مع تزايد جمهور الدراما الكورية في الآونة الأخيرة، يأتي مسلسل "لعبة الحبار" على المنصة الترفيهية الأكثر شهرة حاليًّا "نيتفيلكس"، ليحصد أعلى نسبة مشاهدة على الإطلاق، ويحتل المركز الأول في الولايات المتحدة، كما تشير المنصة. وعلى الرغم من الشكوك التي تدور حول مصداقية "نيتفلكيس" في طرحها للأعمال التي تحتل المراكز المتقدمة -حسب وجهة نظرها- فإن المسلسل أثار جدلًا بالفعل.
على أن "لعبة الحبار" ليس متفردًا في طرح فكرة الألعاب والتحديات والتساؤل الدائم حول ماهية القوة، وغريزة البقاء، والسلطة المطلقة، والتغيرات التي تطرأ على السلوك الإنساني تحت ضغط معين، ومثل ذلك، فيلم "التجربة" الأمريكي للمخرج/ بول شويرينغ، والممثل الكبير أدريان برودي، المأخوذ من تجربة حقيقية تسمى "تجربة سجن ستانفورد" الشهيرة، بنهايتها المأساوية. وكذلك سلسلة الأفلام الأمريكية الشهيرة "مباراة الجوع"، المأخوذة من رواية الديستوبيا للكاتبة سوزان كولنز، والمخرج غاري روس، والتي تدور أحداثها في مستقبل بائس تقوم فيها مدينة الكابتول الغنية، بعقاب 12 مقاطعة فقيرة حاولت التمرّد يومًا ما، عن طريق مسابقات مميتة بين ممثلي المقاطعات، يبقى مشترك واحد فيها على قيد الحياة.
وبالمثل، فيلم "المنصة" الأسباني للمخرج غالدير غاستيلو، حول الطبقات الاجتماعية وإسقاطات الرأسمالية، يدور كذلك في سجن غامض من عدة أدوار، يتم فيه وضع سجينين في كل دور، ويتم إنزال الطعام فوق طاولة بشكل تسلسلي، فيأكل من هم في الطوابق الدنيا ما تبقى من الطعام، ويتحول السجن إلى فوضى عارمة بسبب الجوع.
قصة "لعبة الحبار"
تدور أحداث المسلسل في كوريا الجنوبية حول لعبة تسمى "لعبة الحبار"، يحاول المتسابقون فيها البقاء على قيد الحياة. تبدأ اللعبة بـ456 متسابقًا، وجائزة قدرها 45.6 مليار وون (أي ما يعادل 37 مليون دولار). مجموعة غير معروفة الهُوية تقوم باختيار المتسابقين بحسب نسبة ديونهم وحاجتهم للمال، وبعد أن يتم تخديرهم وأخذهم معصوبي الأعين إلى جزيرة غير معروفة، تنتظرهم هناك ملاعب عملاقة، ومحل إقامتهم شبيه بسجون المنفيين، تحت نظام وقوانين صارمة. ست ألعاب يتعين على 456 لاعبًا تجاوزها، وفائز واحد فقط هو من سيحصل على المبلغ الكبير بعد أن يتم إقصاء الخاسرين نهاية كل لعبة.
إلى جانب الإسقاطات السياسية الواضحة في المسلسل للدول الرأسمالية وأضحوكة الديمقراطية وحلم العدل والمساواة، يأتي الصراع الداخلي والأزلي للإنسان بين الخير والشر، ومشروعية مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
أبطال المسلسل
البطل الرئيسي للمسلسل هو رجل يدعى (سيونغ جي هون)، يؤدي دوره الفنان (لي جونغ جاي)، أربعينيّ متوسط التعليم من طبقة فقيرة، وبسبب تراكم ديونه لا يجد حلًّا سوى المقامرة والمراهنة على سباق للخيول، لكن حياته تزداد سوءًا، فيقرر الموافقة مرغمًا على بيع أعضائه. يظهر له رجل غامض في محطة القطار، ليعرض عليه المشاركة في لعبة بدت له في بادئ الأمر مقبولة. بقية الأبطال يعيشون على النمط ذاته من حياة (سيونغ جي)، وإن اختلفت في المضمون؛ فهناك (تشو سانغ)، الشاب المتعلم الذكي والمتخرج في جامعة "سول" الشهيرة، الذي يتورط في مسائل مالية في عمله يعجز عن حلها، تنتهي به الظروف هاربًا من الشرطة والمسائلة القانونية، خجولًا ويشعر بالعار والهزيمة، وقد أجاد دوره بشكل صادم للمشاهد.
ومن الشخصيات المؤثرة والمحبوبة في المسلسل، التي تمثّلت بشخص (علي عبدول)، الشاب الباكستاني الذي يمثّل المهاجرين محدودي التعليم في معاناتهم وهروبهم من أوطانهم بحثًا عن حياة كريمة، ليقعوا فريسة أنانية الشركات والمؤسسات. يفقد (علي) أصابعه في عمله، فيتم إقصاؤه من العمل بدون تعويض يعيل أسرته. أمّا الجانب النسائي، فيتمثل في شخصيتين أساسيتين، يمثلن حالة الإقصاء النسائي وتهميش المرأة في حقوقها كموظفة وعاملة، وفجوة المساواة في المجتمع، بسبب الحمل والولادة وانخفاض أجورهن مقارنة بالرجال.
يعرض المسلسل شخصيتين متناقضتين؛ إحداهن سارقة محترفة (كانغ)، وقامت بدورها بجدارة، الممثلة والعارضة (هويون جونغ)، شخصية حزينة تغلّفها القسوة لحماية نفسها، وتفتقد الثقة بمن حولها. والثانية (لي جي) المرأة الثرثارة والمضحكة، التي تبحث عن الحماية بأيّ شكلٍ كان، عكس الأولى تمامًا، فهي امرأة متذبذبة بين الخير والشر، نجحت في استفزاز المشاهد وإثارة حفيظته ومفاجأته حتى النهاية.
