بين مُقرر هنا ومحذوف هناك، عطلة هناك ويوم دراسي هنا، تتشتت أفكار الطفلة إبتسام (11سنة - رابع أساسي). انتقلت إبتسام برفقة أُسرتها من مدينة عدن إلى صنعاء أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، في واحدة من النتائج غير المرئية للشرخ الإداري الحاصل في قطاع التعليم.
تُسابق أم إبتسام الزمن لإلحاق طفلتها بصفوف مدرسة بصنعاء، لكنها ستحتاج لإجراء مقارنة بين الدروس التي تلقتها ابنتها خلال الأشهر الأولى من العام الدراسي 2020/2021، في عدن، وبين مقرّرات المنهج المدرسي لذات الفترة في صنعاء.
تقول لـ"خيوط"، إنها سوف تقوم بمراجعة الدروس (المفقودة) لطفلتها قدر الإمكان، معتبرةً ما وصفته بالانقسام التدريجي في حقل التعليم بين السلطتين في عدن وصنعاء، كارثة على الأجيال، وتفترض "أن يبقى موضوع التعليم على حياد".
بالتزامن مع احتفاء العالم باليوم العالمي للتعليم 24 يناير/ كانون الثاني، والمقرّ من الجمعية العامة للأمم المتحدة، تشجيعًا للتعلّم وتحفيزًا للمتعلمين/ات، يواجه التعليم في اليمن ضربات متتالية، متأثرًا سلبيًّا بمآلات قرابة السبع سنوات من الأزمات والنزاعات المسلحة وتبعات جائحة كوفيد-19.
حياة شاقة للمعلمين
يعد المعلمون أكثر شريحة تضررت في هذا القطاع، إذ دفع توقّف صرف مرتبات المعلمين/ات، بالكثير من هذه الشريحة للانخراط في أعمال وحرف يدوية أخرى شاقّة لسدّ جوع أطفالهم واحتياجات أسرهم المعيشية. يقول المعلّم حسن عبدالقادر لـ"خيوط"، إنه لجأ للعمل سائق باص أجرة (نقل داخلي)، في الفترة المسائية التي تبدأ بعد الظهر، لتأمين إيجار المنزل الذي يسكنه.
ويشير عبدالقادر إلى أنّ الكثير من زملائه أصبحوا نازحين "بلا مأوى" عند أقارب لهم، أو عادوا بأطفالهم للإقامة في منازل مهجورة في الأرياف، "وجدوا أنفسهم مهدّدين بالطّرد وإخراجهم إلى الشارع، من ملاّك المنازل"، بعد عجزهم عن تسديد الإيجار.
حسب مصادر رسمية، قُطعت مرتّبات نحو 200 ألف معلّم/ـة من القوى العاملة في قطاع التربية والتعليم منذ سبتمبر/ أيلول 2016، أي ما نسبته 64% من إجمالي الكوادر العاملة في حقل التعليم.
لا يبدو الوضع مختلفًا في المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا؛ فالحرب والاضطرابات الأمنية أسفرت عن تدمير عدد من المدارس والمرافق التعليمية
وتشير الأرقام إلى عدم تجاوز الساعات التعليمية التي تلقاها الطلاب عام 2017، 60% فقط من الساعات الدراسية، بنقص 40%، والحال ينسحب على السنوات التالية مع استمرار إشكالية انقطاع المرتبات.
رغم ارتفاع الرسوم المدرسية في المدارس الأهلية، وأسعار المستلزمات المدرسية بشكل عام، وشحّة الكتاب المدرسي، يكافح اليمنيون بشراسة لإبقاء أطفالهم منخرطين في العملية التعليمية.
يقول على النهمي، أحد أولياء الأمور في صنعاء لـ"خيوط"، إنه قام بشراء منهج مدرسي واحد (خامس أساسي) لطالبين اثنين في إطار الأسرة الواحدة، حيث تم وضع جدول تناوب يومي بين الأخوين في المذاكرة.
تزايد رقعة الأميّة
من محافظة إب (وسط اليمن)، يكشف رئيس جهاز محو الأميّة وتعليم الكبار التابع لحكومة صنعاء، فؤاد الشامي، سعي إدارته في هذا العام الدراسي إلى رفع عدد الملتحقين في صفوف محو الأميّة، من 45 ألف دارس/ـة إلى 350 ألف دارس/ـة، في مختلف المحافظات الواقعة تحت سلطة حكومة صنعاء.
ما كشف عنه هذا المسؤول من أرقام توضح حجم المشكلة التي تعاني منها اليمن نتيجة توسع رقعة الأميّة في هذه المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، مع دخول نحو 305 آلاف دارس/ـة دائرة الأميّة خلال العام الدراسي الجاري، وبنسبة ارتفاع مئوية بلغت نحو 87% عن العام الدراسي الماضي 2019/2020.
وجاء حديث رئيس جهاز محو الأمية وتعليم الكبار، في فعالية عامّة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أثناء تدشينه العام الدراسي الجديد لمراكز جهاز محو الأميّة وتعليم الكبار، بمحافظة إب، التي جاء نصيبها من أعداد المنخرطين في فصول محو الأميّة 60 ألف دارس/ـة.
في تفسيره للظاهرة الجديدة على قطاع التعليم، يرى هذا المسؤول، أنّ ارتفاع نسبة الأميّة جاء كنتيجة فعلية لاستمرار الحرب واستهداف المدارس "فضلًا عن إغلاق العديد منها أو استخدامها كمأوى للنازحين، ما أفضى إلى زيادة نسبة التسرب من المدارس وانخفاض نسبة الالتحاق بها".
