كان من الممكن أن نكون اليومَ محتفلين بعيد الوحدة كما يحتفل الألمان مثلًا. ألمانيا اليوم تشكّل أكبر اقتصاد في أوروبا، وهي التي تقود القاطرة الأوروبية، التي تتقاذفها مشكلات بنيوية وسياسية وعنصرية ورياح عاتية بفعل تحولات العالم الجارفة. بينما تشكّل اليمن اليوم بؤرة من الفقر والجوع والمرض والخوف. كوكتيل من الحروب متعدّدة التسميات والشعارات والتجار والبيادق الأسيرة للماضي.
بين الوحدة اليمنية والألمانية أيام زمنية لا تتعدى 75 يومًا بالعدة، لم تهبّ القبائل الجرمانية لاستعادة ماضيها حتى ما قبل (بسمارك)، بل هبت الدولة (المؤسسة) الألمانية لتقرب مستوى المواطنين الشرقيين من الغربيين، بينما هبت دولة القبائل اليمنية لتحيل الجنوب إلى (حديدة) أخرى، على أقرب توصيف، هنا يتجلى الفرق بين عقول رجال الدولة واللا دولة.
أقل ما يمكن القول عن حالنا، أننا أدمنّا حياة المآسي والانقلاب والفيد. الحروب هي إنجازنا الذي لا يبارينا فيه أحد. القتال والغلبة إرثنا ولن ينازعنا عليه منازع، فنحن نجيد دائمًا تسمية الأمور بأسماء غريبة، ونرفع لها شعارات أشدّ غرابة.
قتلنا الجمهورية ورفعنا شعار الجمهورية أو الموت، لنكتشف بعدها الفاجعة، والأمر نفسه فعلناه مع الوحدة. الوحدة أو الموت، ماتت الوحدة بفعل فاعل، ومرة أخرى بدأنا نندب حظنا. لماذا ليس: الوحدة والحياة؟
"الوحدة معمدة بالدم"، يا للهول! لم يستطع الدم أن يتخثر واستمر في الجريان حتى اليوم، الكل لا يجيد سوى الاعتماد على الغلبة عندما تكون الدولة مجرد فكرة، والقبيلة وتحالفاتها واقع متشعب يتجاوز حدود المكان ومدركات المعقول.
تزييف الوعي
يذهب المؤرخون المدرسيّون إلى التأكيد أنّ إعادة توحيد اليمن حدثت ثلاثًا وعشرين مرة، من بينها وحدة 22 مايو 1990، بينما النقديون لم يضعوا سؤال كم مرة أعيد التوحيد، بل لماذا حدث ذلك؟ لماذا لم يستمر تواتر الدولة وتعاقب الحكام عليها وهي موحدة؟ أو: لماذا لم يتم توحيد الدويلات الناشئة في دولة واحدة، بدلًا من أن تحل أخرى محلها؟
يحاول المدرسيّون تزييف وعي الناس، وكأن الحديث يجري عن موضوع واحد ودولة واحدة معروفة باسمها وحدودها، وعاصمتها وعملتها التي يتم إعادتها في كل مرة.
لقد تعاقب على حكم مصر أكثر من 150 فرعونًا، وغير الحديث عن توحيد مصر العليا والسفلى مرة واحدة لم يجرِ الكلام عن إعادة توحيد، بل ظلت الدولة نفسها حتى اليوم، توسعت الدولة المصرية خارج حدودها كثيرًا، ولكنها حافظت على أراضيها ولم تتمزق إلى دويلات.
الحديث عن اليمن الطبيعية، في الأساس، هو حديث عن منطقة جغرافية شاسعة جدًّا، أُطلق عليها العربية الجنوبية، تمتد من عدن إلى ظفار في عمان، ومن البحر العربي إلى حدود الشام. لكن هذا الوضع لم يعد قائمًا، ولا يمكن مجرد التفكير فيه، في العصر الراهن.
