هناك تناقض شديد في المجتمع اليمني من حيث حبه الشديد للفن من جهة، ونظرته الدونية لمن يمارس العزف والغناء من جهة أخرى. وتعود هذه النظرة الدونية إلى بعض آراء رجال الدين المتشددين الذين أفتوا بتحريم الغناء والطرب. ولتأكيد فرضية التحريم، فقد حيكت الكثير من القصص والروايات والأساطير المتعلقة بالعزف والغناء، التي تحاول أن تظهر أن مزاولي الغناء والعزف يمارسون شيئًا يغضب الله، وأن الغناء والطرب يفتح باب الفتن والمجون، ويقطع الرزق، وما إلى ذلك من التخيلات السلبية، التي انتشرت في المجتمع، وأثّرت سلبًا على الفن والفنانين.
لله ما يحويه هذا المقام
نجد هنا وصفًا لإحدى الجلسات الفنية، حيث يجتمع الغناء مع المُدام بوجود الأصدقاء المحبين للحياة بعيدًا عن التزمت، في أجواء مغيمة تحت ظلال الأشجار.
لله ما يحـــويــه هــذا المقــام تـجـمّـعــتْ فـيـه الـنـفايسْ
حبيب حـازَ اللطف والانسجـام حـالي الشمائل ظبي آنـِسْ
وإخوان مالوا عن طباعِ اللئام وزيّــنــوا تـلـكَ المجالس
والشمس غطـت وجهها بالغمام كـتـغـطـيـة وجه العرائس
والروض لابس من زهور الكمام في رؤوس أغصانه قـلانس
ففضّ عن دنّ السلاف اللئام واسقني خــامس وسـادس
ما يشرح الأرواح غيـر المُدام فــلا تـكُـنْ للكاس حابسْ
واسمع فقد ناداك صوت الحمام من فوق الأغصان الموايس
يقول غنِّ وا حليف الغرام وساجل الورقاء وجانس
هذه الأغنية التي كتب كلماتها القاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي، يتناقل التراث الشعبي الشفوي الكثير من القصص حولها، التي ترتبط باللهو.
وهناك قصة الشيخ جابر رزق، أحد أهم رموز الصوفية في تهامة واليمن، الذي سمع القاضي أحمد الردمي قصيدة (يا دائم الإحسان) ينشدها أحد منشدي صنعاء، فيعجب بها أشد الإعجاب، فقيل له إنها للشاعر جابر رزق، فقال القاضي الردمي: "إنما أمر الهداية بيد الله، يهدي بها من يشاء من عباده"، حيث كان القاضي الردمي يُعِدّ الفنان جابر رزق واحدًا من رجال المجون واللهو والطرب والخلاعة!
الفنان الشيخ سلطان آل هرهرة انتقل إلى العيش في الهند، وكان يجيد الغناء الهندي لدرجة أن الهنود أنفسهم كانوا يطربون لغنائه، وقد كانت الفتيات الهنديات يولعن به عشقًا ويتنافسن على النيل من قلبه ووده؛ مما أدى بإحدى عشيقاته إلى دس السم له، وقتلته بدافع الغيرة.
شيخ الطرب الذي مات مسمومًا
يحكى عن الفنان والشاعر (يحيى عمر)، المعروف بـ: أبو مطلق، وأبو معجب، والمقنبس نسبة إلى آلة العود اليمني (القنبوس/ الطربي)، الذي ارتبط اسمه بالأغنية اليافعية، والذي كان يتنقل بين اليمن والهند؛ أنه كان صاحب علاقات غرامية نسائية كثيرة، حتى إنه كان سيتزوج ابنته دون أن يعلم، لولا تدخل القدر وإيقاف تلك الزواجة.
وهذا الفنان الشيخ سلطان آل هرهرة، انتقل إلى العيش في الهند، وكان يجيد الغناء الهندي لدرجة أن الهنود أنفسهم كانوا يطربون لغنائه، وقد كانت الفتيات الهنديات يولعن به عشقًا ويتنافسن على النيل من قلبه ووده؛ مما أدى بإحدى عشيقاته إلى دس السم له، وقتلته بدافع الغيرة.
في مدينة (عدن) المدينة المتحضرة المنفتحة، لم يرتبط الفن بمفهوم العيب والحرام، هذا بالرغم من محاولات رجال الدين التقليديين نشر فكرة العيب والحرام للغناء، فقد حضر فريد الأطرش إلى عدن في 10 فبراير عام 1956، ومكث أسبوعًا أحيا خلاله عددًا من الحفلات، وكان يرافقه كلٌّ من فؤاد الأطرش، والراقصة سامية جمال، والممثلة إيمان، والمنولوجست ثريا حلمي، وقبل حضوره إلى عدن تعرض لهجوم شرس من قبل رجال الدين المتزمتين، رافضين هذه الزيارة، التي -في نظرهم- ستؤدي إلى الانحلال الأخلاقي للشباب. وتم تخصيص يوم للنساء بعد معركة شرسة بين رجال الدين وبين نساء عدن، التي انتصرت فيها نساء عدن لحقهن في حضور الحفل.