بالنظر إلى مخاطر انعكاسات تفشّي الأميّة وآثارها الاجتماعية والاقتصادية على البلاد، فإن مواجهتها، يعد واجبًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا ومسؤولية تشاركية بين جميع أفراد المجتمع.
القرية المتعلمة والمدرسة المتعاونة
لا يبدو الوضع مختلفًا في المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا؛ فالحرب والاضطرابات الأمنية أسفرت عن تدمير عدد من المدارس والمرافق التعليمية، ناهيك عن توقف الدراسة في مناطق القتال، وجميعها عوامل "فاقمت الأزمة في الجانب التعليمي، وتضاعف عدد الأميّين".
لمواجهة انتشار الأميّة الأبجدية والصحية المتمثلة في انتشار كوفيد-19 في هذه المحافظات، يشير رئيس جهاز محو الأمية وتعليم الكبار في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، محمد الكلدي، في تصريحات صحافية، إلى خطّة سنوية وصفها بالطموحة، تتمحور فكرتها حول "القرية المتعلّمة والمدرسة المتعاونة".
لتنفيذ الخطة، قال الكلدي إنها تبدأ "بالتنسيق مع المدرسة في المنطقة أو القرية، لفتح المدرسة أمام كبار السن، وتفريغ عدد من طلاب الثانوية العامة وطلاب الجامعة، لتأدية مهمّة التعليم تطوعيًّا، وبالتالي تحديد تلك القرى/ المناطق كمساحات خالية من الأميّة".
وصرّح المسؤول التربوي بتحريرهم عدد (27) ألف دارس/ـة في فصول محو الأميّة خلال العام 2019/2020، منوهًا إلى تأسيس إدارة التعليم المستمر (مدى الحياة)، وتعني "فتح فصول تكميلية للمنقطعين عن الدراسة والمتسرّبين ذوي الأعمار من 20 إلى 45 سنة، لاستكمال المراحل الأساسية والثانوية والجامعية".
الانقسام الإداري الحاصل في قطاع التعليم، والنزاعات المسلّحة والأزمات المتشعبة، أسفرت عن تداعيات كارثية صادمة، تعزّز من فرص زحف الأميّة واتساع دائرة الفقر وتخلّف الأطفال والشباب والكبار عن ركب الحياة المتسقة مع العالم
تأثر مليوني طالب بإغلاق مئات المدارس
تقارير رسمية لوزارة التربية والتعليم في صنعاء، أشارت إلى إغلاق 756 منشأة تعليمية، منذ مارس/ آذار 2015، وحتى أبريل 2020، إمّا بسبب الغارات الجوية لطيران التحالف العربي، أو وقوعها في مناطق الاشتباك، أو بسبب استخدامها لإيواء النازحين، منوهةً إلى تأثر قرابة مليوني طالب بذلك في أنحاء اليمن.
في سياق متّصل، وثّق تقرير "تقويض المستقبل"، وهو تقرير مشترك لمنظمة "مواطنة" لحقوق الإنسان ومركز "سيزفاير" لحقوق المدنيين، 380 هجمة على منشآت تعليمية في اليمن، ما أدى لتدميرها كليًّا أو جزئيًّا، منذ مارس/ آذار 2015، حتّى ديسمبر/ كانون الأول 2019.
وإلى ذلك توقّع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي انخفاض نسبة الالتحاق بالمدارس الابتدائية في اليمن إلى 41.5%، مشيرًا إلى وجود "36% من الفتيات في سن الدراسة، و24%من الأولاد جميعهم لا يذهبون إلى مدارسهم/ـن".
وأضاف: "دمّر النزاع مئات المدارس، حيث تضررت أكثر من 1500 مدرسة بسبب الغارات الجوية أو القصف".
التعليم حقّ إلزامي
في مادته الـ(54) ينص دستور الجمهورية اليمنية على أنّ "التعليم حق للمواطنين جميعًا تكفله الدولة بإنشاء مختلف المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية، والتعليم في المرحلة الأساسية إلزامي"، ويلزم الدستور الدولة بالعمل على محو الأميّة والتوسع في التعليم الفني والمهني.
ووفق المادة 28 من اتفاقية حقوق الطفل، فاليمن مُلزمة بإعمال حقّ الطفل في التعليم، بجعل التعليم الابتدائي إلزاميًّا ومتاحًا مجانًا للجميع، وتشجيع تطوير شتّى أشكال التعليم الثانوي، وإبقاء التعليم العالي متاحًا للجميع.
أدبيات ووثائق الأمم المتحدة تؤكد من جانبها أنّ التعليم حق من حقوق الإنسان، وهو حقّ تنص عليه صراحة المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تدعو إلى التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي.
وتقول بيانات ووثائق الأمم المتحدة إنّ ما يقرب من 265 مليون طفل ومراهق في العالم لا تتاح لهم الفرصة للدراسة أو حتى إكمالها، ومع أنّ أكثر من خُمسهم في سن التعليم الابتدائي، إلاّ أنهم محبطون بسبب الفقر والتمييز والنّزاعات المسلحة وحالات الطوارئ وآثار تغير المناخ.
وفي البلدان النامية، تشير الوثائق الأممية إلى وجود 57 مليون طفل في سن التعليم الابتدائي غير ملتحقين بالمدارس.
بالعودة إلى اليمن، فإنّ الانقسام الإداري الحاصل في قطاع التعليم، والنزاعات المسلّحة والأزمات المتشعبة، أسفرت عن تداعيات كارثية صادمة، تعزّز من فرص زحف الأميّة واتساع دائرة الفقر وتخلّف الأطفال والشباب والكبار عن ركب الحياة المتسقة مع العالم، وتمهّد جميع حلقات الكارثة هذه، لمخاطر مستقبلية ما يزال بالإمكان تداركها اليوم بأقلّ كلفة ممكنة.