في المنطقة المذكورة، نشأت دولٌ كبيرة فعلًا، مثل سبأ ومعين وحمير وحضرموت وأوسان وقتبان وغيرها، لكن المعروف تاريخيًّا أنّ نشوء هذه الدول لم يكن تعاقبًا للطبقات الحاكمة وانتقالًا من طور إلى آخر في شكل وبناء ونظام الدولة السياسي، ولكن هذه الدول كانت تنشأ على حساب بعضها البعض، حتى تتمكن إحداها من القضاء على الأخرى، وتتكرّر العملية مرات ومرات. وبظهور هذه الدول فإنّها لا تغطي بالضرورة كامل المنطقة المشار إليها، بل تتقلص المساحة وتتغيّر الحدود باستمرار.
وحتى دولة أسعد الكامل الممتزجة حكاياتها بكثير من الأساطير، لم تدُم كدولة موحدة، أكثر من خمسين عامًا، هي فترة حكم أسعد الكامل ثم تفكّكت بعد وفاته على أيدي ورثائه.
وفي عهد الرسول لم تكن المنطقة ولاية واحدة بل عدة ولايات تتبع المدينة ثم عاصمة الخلافة لاحقًا. وهكذا، وخلال الفترات اللاحقة من سقوط الدولة الإسلامية، برزت دول ودويلات كثيرة تعبر عن طموحات الأمراء الجدد وضعف الأمراء القدماء، وكانت عمليات الظهور والاختفاء قائمة على قوة وطموح القادم الجديد. أي إنّ أيٍّ من الدول لم تظهر ولم تضم مناطق جديدة إلى سيطرتها بدون العنف والنهب، ثم يأتي من يخبرنا بأنّ الوحدة عملية تاريخية ثابتة وسمة مميزة.
باستمرار، تظهر دولٌ جديدة بعواصم جديدة ومسميات جديدة منقطعة عمّا سبقها ومعادية لها، ومن الممكن الرجوع إلى كتب، مثل الواسعي والشماحي وغيرهما.
المجادلة بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية، بين الناس في هذه الأقاليم والمناطق، ليست دليلًا كافيًا على الوحدة بقدر ما هي دليل على الحاجة إلى تبادل المنافع، كما هو بين كلّ الدول، كما أنّ ما يقال بأنه وحدة اجتماعية واقتصادية، ليس أكثر من دليل على ضعف النظم السياسية لتلك الدول، وعدم قدرتها على فرض سطوتها خارج حدودها، وبالتالي فقد شكّلت الدويلات الأخرى ملاذًا آمنًا للفارّين من هذا الحاكم أو ذاك.
(22 مايو) الاستثناء
مثّلت وحدة 22 مايو 1990، استثناءً في التاريخ. هي المرة الوحيدة التي يتفق فيها طرفان معلومان تسميةً وحدودًا ومجالًا حيويًّا، على الاندماج في دولة واحدة، اتفق على تسميتها "الجمهورية اليمنية" بدلًا من مسماهما السابقان، وهذا لم يحدث سابقًا ولا في أيّ صورة.
تبادر إلى أذهان الناس أنّ الدولة الجديدة قد أعلنت القطيعة مع سيئات الماضي البعيد والقريب، وأنّ شعارات النظامين السابقين سقطت من أيدي حملتها، وحلّت محلها شعارات البناء والشراكة والمستقبل.
كان ذلك أضغاث أحلام، فسرعان ما رُفعت شعارات التكفير وسيوف الاغتيال لتحصد رؤوسًا كثيرة، وتذكر القوم أنهم "أولو قوة وبأس شديد"، ولم يتذكروا حينذاك أنّ بلقيس لم تركن إلى من استشارتهم لأنّ لديها من الحكمة ما تجاوزت به اللحظة الماثلة، وتناسوا في خضم ذلك كلّ حادثات التاريخ. أكّدت الأيام أنّهم لا ينتمون لأولئك القوم، وكبيرهم ليس بلقيس، ولكن شخصٌ آخر لا يمت لها بصلة.
