يطوف عبده زيد المقرمي، شوارع صنعاء كل صباح، باحثًا عن نفايات العلب والأكياس البلاستيكية، ومن ثَمّ يقوم بجمعها في أكوام كبيرة جدًّا ويبيعها إلى مصانع البلاستيك بأسعار بسيطة ويقتات منها، يقضي أكثر من 12 ساعة يوميًّا في البحث بين النفايات عن أي بقايا طعام لسد جوعه، معتبرًا أن هذا العمل أخلاقي، يُحتم عليه ممارسته من أجل نظافة المدينة، قبل أن يكون مصدر رزق.
المقرمي أحدُ أقدمِ وأهم موظفي وكوادر الصحة النفسية بديوان عام وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء، وجد نفسه فجأة مرميًّا في رصيف الشارع، وتحديدًا رصيف ساحة الجامعة، الشارع الذي خرج منه، هو والكثير من الثوار، يبحثون عن حياة كريمة ومستقبل أفضل، في الـ11 فبراير من العام 2011.
يقول المقرمي في حديثه لـ"خيوط"، أنه اتخذ من ساحة الجامعة مقرًّا له بعد أن ساءت عليه الأوضاع المعيشية وانقطع راتبه في العام 2016، فالشارع -حسب قوله- ملك للجميع، لا سيما من لا يمتلك مأوى، ويضيف أنه هو الأحب إليه، وذلك لارتباطه بالثورة والأحلام المسلوبة التي خرجوا من أجلها في فبراير.
المقرمي من أوائل الثوار الذين خرجوا إلى ساحة الحرية للمطالبة بإسقاط نظام علي عبدالله صالح الذي استمر 33 عامًا، ولكنه من أواخر الثوار الذين تركوا الساحة، وفي هذا الصدد يقول، إن قلبه ظل مرتبطًا بالساحة حتى بعد أن سقط النظام وانسحب الثوار من الساحات وعادوا إلى منازلهم ومناطقهم. ظل المقرمي في خيمته أمام جامعة صنعاء حتى أغسطس من العام الماضي 2020، ثم انتقل منها، وذلك بعد أن استأجر دكانًا صغيرًا يدير عمله منه.
تعدد الحكومات
يقول المقرمي، إن عمله هذا يجب أن يلقى اهتمامًا كبيرًا من قِبل الجهات المعنية، وذلك لاعتبارين الأول تحسين المنظر العام للمدن وغرس ثقافة النظافة عند الناس، والثاني لتعلم كيفية إدارة النفايات التي يمكن إعادة تدويرها، وأن تعود بالمقابل المادي على الكثير من الأسر والأفراد، لا سيما في مع تردي الوضع الإنساني والمعيشي في اليمن.
يتحدث المقرمي ساخرًا، "كثرت الحكومات منذُ بداية الحرب، ولم تنجح أي حكومة في إيجاد حل للمواطن، خاصةً من ليس لديهم مصدر دخل؛ لذا يجب أن تكون هناك حكومة نفايات موازية، كحكومة الأطفال والشباب وغيرها من الحكومات"
وتمر اليمن بوضع إنساني سيئ، منذ اندلاع الحرب في العام 2015، حيث تصنف الأمم المتحدة اليمن بأنها أسوأ حالة إنسانية، بالإضافة إلى أن هناك حوالي 24 مليون مواطن يمني؛ أي ما يقارب 80% من السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، حسب المفوضية السامية للحقوق الإنسان.
ويضيف المقرمي ساخرًا: "كثرت الحكومات منذُ بداية الحرب، ولم تنجح أي حكومة في إيجاد حل للمواطن، خاصةً من ليس لديهم مصدر دخل؛ لذا يجب أن تكون هناك حكومة نفايات موازية، كحكومة الأطفال والشباب وغيرها من الحكومات".
بدأ المقرمي مؤخرًا بشراء النفايات من الناس وبيعها للمصانع بفارق سعر بسيط، ويقول إنه يحفز الأطفال على أن يجمعوا النفايات ويبيعوها، بدلًا من رميها؛ وذلك من أجل غرس قيم النظافة عند الأطفال ومن أجل مساعدتهم في مصاريفهم المدرسية.
وأصبحت النفايات في الفترة الأخيرة تشكل مصدرًا مهمًّا للكثير من الأسر في صنعاء بعد أن لجأ الكثيرون إليها، لا سيما في ظل انعدام فرص العمل، وتعتبر النفايات مصدرًا مهمًّا للدخل القومي على الفرد والبلد بشكل كلي، حسب حديث محمد صالح، وهو مسؤول المشتريات في أحد مصانع البلاستيك في صنعاء، ويضيف صالح لـ"خيوط" أن النفايات بشكلٍ عام، ونفايات البلاستيك بشكل خاص، ثروة مهدورة في اليمن، يجهل الكثيرون عن أهميتها، لما لها من دخل قومي على الفرد والدولة، وذلك لسهولة إعادة تدويرها وصناعتها من جديد وعدم تلفها بسهول.
ليس الوحيد
المقرمي ليس الوحيد، من بين آلاف الثوار، الذين حالت بهم الأوضاع وأوصلتهم إلى هذا الوضع، هناك غيره الكثيرون؛ عبداللطيف العبصري هو الأخر، تحول من رسام ينحت ملامح الثورة والنضال في رسوماته إلى رسم الأشخاص "البورترية" في دكانه الصغير في شارع الجامعة.
يقول العبصري لـ"خيوط"، إن الثورة كانت، ولا تزال، من ألهمته للعمل الفني، وخلقت فيه روح الإبداع بهذا المجال منذُ أول أيام الانتفاضة الشعبية، ويضيف أن الحماس والأجواء الثورية هي من تخلق روح الإبداع لدى أي شخص، يتحول وقتها الفن إلى عمل ثوري يجب عليك القيام به لأجل الثورة والثوار والنضال.
رسم العبصري الكثير من اللوحات الفنية والتشكيلية التي تعبر عن الثورة والنضال وتحمل في مدلولها الكثير من المعاني، لوحات الشهداء والأسرى والثوار والثورة كانت حاضرة في خيمته، حسب ما يقول، الآن تحول حلمه من أن يصبح يومًا ما فنانًا ثوريًّا كبيرًا إلى فُتات، وأصبح يبحث عمن يرسمه مقابل المال من أجل العيش.
الأحلام المسروقة
رفع ثوار فبراير شعار الثورة الذي خرج تحت مظلته ملايين اليمنيين بمختلف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والطائفية، يبحثون عن الدولة المدنية دولة المواطنية والنظام والقانون، التي لم يتحقق منا شيء حتى بعد مرور عقد من انتفاضتها، إلا أن حلمهم ما يزال حيًّا.
وضاح محمد (أحد الثوار الشباب)، يقول إن الحرب سرقت أحلام الثورة وأحلام اليمنيين بدولة النظام والقانون، وأعادت اليمن إلى ما قبل الثورة بسنوات كثيرة، ويضيف أن نجاح الثورة أو فشلها لا يقاس بعد عقد أو عقدين، لكنه يقاس بطبيعة الثورة وما كشفته من حقد دفين لدى القوى المتصارعة من أجل السيطرة ونهب قوت المواطن وأحلام الثوار، ويؤكد لـ"خيوط"، أن لكل ثورة ضريبة يجب أن تدفعها بالإكراه، وأن هذه الحرب ضريبة فبراير وستنتهي.