا بد من العروج على الوضع العام الحالي، الذي لا يريد البعض النظر إليه بشمولية، ويقصر الأمر على الشرق الأوسط فحسب، دون قراءة التأثيرات المتبادلة لحركات اللاعبين على مربعات شطرنج المسرح الدولي، فتراه مستغرقًا في أوهام لا حصر لها حول وضعه المحوري في معادلة الحرب والسلام.
وجهت روسيا الاتحادية عبر مندوبها الدائم، نصيحة للحوثيين بوقف هجماتهم، وتنفيذ البيان الصادر عن أعضاء مجلس الأمن. النصيحة الروسية مبنية بالتأكيد على تجارب الخداع الأمريكي البريطاني في حالات مماثلة لاستخدام قرارات مجلس الأمن كذريعة للقيام بأعمال عسكرية مباشرة بدون تفويض صريح.
أثناء استجوابه أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني، سُئل ديفيد كاميرون، عما إذا كان قد رأى أي دليل على انتهاك إسرائيل للقانون الإنساني الدولي، رفض وزير الخارجية البريطاني الإجابة على هذا السؤال بشدة. ووفقًا لجون رينتول، المعلق السياسي للإندبندنت، فإن كاميرون "لا يمكنه أن يتهم الحلفاء بارتكاب جرائم حرب. ستخسر المملكة المتحدة حينها أي نفوذ متواضع لها على الحكومة الإسرائيلية"، بينما تطوع بعض العرب بإسراف لإدانة حماس بارتكاب أعمال وحشية، وكأن حماس هي التي تحتل إسرائيل وليس العكس. لكن كاميرون عوضًا عن الاعتذار عن الجريمة البريطانية بحق العرب وفلسطين، قرر الاستماتة في الدفاع عنها، ففي ردّه على سؤال قناة سكاي نيوز، عن مدى اتفاقه مع وجهة نظر جنوب إفريقيا، بضرورة محاسبة إسرائيل أمام محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة، قال: "لا، أنا لا أوافق على ذلك مطلقًا".
غداة قرار مجلس الأمن الداعي للوقف الفوري للهجمات التي يشنّها الحوثيون في البحر الأحمر (بدواعي مساندة غزة)، وجهت روسيا الاتحادية عبر مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، نصيحة للحوثيين بوقف هجماتهم، وتنفيذ البيان الصادر عن أعضاء مجلس الأمن. النصيحة الروسية مبنية بالتأكيد على تجارب الخداع الأمريكي البريطاني في حالات مماثلة لاستخدام قرارات مجلس الأمن كذريعة للقيام بأعمال عسكرية مباشرة، بدون تفويض صريح بذلك، ومبنية كذلك على معلومات استخبارية موثوقة وحسابات جيوسياسية دقيقة. لكنّ الحوثيين تجاهلوا تلك النصيحة. لقد سبق أن تجاهلت القيادة اليمنية نصيحة روسية مماثلة بعدم التمادي في التنازع حول زعامة المؤتمر، وعدم الانجرار إلى مناكفات داخلية متزايدة تقود لتعميق فجوة التنافر.
ولم تتأخر الولايات المتحدة وبريطانيا في استخدام 2722، فبدأت في اليوم التالي لصدوره، بشن هجمات صاروخية على مواقع في اليمن بمعية بريطانيا ودول أخرى، وهذه الضربات تكررت يوم 23 يناير الجاري بدعم عدد من الدول المتحيزة لإسرائيل، التي وصفها ابن جاسم بـ"بعض الجهات".
ولولعها بالأساطير، فقد أطلقت الولايات المتحدة على عمليتها في اليمن اسمًا أسطوريًّا مأخوذًا عن الميثولوجيا الإغريقية: (قوس بوسيدون)، بما يعني أن العملية سيطول أمدها وفقًا للأهداف المأمول تحقيقها في المنطقة، ليس بينها على كل حال حماية الملاحة الدولية. كانت الملاحة الدولية معرضة للخطر على الدوام منذ بداية الحرب في اليمن، وتجاهلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأمرَ تمامًا حتى عندما تعرضت أرامكو لضربات الحوثيين، بالرغم من خطورتها على سوق النفط العالمية.
الهجمات الأمريكية-البريطانية تتم وفقًا لتفسير الدولتين للقرار 2722، وإعمالًا للتحالف الذي تم إنشاؤه مسبقًا، مع أنّ ذلك القرار لا يعتبر تفويضًا بشنّ ضربات، فإنه حسب الخبير المصري محمد عبدالواحد؛ يمثّل سابقة من حيث بعض المفردات المستخدمة في صياغته، وقد حاولت روسيا إدراج ثلاثة تعديلات على القرار؛ للحيلولة دون إساءة تفسيره واستخدامه، ولكن تم وأد التعديلات المقترحة.
وليس من المصادفة أنّ الأهداف التي يتم قصفها هي نفسها التي قُصفت من قبل التحالف العربي؛ أي إنّ تلك الأهداف حددتها الاستخبارات الغربية وليس التحالف، وكما كان حال ضربات التحالف فإنّ الضربات الأمريكية لن تضرّ الحوثيين قدر إضرارها بحياة الناس؛ الأمر الذي سيدفع لتعزيز (فكرة) الحوثيين؛ أن التحالف والغرب وجهان لعملة واحدة.
ما يجري سيرفع منسوب النقمة على التحالف والغرب عمومًا، ويعزز من التعاطف مع الحوثيين وإكسابهم شعبية إضافية "بحُجّة" أنهم يواجهون أعداء الدين ويتعرضون لما تتعرض له غزة، بينما كان بمقدور الولايات المتحدة وبريطانيا التأكد من مصداقية مبررات الحوثي قبل الإقدام على الهجوم، وكان إيقاف الحرب على غزة كفيلًا بذلك، وأقل كلفة.