في 27 أبريل 94، أعلنت الحرب التي أرخ لها من نفس المتراس المعدّ سلفًا. فأتت الحرب عكس كل شيء حلم به الناس من الحرية والأمل وأسباب المستقبل. صارت الوحدة مضرجة بالدماء، قتيلة الفيد هم (أولو بأس شديد)، لكن ليس بدون محفزات شخصية. لقد فشلت سيول الدماء المهدورة في صنع دولة مستقرة وناهضة.
جرّت الحرب حربًا وحروبًا شتى، وأينعت الآلام آلامًا أخرى أكثر وجعًا. لقد تخلّف واقع جديد بمقتضيات الحروب والدماء والدمار، المخرجات تشبه مدخلاتها، النتيجة معللة بالسبب.
نفس القوم يبكون اليوم على أطلال الوحدة التي وأدوها ذات صيف، وقد صاروا أشتاتًا في المنافي البعيدة، يذكرونك بالقوم الذين نكل بهم (هادريان)، فهاموا معتزلين على شواطئ دجلة.
جُلّهم عالقون، كلٌّ في الشراك الذي صنعه بيديه، لقد فات القوم أنّ حل المشكلات يقوم على فهم الأسباب لا النتائج. سأل صديقي: على أيّ جمهورية يتباكون اليوم، على جمهورية سبتمبر أم جمهورية نوفمبر أم جمهورية أكتوبر 1977؟! إنّهم بالقطع لا يبكون على وحدة 22 مايو، بل على فقدان مكاسب حرب 94، لا يشعرون أنّهم خسروا شيئًا في حرب الثماني هذه، نحن فقط من يخسر دومًا.
وحده مصطفى النعمان -تقريبًا- ظلّ بروح الزاهد بعيدًا عن تلك الشراك، لذلك هو الوحيد الذي لديه خطاب عقلانيّ يتمثّل الواقع القائم على الأرض، تقريبًا هو الوحيد بينهم الذي لم يقل إنّ حرب 94 كانت بسبب إعلان البيض "فك الارتباط"، والوحيد تقريبًا الذي يتذكّر أنّ ذلك الإعلان جاء بعد 24 يومًا من إعلان الحرب من ميدان السبعين، وهو الوحيد الذي لم يرضَ أن نكون أسرى للحرب عند بعضنا.
عن أيّ وطن موحد نتحدث والغرباء يرجون منّا أن نطلق أنفسنا من الأسر، أليس ذلك هو "انحطاط أخلاقيّ"، كما قال النعمان؟ فالتفاوض على تبادل المواطنين الذين اندفعوا في أتون الحرب بفعل الفاقة وإهدار الحقوق، هو مؤشر "على الدرك الأسفل الذي بلغه اليمنيّون وتطرفهم في العداوة والخصومة". وهو الوحيد الذي يعي معنى أن يطلق الجميع. نحن، إذن، لا نحب النعمان، كما لم نحب الجاوي وابن شملان والبردوني وابن غانم وابن همام والربادي من قبل، كثيرون لم نحبهم!
يعود مايو حزينًا كعادته، ليس على نفسه ولكن على الآمال التي جرفتها عقلية الغلبة. كل الشهور والأيام من تجاربها وتكرارها تدرك أنّ القوة الجافة النزقة والمنفلتة يمكنها أن تدمر كلّ شيء، لكنّها ليست بقادرة على بناء دولة، وأكثر من ذلك، هي غير قادرة على الوحدة بمفهومها الإنساني السامي، هي أقدر على الوحشة. لقد أضعتم الوحدة في صنعاء؛ فلماذا تبحثون عنها لدى الآخرين؟
من بداية السطر، نقول:
ليس لدى الآخرين وقتٌ لمشكلاتنا؛ العالم منشغل بما هو أهم منّا بالنسبة إليه، إنّه مشغول بالصراع الوجودي والهيمنة. نحن مجرد تفصيل بين تفاصيل كثيرة غير مهمة.