يوم الأحد 19 مايو/آيار 2024 دهمت العالم أنباء تفيد تعرض مروحية كانت تُقل الرئيس الإيراني، في منطقة جلفا الجبلية، شمال غرب إيران، لحادث، أدى إلى مقتل إبراهيم رئيسي، ثامن رؤساء الجمهورية الإيرانية، مع عدد من معاونيه، أبرزهم وزير الخارجية، أمير عبد اللهيان. وسواء أكان الحادث مُدبراً أم لا، فإن تداعياته على وضع إيران لن يكون لها حد، ولا يمكن الاستهانة بها، فقد كشف الحادث عن الكثير من حقائق حالة النظام الإيراني، وفتح الباب أمام أسئلة لا حصر لها بشأنها.
فإن كان الحادث مُدبراً، فهو ضربة قاتلة وخطيرة، ستشكل فاتحة لمستوى جديد من عمليات الاستهداف، غايتها تقويض النظام الإيراني، وتعطيل أدواره الإقليمية النشطة الرامية لاقتطاع مساحات وازنة لنفوذها على نطاق واسع من خارطة الشرق الأوسط، وفق تصور إيران الخاص بها لحدود مصالحها الجيوسياسية، المُعكِّرة لحالة الإذعان والاستلاب السائدة في المنطقة.
كشف المستور
وإن لم يكن حادث تحطم مروحية رئيس إيران مُدبراً، وكان محض حادث عرضي، فإنه حينذئذ لا يقل عن الاحتمال الأول في دلالات وأبعاد خطورته البالغة. فقد كشف ما كان مستوراً، على مدى عقود، من حالة الترهل والتقادم والضُعف التي باتت تعيشها بُنى وهياكل ووسائل النظام الإيراني، والذي بدا عاجزاً عن تأمين نقل رئيس الدولة، وعن تأمين سلامته، داخل مجاله الجغرافي، والأدهى من ذلك أنه قد بدا عاجزاً، لساعات طويلة، عن تحديد آخر موقع للرئيس، وعن الوصول إلى رفاته، قبل أن توكل مهمة تحديد الموقع والعثور على الجُثمان إلى مُسيرة أرسلتها الجارة تركيا، بعد تقديم إيران طلب المساعدة، والتي أنجزت المهمة، نهار اليوم التالي لوقوع الحادث، في ظرف أقل من ساعة واحدة، من بدء مهمتها.
وبمعزل عن مراسيم التشييع والدفن والتأبين، البروتوكولية، فقد كان من المثير للغرابة أن الأمور سارت داخل إيران، بصورة اعتيادية للغاية، أفصحت عن توجه النظام الإيراني للتعامل مع الحادث باعتباره حادثاً اعتيادياً، قبل إعلان نتائج التحقيق، وقبل معرفة مصير الصندوق الأسود للطائرة ومحتواه على أقل تقدير، وكأن مواطنا عاديا هو من قضى نحبه في حادث مروري بسبب القيادة المتهورة، لا رئيسُ دولة فاعلة كانت قبل أيام فقط من وقوع الحادث طرفاً في حرب إقليمية مُباشرة وشيكة الاندلاع، وطرفا غير مباشر في حرب متصاعدة منذ نحو سبعة أشهر، وكانت طرفاً في صراعات تمتد لعقود، ولا زالت مفتوحة على كل الاحتمالات.
واللافت كذلك، في الحادث، أن دولة غنية بالثروات الطبيعية كإيران تُعارك دولا قوية على المستوى الإقليمي والعالمي، وتخوض منافسة شرسة على النفوذ والمصالح، تفتقر إلى القدرة على إنتاج وسائل نقل حديثة وآمنة لرئيسها وقادتها، على الأقل الذين لقو مصرعهم خلال رحلة داخلية بينما كانوا على متن طائرة مُتقادمة صنعتها دولة مُصنفة باعتبارها دولة معادية، وأن تلك الدولة تفتقر كذلك إلى وجود نظام اتصالات خاص حديث ودقيق، وقادر على تحديد وتتبع المواقع، في كامل ترابها الوطني.
ابتداءً من الهجوم الإسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق، مرورا بما تلاه من تفاعلات، ووصولا إلى حادثة تحطم مروحية الرئيس الإيراني التي أدت إلى مقتله مع عدد من معاونيه، أبرزهم وزير الخارجية، تكشفت تباعا حقائق جديدة حول قوة إيران الحقيقية، جديدة ومغايرة كلياً للصورة الذهنية التي رسختها الدعاية الإيرانية والدعاية المُضادة لها باعتبارها فاعلا إقليميا قويا، يلعب أدوارا محوريةً، ومُرشحة للنمو، ومؤثرة في الشؤون الإقليمية والدولية.