هذه الروايات والقصص جعلت الذهنية اليمنية تؤطر الفن في باب المجون واللهو والحرام، وبكل أسف نجد أن هذه النظرة السلبية للفن، أثرت حتى على الأشخاص الذين يمارسونها، فنجد أحدهم يقول إنه تاب عن الغناء، وكأن الغناء ذنب وجبت التوبة عنه، وآخر يرفض أن تسجل أغانيه وتبث لأنه يحافظ على مكانته الاجتماعية. وهناك الكثير من القصص والروايات التي تبرز معاناة الفنانين اليمنيين مع نظرة العيب والحرام هذه.
في أبين، يذكر الفنان محمد ميسري، أنه تعلّم العزف على يد مدير مدرسته، إذ كانا يمارسان الغناء في غرفة المدير بالسر، بعد أن يغلقا الأبواب والنوافذ جيدًا، خوفًا من أن يسمعهم أحد، وتقل هيبته أمام الناس إذا عرفوا أن مدير المدرسة يمارس الغناء والعزف، وفي أحد الأيام قام أمير المنطقة باستدعاء المدير ليستمع لعزفه، فشعر المدير بأن الأرض تدور من حوله، وشعر بمصيبة كبيرة، كيف عرفوا أنه يمارس الغناء، وما هي ردة فعلهم تجاه مدير مدرسة يربي الأطفال وهو يمارس الفن.
وهناك قصة الفنان (علي الخضر)، الذي اكتشف موهبته في الغناء وهو طالب في مصر نهاية أربعينيات القرن المنصرم، عندما نظمت وزارة المعارف المصرية رحلة ترفيهية خارج القاهرة إلى مرسى مطروح، أقيم خلالها حفل غنائي، وقد قام الفنان علي الخضر خلالها بتقديم أغنية للموسيقار (محمد عبدالوهاب) والموسيقار (فريد الأطرش)، وفي نهاية الحفل أبدى نقيب السينما المصرية الأستاذ/ محمد عبدالعظيم إعجابه بأداء الفنان الخضر، وأعطاه كرته الشخصي ليتواصل معه، لكن زملاء الخضر نصحوه بعدم الذهاب إلى النقيب/ محمد عبدالعظيم، حيث ربما يصل الخبر إلى مسامع (الإمام)، حينها سيقوم بإلغاء المنحة ويعاقبه؛ لأنه سيعتبر ذلك إساءة لليمن وتشويه لسمعة الدولة.
ممارسة العزف والغناء في مدينة لحج لا تحظى بنفس التحريم أو العيب الذي كان في صنعاء، إلا أن رجال الدين المتزمتين كانوا ينتقدون ممارسة الفن؛ مما جعل القمندان يؤلف كتابه (فصل الخطاب في إباحة العود والرباب)، الذي يدافع فيه عن الفن والغناء والمعازف، إلا أن رجال الدين المتشددين لم يعجبهم هذا الكتاب، وقاموا بالرد عليه في أكثر من موضع.
فصل الخطاب في إباحة العود والرباب
في ظل حالة التشويه هذه للفن، نجد بالمقابل بعض الفنانين اليمنيين من تحدوا هذا الوضع، ومارسوا الفن، وأثبتوا أن الموسيقى والغناء فن راقٍ وليس حكرًا على طبقات اجتماعية معينة، وأن الفن يمثل الهوية الثقافية لأي مجتمع ووجهه الحضاري. كان أشهر من تحدى هذه النظرية السلبية وقاومها هو الأمير الشاعر أحمد بن فضل العبدلي (القمندان)، من الأسرة الحاكمة، وشقيق السلطان عبدالكريم فضل سلطان لحج، فقد قام القمندان بمزاولة العزف والتلحين والغناء، ويعتبر مؤسس الأغنية اللحجية الحديثة، وأسس أول فرقة فنية في السلطنة، وبالرغم من أن ممارسة العزف والغناء في مدينة لحج لا تحظى بنفس التحريم أو العيب الذي كان في صنعاء، فإن رجال الدين المتزمتين كانوا ينتقدون ممارسة الفن؛ مما جعل القمندان يؤلف كتابه (فصل الخطاب في إباحة العود والرباب)، الذي يدافع فيه عن الفن والغناء والمعازف، إلا أن رجال الدين المتشددين لم يعجبهم هذا الكتاب، وقاموا بالرد عليه في أكثر من موضع، فقد قام محمد باحميش بالرد على كتاب القمندان، كما أن محمد العطاس قام بتأليف كتاب (رؤية المصاب في الرد على فصل الخطاب)، وقام الشاعر والناقد عبدالمجيد الأصنج بالرد شعرًا على كتاب القُمندان.