ويقول محمد عبدالواحد إنّه تم استخدام عبارة "الإحاطة علمًا بحق الدول في الدفاع عن سُفنها ضد الهجمات"، ومجلس الأمن بهذه الجملة -وفقًا للخبير- "أعطى شرعية لعسكرة المنطقة، والسيطرة على واحد من أهم الممرات المائية في العالم، وهذه كانت رغبة أمريكية وبريطانية للتواجد في منطقة مضيق باب المندب"، وأكثر من ذلك فإن بمقدور أي دولة، حسب هذا القرار، أن تشن الحرب في أي وقت بحجة حماية سفنها أو حتى سياراتها؛ أي سنعود مرة أخرى إلى أكذوبة "داريا دولت". وفي الوقت نفسه، تم تجاهل الحرب على غزة والفظائع الإسرائيلية في بقية الأراضي المحتلة، أو أن قيام التحالف الدولي أملته الحرب على غزة، والدفاع عن إسرائيل أحد أهدافه غير المعلنة.
الحوثيون يسوقون عملياتهم في البحر الأحمر بمبررات مقبولة جماهيريًّا باعتبارها دعمًا لفلسطين، وقد لوحظ أنّ البعض أخذ يحوّل بوصلته باتجاه الحوثيين، باعتبارهم الحصان الأسود في اللحظة الراهنة.
لا تخفى الأهداف الجيوستراتيجية والعسكرية لكلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل، من العمل على استصدار هذا القرار؛ ذلك أن السيطرة على الممرات المائية، وباب المندب بينها، وفقًا لعبدالواحد، ليس المقصود منه الحوثيون بالضرورة، بل "إضعاف النفوذ الصيني وتهديد التواجد الصيني والممرات البحرية من عبور التجارة الصينية من أماكن أخرى"، والإحاطة بروسيا جنوبًا وتهديد الوجود الروسي في المنطقة، وكان وزير الدفاع البريطاني وجّه حديثه لروسيا "أن بريطانيا لن تغرق في البحر الأحمر"، وأن بريطانيا تحقق تقدمًا استراتيجيًّا.
لكن تبعات تفسيرنا لهذا القرار هي التي سيكون لها بالغ الأثر على مجريات الأحداث في البلاد، فالحوثيون يسوقون عملياتهم في البحر الأحمر بمبررات مقبولة جماهيريًّا باعتبارها دعمًا لفلسطين، وقد لوحظ أن البعض أخذ يحوّل بوصلته باتجاه الحوثيين باعتبارهم الحصان الأسود في اللحظة الراهنة. هذا بحد ذاته يشكل مكسبًا للحوثيين على بقية الأطراف التي سارعت إلى الإشادة بالقرار ومباركة الهجوم الأمريكي البريطاني، كما أنّ ردود أفعال بعض الدول، مثل السعودية والإمارات، التي "عبرت عن قلقها وتدعو إلى ضبط النفس..."، تفسَّر على أنها مباركة مبطنة للعمليات العسكرية البريطانية، وتتناقض مع بيان الخارجية العمانية الذي قال إنّ عمان "لا يمكنها إلا أن تستنكر اللجوء لهذا العمل العسكري من قبل دول صديقة، بينما تتمادى إسرائيل في قصفها وحربها الغاشمة وحصارها لقطاع غزة دون حساب أو عقاب".
يمكن أن تنعكس تداعيات هذا الوضع على ما سمّي "خارطة طريق" للسلام في اليمن، فموقف الوسيط العماني يمكن أن يتأثر أو حتى يعتريه بعض الميل عن الحياد الذي سلكه منذ البداية، وقد بدأت تظهر بعض ملامح ذلك الميل، كما أنّ الدور السعودي المتنكر بصورة (الوسيط) يمكن أن يتراجع في مواقفه المعلنة (على أقل تقدير) باتجاه تعزيز مصالحه الخاصة من الحرب ككل، وسيركز جهوده للاستحواذ على منفذ إلى بحر العرب، وسيكون من السذاجة الاعتقاد أن ما يجري سيقود الأطراف المحلية نحو سلام يمنيٍّ يمنيّ؛ لأنّ ذلك يتطلب تحرر هذه الأطراف نفسها من تبعيتها، ربما تتغير صورة التحالفات القائمة فقط. وهكذا فإنّ تعطيل مسار السلام سيخدم بالضرورة، مجموعة المصالح المناهضة لإيقاف الحرب.
لقد صادرت قرارات مجلس الأمن حول اليمن والمستندة على البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، (حقَّ السيادة) على الأطراف اليمنية، ومن ثمّ فإن كثرة الحديث عن السيادة سواء في البر أو البحر هو مجرد ثرثرة إلى أن يتم إنهاء العمل بتلك القرارات. وبهذا الصدد، فإن جميع الأطراف المحلية لا تملك أي أوراق للمساومة في إطار الصراع الدولي المحتدم اليوم، والذي يمتد عبر العالم من بحر الصين ومضيق تايوان والمحيطَين الهادي والهندي، مرورًا بمضيق هرمز وباب المندب.
هناك الكثير من المساومات سيشهدها العالم في كثير من الملفات، ستديرها الولايات المتحدة والصين وروسيا وإيران. الأطراف اليمنية جميعها ربما لن تكون أكثر من أوراق للمساومات القادمة، وقد لا ينجو منها أحد.