والمثير للتساؤل والاستنكار في آن أن تلك الدولة التي بدت في أكثر مراحل الصراع خطورة في حالة من الضعف والهشاشة والانكشاف، بصورة غير مسبوقة، تضج دعايتها بأنها قد قطعت شوطا كبيرا من رحلة طويلة غايتها النهائية حيازة "أسلحة نووية،" باعتبار ذلك عنوانا لبدء مرحلة جديدة منشودة من القوة والنفوذ، ومحطةً غير مُزمنة لنهاية إستراتيجية "الصبر الإستراتيجي" أمام الاستهداف المتواصل من خلال سلسلة من الهجمات الإسرائيلية على منشآت إيران النووية، إضافة إلى سلسلة من عمليات الاغتيال التي طالت عددا من علمائها على مدى الأعوام الماضية، وباعتباره حاملا لوعود نظام الحكم بالقوة الجيوسياسية المستقبلية، وبنهاية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ونهاية الاحتقان الشعبي المتصاعد، والذي كان العنوان الأبرز لحالة الصراع المحتدمة بين أمريكا وإسرائيل والغرب وعدد من دول المنطقة من جهة، وبين إيران من جهة ثانية.
نمور ورقية
على امتداد عقود ظلت احتمالية قرب امتلاك إيران أسلحة نووية مسألة مثيرة لقلق الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل والغرب، ولعدد من دول الشرق الأوسط الأخرى، وقد تضاعفت المخاوف مع إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في العام 2018، انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات على طهران، ما أدى إلى خفض مبيعاتها النفطية وإلحقاق الضرر باقتصادها. ترامب كان انقلب على الاتفاق النووي لذي كان قد أبرمه مع إيران سلفه باراك أوباما بعد سلسلة طويلة من المفاوضات مع القوى الغربية في 2015.
وابتداءً من الهجوم الإسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق، مروراً بما تلاه من تفاعلات، ووصولا إلى حادثة تحطم مروحية الرئيس الإيراني، التي أدت إلى مقتله مع عدد من معاونيه، أبرزهم وزير الخارجية، تكشفت تباعا حقائق جديدة حول قوة إيران الحقيقية، حقائق مغايرة كليا للصورة الذهنية التي رسختها الدعاية الإيرانية، والدعاية المُضادة لها، باعتبارها فاعلا إقليميا قويا، يلعب أدواراً محوريةً، ومُرشحا للنمو ومؤثرا في الشؤون الإقليمية والدولية.
ومما أثبتته تجارب العديد من الدول أن حيازة أسلحة نووية وصواريح بالستية قادرة على حمل رؤوس نووية لا يدل بالضرورة على تصاعد قوة تلك الدول، كما أنها لا تقدم أي مؤشرات على تعافي تلك البلدان وبدء نهضتها. فلم يقف امتلاك الاتحاد السوفييتي لأكبر مخزون في العالم من الرؤوس الحربية النووية حائلا دون انهياره وتفككه. وعندما امتلكت الهند وباكستان أسلحة نووية بعد سباق تسلح طويل بينهما لم يدشن ذلك عهودا جديدة من النهضة والنمو والقوة والاستقرار والازدهار. ولم تُخرِج ترسانةُ الأسلحة الضخمة كوريا الشمالية من عزلتها وأزماتها الُمتفاقمة، ولم تسهم، على الأقل، في تأمين مكانة معقولة لنظامها الحاكم للتفاعل مع السياسات الإقليمية والدولية، لأن الأمر لا يتوقف عند حيازة أطنان من البارود وصاعق تفجير، بمعزل عن حيازة تكنولوجيا متقدمة، وتقنيات تجهيز وتوجيه، ونُظم تخزين وإدارة وتأمين، ووسائل وآليات نقل وصيانة وتشغيل وتطوير، وقبل ذلك وبعده، وجود اقتصاد متماسك وقادر على الصمود في وجه الصدمات، ووجود نظام حُكم وإدارة حديث وكفؤ يستند على شرعية ومشروعية سليمة.
ومما تقوله لنا سلسلة طويلة من التجارب أن النهوض الحضاري لأي بلد مشروط بجُملة من العوامل، يتصدرها النهوض السياسي المرتكز على الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في إطار المواطنة وسيادة القانون والعدالة والحكم الرشيد والإدارة الجيدة، وأن النُظم الشمولية التي تستهلك طاقات المجتمع من خلال تكتيكات قهر الأفراد والمجتمعات، وإخضاعهم، وتدجينهم وقولبتهم، حُبلى بعوامل الفشل والضعف والتخلف، وأنها محض خيالات ومحض نمور من ورق، مهما بدا أحياناً أنها خلاف ذلك.
إن إدراك تلك الحقائق المُستخلصة من رتل طويل من التجارب، وأخذها في الاعتبار، بمسؤولية وجسارة، في مختلف مراحل عمليات إنجاز التحولات الوطنية النهضوية والخلاقة يُمثل السبيل الأمثل والأرشد لتجنيب المجتمعات والدول، الكلفة الباهظة للمغامرات غير المدروسة والتي تستهلك طاقات وفرص أجيال عدة، في طرق لن تؤدي إلا إلى مآلات حتمية، معلومة بالضرورة، بصفتها قبورا جماعية أبدية، يستوطنها الخراب والضعف والتشظي والاحتراب والتخلف، طال الزمن أم قصر.