كما أن انخراط العديد من أبناء الأسر الرفيعة في ممارسة العزف والغناء وممارستهم لها في العلن متحديين بذلك التزمت الديني والاجتماعي للمجتمع اليمني تجاه الفن، أدى إلى تغيير النظرة حول من يمارس مهنة الغناء والعزف.
في مدينة (صنعاء)، اتجه محمد حميد الدين، المعروف بـ(أبو نصار)، وهو من آخر الأسر الملكية التي حكمت اليمن قبل سبتمبر 1962 (أسرة حميد الدين) التي كانت تحرم الغناء، اتجه (أبو نصار) إلى ممارسة الغناء والعزف، وكان يغني من أشعار أخيه (يحيى حميد الدين)، ولقد مارس السياسة من خلال انتقاده للنظام الجمهوري في بعض أغانيه. وقد لقي تشجيعًا من أفراد أسرته التي تعتبر من طبقة الهاشميين، التي تعتبر نفسها أعلى الطبقات الاجتماعية في اليمن.
الإمام أحمد لم يكن بنفس التشدد الذي كان يبديه والده (الإمام يحيى)، حيث تم في عهده افتتاح إذاعة صنعاء في منتصف الخمسينيات، وكانت تقوم ببث بعض الأغاني الوافدة، خاصة المصرية، وإن كانت بنسبة قليلة جدًّا. تم فيها أول تسجيل للأغاني في صنعاء، حيث طُلب من الفنانين التسجيل في استوديوهات الإذاعة، فلم يتجرأ أحد للتسجيل سوى الفنان قاسم الأخفش، الذي ينحدر من الطبقة الهاشمية كذلك.
وفي حضرموت، يعتبر السلطان بن الشيخ علي آل هرهرة من أسرة ذات مكانة اجتماعية مرموقة لها نفوذها ومركزها الاجتماعي، وهو أول من أدخل آلة العود اليمني (القنبوس/ الطربي) إلى حضرموت، وكان أعجوبة زمانه وعصره في العزف على هذه الآلة.
بعد قيام ثورة سبتمبر وأكتوبر، حصل تحول كبير في المجال الفني الغنائي في اليمن، حيث برز الفن والفنانون، وتم تشكيل الفرق الموسيقية الوطنية، وإقامة المهرجانات الفنية الجماهيرية، واستدعاء كثير من الفنانين العرب لإقامة حفلات موسيقية، وإضافة مادة التربية الفنية في المنهج الدراسي.
تحول كبير في المجال الفني الغنائي
ممارسة العزف والغناء من قبل أفراد من أسر الطبقات الاجتماعية العليا، لم يهبط من مكانتهم الاجتماعية، وإنما أدى إلى رفع المكانة الثقافية للفن. فسابقًا كانت بعض الأسر التقليدية تنظر إلى من يمارس العزف والغناء نظرة اجتماعية قاصرة، تحت مبررات الحرام والعيب الاجتماعي، حيث يرتبط الفنان لديهم بنوع من الانحلال الأخلاقي، قد لا تقلل ممارسة العزف والغناء من مكانة الفنان الاجتماعية الطبقية، لكنها تقلل من احترامه الشخصي لدى بعض الأشخاص التقليديين، وهذا ما حصل مع شاعر الصوفية وإمام الوشاحين، الشيخ جابر رزق الذي هام عشقًا بفتاة من قريته، وعندما تقدم لخطبتها رفض أهلها بحجة أنه يمارس الغناء والعزف؛ مما جعله يترك قريته منتقلًا للعيش في صنعاء، قبل أن يستقر في تهامة.
بعد قيام ثورة سبتمبر وأكتوبر، حصل تحول كبير في المجال الفني الغنائي في اليمن، حيث برز الفن والفنانون، وتم تشكيل الفرق الموسيقية الوطنية، وإقامة المهرجانات الفنية الجماهيرية، واستدعاء كثير من الفنانين العرب لإقامة حفلات موسيقية، وإضافة مادة التربية الفنية في المنهج الدراسي، وأصبح الفنانون نجوم المجتمع، وتغيرت النظرة لهم ولفعلهم، وأصبح للفنان تقديره ومكانته الاجتماعية، بعيدًا عن مكانة أسرته الطبقية، واستمر هذا المد الفني في شمال الوطن وجنوبه إلى نهاية القرن العشرين، حيث شهدت بعدها الساحة الفنية انتكاسات فنية متتالية؛ فمن قيام الحكومة بإلغاء مادة التربية الفنية في المدارس إلى عدم قيام المؤسسة الثقافية الرسمية باستقطاب وجوه فنية شابة وتقديمها للجماهير، مرورًا بالحياة البائسة والضائقة المالية التي يعشيها كبار الفنانين، وغيرها من الأسباب التي أدّت مجتمعةً إلى انتكاسة جديدة للفن الغنائي اليمني، وأصبح فنانو الجيل الحالي عبارة عن مغنّين في قاعات الأفراح والمخادر، ومن أراد أن يستمع إلى فنان مباشرة، فليس أمامه سوى الذهاب إلى إحدى قاعات الأعراس أو المخادر.