ولا تخلو الأعمال الدرامية من دور الأمهات اللائي يعكسن صورة الأم كريمة العطاء، عظيمة التضحية، سخيّة الحب، رغم الظروف والمحِنّ، إضافة إلى مشاركة الممثل الكوري الشهير (جونغ يو) كضيف شرف للمسلسل.
الرموز في المسلسل
حتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت النوستالجيا تصنف على أنها مرض نفسي لوصف الألم الذي يشعر به المريض نتيجة حنينه المفرط للوطن. لكن في بدايات القرن العشرين، انسحب هذا المصطلح من التشخيص الطبي، وحلّت محلّه تشخيصات مرضية أخرى، كالاكتئاب والقلق المرضي، وتحولت النوستالجيا لفكرة تعبيرية شاعرية تصف الحنين إلى الماضي وذكرياته. لعل هذه هي السمة الرئيسية للمسلسل، إذ عبر عن النوستالجيا المرضية كما كانت تُشخص للدلالة على خلل عقلي ما، فمعظم الأبطال يجمعهم الحنين إلى زمن البراءة والطفولة -أغنياء كانوا أو فقراء- يجمعهم الشغف ذاته الذي تآكل في قلوبهم كالصدأ المميت، فلوّث مشاعرهم النقية وشعورهم بالأمان.
يعبر معظم الأبطال عن رغبتهم بالعودة إلى الوطن. نحن نعلم أن للوطن دلالات مختلفة، وتعبير خاص في دواخلنا؛ الأم وطن، المنزل وطن، الأبناء وطن، الطفولة وطن، اللعب في الأزقة وطن، كلّ ما يشعرنا بالأمان وطن.
وهكذا فأبطال "لعبة الحبار"، حتى الأشرار منهم، غارقون في البحث عن وطنهم الخاص بهم، وإلى جانب الإسقاطات السياسية الواضحة في المسلسل للدول الرأسمالية وأضحوكة الديمقراطية وحلم العدل والمساواة، يأتي الصراع الداخلي والأزلي للإنسان بين الخير والشر، ومشروعية مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وفطرة البقاء والاستمرارية ما بين القتال والاستسلام من جهة، وبين الأنانية والتضحية من جهة أخرى.
الحوار في المسلسل من النوع الكثيف والخفيف في آن، وجاء مطاطيًّا سلِسًا ليناسب مختلف العقول بشتى ثقافاتها وقناعاتها. وينتهي المسلسل بالسؤال المحوري المهم: "هل ما زلت تمتلك الثقة؟"
العمل فنيًّا
خرج العمل بصورة فنية لافتة ومبهرة من نواحٍ عديدة، خصوصًا الواقعية التي تتميز بها الدراما الكورية في تصوير ونقل أعمالها وبيئتها؛ فالجانب الواقعي في أبهى صوره، تجلّى بالأسواق الشعبية والمحلات والمباني العملاقة، المنازل والأزقة والأرصفة والقطارات، ملابس الأمهات القديمة، عالمنا المتناقض بكل تفاصيله. أما الجانب الخيالي في المسلسل، فكان في الملاعب بجدرانها وأسرَتها، ورموز الأزياء وعلاماتها في لجنة كبار الضيوف، وفي الجنود المجهولين الذين نتوقع أن يكونوا متسابقين كذلك (من قاموا باختيار البطاقة الحمراء في البداية)، والفُتات من الطعام الذي قُدّم للمشاركين بعناية وذكاء.
إن زرع الخوف والجوع والقلق والحَيرة والحاجة والتعب، عوامل ستة، نستطيع من خلالها صنع وتيسير جيش متوحش لا يعرف الرحمة بين صفوفه، يدين بالولاء والطاعة العمياء، وهي العوامل التي توازي في نظري الخطايا السبع المميتة، التي مثّلتها "الشخصيات المهمة" تقريبًا، كما أُطلق عليها في العمل.
لقد حافظ المسلسل على رتم عالٍ وتصاعد سريع في الأحداث، ما عكس إثارة المُشاهد، فلا يشعر بالملل إلا في الحلقة الثانية ربما، التي خُصصت لتغطية خلفية وبيئة كل لاعب، فبدت مملة نوعًا ما، لكن سرعان ما تغيرت الأحداث وداهمنا الحماس في نهايتها، لتكمل بناء مسلسل شيق، يضع المشاهد في خانة اللعب والاختيار.
حقيقةً، لقد نجح المسلسل في نقل المكونات البصرية (مكياج، إضاءة، ديكور، ألوان)، وخلق انسجامًا سمعيًّا وحركيًّا من أجل إبهار المشاهد، إلى جانب التلاعب بالجمهور من خلال التقنيات الحديثة، والتي تتيح للجمهور التنقل بين المقاربة الفكرية والنفسية، وخلق شاعرية داخلية، رغم دموية العمل.
كتابيًّا؛ كان الحوار من النوع الكثيف والخفيف في آن، وجاء مطاطيًّا سلِسًا ليناسب مختلف العقول بشتى ثقافاتها وقناعاتها. وينتهي المسلسل بالسؤال المحوري المهم: "هل ما زلت تمتلك الثقة؟"، سـؤال يعصف بمشاعرنا بصمت وهدوء، وينجح المخرج والممثل معًا، في نقل أسراره لقلوب المشاهد من خلال عيني البطل وملامحه. وكما بدأ المسلسل بِرهان على مسابقة الخيول، يُختم كذلك بجملة مثيرة وحازمة: "أنا لست حصانًا".